أخبار العالمالجزيرة

حرب سترسم مستقبل الصراع

سياسة

حرب سترسم مستقبل الصراع

مَاجد إبراهيم

صحفي فلسطيني

4/4/2024كتائب القسام المصدر: من الموقع الرسمي للقسام

حينما اجتاح المئات من مقاتلي حماس القواعد العسكرية والمستوطنات المحيطة بقطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فقد كانوا بذلك يرسمون بـ “طوفانهم” مرحلة جديدة للصراع ليس على المستوى الفلسطيني فحسب، بل وعلى المستوى العربي والعالمي.

اليوم وبعد مرور نحو ستة أشهر على هذا الحدث الضخم، واستمرار العدوان الإسرائيلي الوحشي والمجرد من الأخلاق والإنسانية على الشعب الفلسطيني، تتشكّل مواقف على المستوى الفلسطيني- الإسرائيلي، وعلى المستوى الدولي، وإن بشكل أقل على المستوى العربي.

لم يعد شكلُ الصراع كما كان من قبل، ولم تعد تداعياته وتأثيراته محدودة أو كامنة، فيما لا تزال مفاعيله مستمرة لتشكيل مواقف لم يكن يتصور أن تحصل من قبل.

صراع وجود

من أبرز وأهم تداعيات الحرب الحالية، أنها أكدت وبما لا يقبل الشك أن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي هو صراع وجود. وإن كانت هذه القناعة الفكرية موجودة لدى فريق من الشعب الفلسطيني الذي عانى من ويلات الاحتلال، فيما تماهت هذه الفكرة عند فريق آخر تحت مسمّى الواقعية والتعايش، إلا أن هذا المبدأ ترسخ الآن على مستوى المحتلّين على الأرض الفلسطينية، وبشكل غير مسبوق في تاريخ الصراع.

في الحقيقة، فإن فكرة السلام أو التسوية والتعايش، ضمرت إلى حد بعيد عند الفلسطينيين حتى قبل 7 أكتوبر/تشرين الأوّل بعد أن فشل اتفاق “أوسلو” بعد أكثر من 30 عامًا من توقيعه في انتزاع أي تنازلات من الطرف الإسرائيلي، وتم القضاء على أي أمل بحصول الشعب الفلسطيني على دولة مستقلة كحد أدنى من الطموح وعلى 22% من أراضيه المحتلة!

تحوَّلت السلطة الفلسطينية إلى أداة للاحتلال بدلًا من أن تكون نواة للدولة المستقلة، كما حلم بها مهندسو “أوسلو”، ومن ضمنهم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس!

بل إن أحد أهم أسباب “طوفان الأقصى”، هو الرغبة في وقف العدوان الصهيوني المستمر على القدس والأقصى، واستمرار الاستيطان، ومصادرة الأراضي الفلسطينية، والتنكّر للحقوق الفلسطينية، واستمرار عمليات القتل للفلسطينيين على يد قوات الاحتلال.

على الصعيد الدولي، فقد كشفت حجم نفاق الإدارات الأميركية للكيان، وإن رفعت من منسوب الخلافات حول إدارة الحرب والسلام بين الكيان وواشنطن

إذا كان البعض الفلسطيني أمل يومًا ما أن ينتزع بعض حقوقه بعملية تسوية لقناعة عنده بأنه لم يعد من الممكن الاستناد إلى القوة المسلحة في إجبار العدو على التخلي عن احتلاله ولو عن جزء من أرض فلسطين التاريخية، وفي ضوء الخذلان العربي، فإن الهمجية الصهيونية في غزة، والسعار الاحتلالي في الضفة، واستمرار ممارسات انتهاك القدس والمسجد الأقصى لم تترك أي مساحة لهذا الأمل لدى أي فلسطيني.

إن مناظر المجازر كفيلة بإخراج جيل فلسطيني – من الأيتام والمهجرين، ومن بين ركام المنازل المهدمة والمقابر الجماعية في كل أنحاء غزة – ليقاتل العدو بكل شراسة ممكنة، لا ليستعيد حقه وأرضه المغتصبة فقط، بل لينتقم شر انتقام من قتلة وجزارين لم يعهد التاريخ أمثالهم منذ محارق النازية المزعومة!

تؤكد الاستطلاعات أن معظم الفلسطينيين ينحازون للمقاومة، وحسب نتائج استطلاع أجراه في كل من الضفة وغزة المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية بالتعاون مع مؤسسة “كونراد أديناور – وهو مركز يتمتع بالمصداقية والاستقلالية – فقد أكد 72% من الفلسطينيين أنهم يؤيدون “طوفان الأقصى”، فيما رأى أكثر من 60% ممن شملهم الاستطلاع أن المقاومة هي الطريق الأمثل لإنهاء الاحتلال.

صحيح أن المجازر ستحفر عميقًا في ذاكرة الشعب الفلسطيني، ولكن تعويل الاحتلال بأنها ستحدث تحولًا عند الأجيال القادمة، فيما يسمى بنظرية الردع سيفشل؛ لأن حجم الإجرام الصهيوني، سيحدث ردة فعل عكسية في ضوء الوعي المتنامي للفلسطينيين، وقناعتهم بأنّ هذا العدو لا يفهم إلا لغة القوة، وهو ما أكدته المقاومة على الأرض.

ولذلك، ومهما نجح العدو في قتل المقاومين وتدمير أسلحتهم، فإنه لن ينجح في قتل عزيمة الفلسطينيين، وستجد المقاومة مقابل كل مقاتل يُستشهد منها آلافًا من المتطوعين مكانه، بما يجعل الصراع ممتدًا ومتطورًا، ويرفع من عزائم وقدرات المقاومة سياسيًا وتقنيًا.

مزيد من التطرف

في المقابل، فقد عززت عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول المخاوف الوجودية لدى شعب يعاني منها أصلًا منذ نشأة كيانه عام 1948، وهذا الشعور يلاحق الإسرائيليين مع استمرار المقاومة وتأثيرها على كيانهم ليس في الضفة وغزة فقط، ولكن أيضًا في مناطق الـ48، وهي التي تثيرها العمليات الفدائية التي تحدث بين الفينة والأخرى.

هذا فضلًا عن المخاوف الإستراتيجية التي سبق أن عبّر عنها قادة الاحتلال بعقدة العقد الثامن التي أنهت الكيانات اليهودية على مرّ التاريخ.

لا يزال الإسرائيليون موحّدين في ضرورة الانتقام مما حصل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، خصوصًا أن الإعلام الرسمي أظهر بمنظومته السياسية القائمة على الكذب أن المقاومين لم يكتفوا بقتل وأسر المئات من المحتلين، وإنما استهدفوا الأطفال والنساء، وهو ما ظهر كذبه في وسائل الإعلام العالمية التي فنَّدت هذه المزاعم.

ولا يبدو أن ذلك كان مجرد ردة فعل على ما جرى، فعموم الجمهور الصهيوني يتجه نحو التطرف والتشدد، وعدم الاعتراف بالفلسطينيين، والرغبة في تهجيرهم وترحيلهم عن أرضهم.

وهذا ما عبّرت عنه الانتخابات الإسرائيلية التي جرت عام 2022 والتي تم على إثرها تشكيل حكومة هي الأكثر تطرفًا في تاريخ الكيان، ويهيمن عليها عتاة المتطرفين الصهاينة الذين يتبنّون الفكر الكاهنيّ القائم على عدم الاعتراف بالكيانية الفلسطينية، وبأي حق للشعب الفلسطيني على أي جزء من الأرض الفلسطينية. وقد ظهر هذا واضحًا من خلال تصريحات أعضاء الحكومة خلال هذه الحرب والداعية للتهجير، بل وإفناء الفلسطينيين باستخدام القنبلة النووية التكتيكية!

ولا شك أنّ هناك أصواتًا معتدلة تنادي بالتعايش، ولكنها قليلة وغير مؤثرة، ولا أدلّ على ذلك من أن الأحزاب اليسارية (مثل ميريتس) التي تقبل بدول فلسطينية شكلية اقتربت من الاختفاء من الساحة السياسية الصهيونية، فيما تراجعت مكانة حزب العمل الوسطي في الكنيست، رغم أن زعماءه – مثل رابين وبيريز -هم أبطال مجازر في فلسطين ولبنان!

بل إن حكومة الطوارئ التي تشكلت بعد الحرب، وتضم حزب المعسكر الذي يضم غانتس وآيزنكوت وافقت خلال تصويت حكومة الاحتلال على رفض الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح التي دعا لها الرئيس الأميركي جو بايدن، ما لم يكن هذا الحل نابعًا من مفاوضات مباشرة مع الفلسطينيين، وهي النتيجة التي لن تكون في ضوء الموقف الإسرائيلي المتشدّد، مقابل عدم امتلاك السلطة الفلسطينية المفاوضة أي عناصر قوة تستطيع بها الوصول لحل مع الطرف الإسرائيلي، يحقق تطلعات الفلسطينيين ولو بحدها الأدنى.

ومن خلال سلوك حكومة الاحتلال، فإنها تجنح نحو الاستمرار بالتحكم بغزة، وجعلها نموذجًا مشابهًا لوضع الضفة، بحيث يتمكن جيش الاحتلال من الدخول والخروج متى يشاء من خلال تواجده على الشريط العازل على امتداد غزة.

كما ستسعى هذه الحكومة لتفريغ غزة من سكانها عبر جعل حياة الفلسطينيين فيها مستحيلةً بعد الدمار الواسع للمساكن والمؤسسات والبنية التحتية الذي أحدثته آلة الحرب الصهيونية، وتعقيد وتعطيل عملية إعادة الإعمار فيها. وقد مهد الاحتلال لذلك بتهجير الفلسطينيين من الشمال للجنوب، وسيؤدي شنّ الهجوم على رفح، مع فتح المرفأ الأميركي العائم إلى تهجير جديد سيشجع الهجرة الطوعية والقسرية للفلسطينيين.

لا تعايش

لقد باعدت هذه الحرب أكثر وأكثر بين الشعبَين، وأظهرت استحالة التعايش بين مشروع قائم على إحلال شعب مكان شعب، وهو صراع يكتسب صفة الصفريّة أكثر وأكثر، حيث يغدو الحديث عن سلام وتسوية مجرد ذرّ للرماد في العيون.

وتأتي دعوة الرئيس بايدن لإعلان دولة فلسطينية مستقلة حتى قبل إنهاء الحرب لذرّ الرماد في العيون، فهي دولة ليس لها رصيد واقعي، ما دام الطرف الإسرائيلي مستمرًّا في رفضِها. ويريد بايدن بذلك أن يبدأ مسارًا جديدًا ثبت أنه عبثيّ للتفاوض على الدولة؛ حتى يتمكّن من جرّ المنطقة العربية للتطبيع تحت غطاء هذا الشعار الفارغ من مضمونه الحقيقي. غير أنّ هذه المساعي لن يكتب لها النّجاح؛ لأن هذه الحرب أكّدت أنه لا يمكن التعايش مع طرف لا يفكر إلا بتهجير الفلسطينيين من أرضهم، ويرفض الاعتراف بأي كينونة سياسية لهم عليها.

ما جرى في 7 أكتوبر/تشرين الأول وما بعده، يؤكد أن حدة الصراع تسير إلى التصاعد لا التراجع، وأن حوافز الفلسطينيين في المقاومة تعاظمت، مقابل كيان يتجه للتشدد والتطرف وإنكار أي حقوق للفلسطينيين، فيما سقطت مقولة الوسيط النزيه وإلى غير رجعة، إذ تأكد أن واشنطن شريكة كاملة للعدوّ، ولا يمكن أن تمارس إلا دور المنحاز الداعم له.

تحولات

غير أن ما سيميز الصراع في مرحلته المقبلة هو التحول الواضح في المزاج الشعبي العالمي، بما في ذلك المزاج العام لدى جيل الشباب في أميركا، نحو دعم حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، والتمرد على قيود معاداة السامية التي كرسها اللوبي اليهودي بالقوانين في الغرب.

وقد لمسنا ذلك في الاستجوابات التي تعرض لها رؤساء جامعات عريقة أمام الكونغرس؛ بسبب عدم ضبطهم للمظاهر المناهضة للكيان في جامعاتهم والتي صنفت ضمن معاداة السامية!!

كما لوحظ أن أضخم وأكبر المظاهرات المناهضة للعدوان على غزة كانت في أكبر دول داعمة له وهي أميركا وبريطانيا وفرنسا!

ونستدعي في هذا السياق استطلاع غالوب الذي أظهر انخفاض التأييد الأميركي للحرب الإسرائيلية في غزة من 50% نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إلى 36% في مارس/آذار 2024.

وما كان لكل ذلك أن يحدث لولا “طوفان الأقصى” الذي ألهم فئة الشباب في العالم، بالتضحية والفداء والشجاعة والإصرار على انتزاع الحقوق بالقوة. ونجحت مجموعات من ناشطي وسائل التواصل في كشف تلاعب وسائل إعلام الاحتلال بالحقائق وبثّ الأكاذيب عن قتل الأطفال واغتصاب النساء، وهو الأمر الذي ارتد على الاحتلال لتصبح روايته- التي كانت قبل ذلك هي السائدة في الغرب- كاذبة.

ومع استمرار جرائم الاحتلال، فقد تصاعدت الدعوات من برلمانات الغرب، ومن أحزابه لوقف تصدير الأسلحة للكيان، وهو تطور مهم حتى لدى الأحزاب الغربية المشاركة في الحكم أو تلك المعارضة.

أما على الصعيد العربي، فإن حجم التأييد للمقاومة ارتفع بشكل كبير، وهو ما لمسناه من خلال المظاهرات التي اجتاحت العالم العربي، على الرغم من إجراءات القمع والتضييق التي اتخذت بحقها في كثير من البلدان العربية.

وبصرف النظر عن النتيجة التي ستسفر عنها الحرب الحالية، فهي بلا شك ستكون لها تداعيات ربما على المدى المنظور في المنطقة العربية، في ضوء تنامي الشعور بالعجز والقهر لدى الجماهير لعدم قدرتهم على نصرة إخوانهم بغزة في ضوء حملة التطهير والتجويع التي يتعرضون لها، ونكوص أنظمتهم عن تقديم أي دعم حتى في مجال الإغاثة؛ بسبب التضييق على دخول المساعدات من معبر رفح.

أما على الصعيد الدولي، فقد كشفت حجم نفاق الإدارات الأميركية للكيان، وإن رفعت من منسوب الخلافات حول إدارة الحرب والسلام بين الكيان وواشنطن، ولكنها أحدثت تحولات مهمة على صعيد فئة الشباب التي سيكون لها الدور المستقبلي في الحكم، وهو ما يعزز حدوث تحولات مجتمعية وربما سياسية في الغرب لم يكن أحد يتوقعها قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

للمزيد من التفاصيل: Read More

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى