لقد مر 15 عاماً، ولا زلت اتساءلُ في بعض الأحيان، ألا يكون الزمن هنا بحد ذاته حقيقة يصعب معالجتها داخل الذات!، إذ إنّ الزمن هنا لا يُقاس بالثواني أو الدقائق، أو حتى الساعات، بل يُقاس في سياق الصدمة!، تلك الصدمة التي تَعتاش على السيكولوجية، إنّ الصدمة هنا بدأت ليست مع الرصاصة الأولى التي ارتطمت في رأس شقيقي ليلة الرابع من آذار/مارس 2009، بل بدأت عندما غيرت تلك الرصاصة مسار الحياة، لقد أيقظتني بالفعل من غيبوبتي السياسية، ومن ذاك الخيال الذي يتصور أننا قادرون على العيش في سياق حياة طبيعية داخل مكان لا يمكن للحياة ذاتها فيه أن تستمر، وإرهاب جيش الاحتلال يضرب في كل بيت.
لا تتوقف الصدمة عند هذا الحد، فالاحتلال يجعل من الصدمة رغبة متكررة في حياة الفلسطيني، كأنه هنا يود القول لك: لن أخرج من حياتك!"، تلك حقيقة من المدهش فهمها، حيثُ أن تترسخ في عقلك مثل هذه الحقائق بسبب تراكم الصدمات، هو بحد ذاته ضربة قاصمة للوعي، وهنا يُمكن لي ملامسة تلك الحقيقة المدهشة، فعلى مدار سبعة شهور وثمانية أيام شاهدت كيف مكث شقيقي في غيبوبة مستمرة في المشفى بسبب الرصاصة، وأكثر كيف مكث الموت بالقرب منهُ طوال تلك المدة يضحك، ويسخر، كأن الموت يتلاعب في الوقت، والألم، والظلم...، وكل ذلك بسبب رصاصة واحدة ارتطمت في رأس طفل صغير لم يُدرك بعد معنى الرحيل، والفقدان، والوداع.
ليست هنا الحكاية، فالكلمات السابقة هي من نافلة القول، ولكن الأهم أن الجميع وقف عاجزاً عن ردع الموت في صباح يوم الاثنين الموافق 12 أكتوبر/تشرين الأول 2009، وسط إحساسٍ سحيق بالقهر، حتى الطبيب المختص لم يستطيع منع ذلك، فالأطباء لا يمنعون الموت، بل يمنحوننا بعض الوقت للاستمرار في الحياة عبر حبات دواء. وأن يموت الناس هو أمرٌ منطقيّ للغاية، ولكن الغير منطقي هو الاحتلال ذاته، فالاحتلال هو المجرم، وهو الّذي يجبرنا على الموت بلا أسرّة، في الشوارع وبلا جسدٍ كامل، وسط بحورٍ من الدم، ولذلك إذا أردنا أن نعيش، فنحن بحاجة إلى الخلاص من الاحتلال، وبعدها نُمارس حقنا بالموت الطبيعي، ولربما هنا نحنُ نمنح الموت اسم الشهادة، ويوم الجنازة نُسميه عرس فلسطيني، هذه تفصيلية وحدها تحتاج إلى مجلدات لشرحها!
بالعودة إلى الرصاصة التي اخترقت دماغ شقيقي، وقبل ذلك أُحاول هنا لملمة الحكاية، وتفاصيلها، فكل شيء يرتجف من حولي، ولكن ما زال ألم تلك الليلة فذّ وسبّاق لكل ذكرى أخرى، وما زال سؤال والداتي في اليوم التالي للإصابة عندما سمح لها الأطباء بزيارة طفلها داخل غرفة العناية المكثفة بلا إجابة، بل يضرب بسكينه قشور العقل، إذ وقفت أمي بجانب جسد شقيقي وقامت بتقبيل قدمه وسألت بكلمات فلسطينية انتشلتها بالحبل والدلو من ينبوع فلسطيني: " شو اللي رماك هالرميه يما!"، هذه الأم التي قالت أيضاَ وهي تصرخ بملئ حنجرتها عندما أدركت أن الموت بات أقرب من أي وقت مضى لطفلها: " إبني.. يما الله يرضى عليك.. والله اسعان صغير على الموت.. هاتوا لحضني برجع بعيش"، إذ قالت أمي تلك الكلمات عندما قال لها والدي: "مهدي تصاوب رصاصة في الراس والرصاصة حي وعنده نزيف ودخل على العمليات".
ما زالت هذه الصرخة يُسمع صداها في فلسطين حتى اليوم، فعلى العتبات العتيقة للذكريات المثقلة على الروح التي تزحف في الظلمة داخل نفق يسعى هذا العالم إلى تدميره للأبد يأتي "طوفان الأقصى" ليقول: " إن الشجاعة وحدها عند مواجهة سؤال الهزيمة لا تكفي، إذ المطلوب أكثر هو حد السيف"، فالاحتلال ينصب الموت كما ينصب الصياد الفخ للطريدة، ومنذ عشرات السنين يقوم الاحتلال بسحق الإنسانية، ويقول: "أنا أقتل إذاً أنا موجود"، ولا يكتفي بذلك، بل يقوم بتعبئة الإنسانية داخل فوهات البنادق ويُطلقها على أجساد الأطفال عند أول قارعة الطريق.
لا فكاك إذاً أُستشهد شقيقي، وما زلت أتذكر ضجيج الصراخ الممزوج بزغاريد النسوة عندما قاموا بإدخال جثمانه إلى البيت، واليوم وأنا أكتب هذه الكلمات وأحاور ما جرى ذلك اليوم تذكرت "مناحيم بيغين" عندما وقف على منصة الكنيست "الإسرائيلي" يقول: " من حق أطفالنا العيش، سنقوم بقطع اليد التي تمتد عليهم"، وهنا كان شقيقي مهدي يستحق أن يعيش ليخوض غمار الحياة باحثاً تحت جلدتها السميكة عن المستقبل، ولكن إنه الحرمان من الحرية، إذ كانت ثانية واحدة وجهاً لوجه مع الرصاصة تكفي لقطف الفرح المرسوم على وجهه، والأهم أن أحفاد بيغن ما زالوا حتى اليوم يُمارسون ذات الجريمة في غزة، ولبنان، واليمن، والعراق...
من جديد، بالعودة إلى الرصاصة، لم تمنح الرصاصة الوقت لهذا الطفل لإدراك ذلك، فالصدمة تقوم بامتصاص خيبته الأولى والأخيرة، ولن يُدرك بعد ذلك معنى الوجود، بحيث تكون الرصاصة قد اخترقت الدماغ، وأصبح الضجيج الصادر فوقه يقول: " سيارة.. سيارة.. شهيد.. شهيد". وأكتب اليوم ليس في سبيل ترميم ذكرى الرصاصة، بل نكتب لنوثق التاريخ، هو تاريخنا، نحنُ الشعب الفلسطيني، أصحاب الرواية، والحكاية، والقصة، نحنُ المنتصرون على عتبات التاريخ، وأكثر نكتب لتبقى الذكرى حيه، إذ نسيان الذكرى هو بحد ذاته جريمة، وبل إن صراع الإنسان هنا ضد الذكرى يبقى قبل كل شيء صراع الذاكرة ضد النسيان.
إذاً هي متعة عقاب الأخرين، بل هي حياة الاحتلال التي يرصفها على أجساد أطفال تُنشد دائماً: " الحرية.. الحرية.. كأنها تعويذة فلسطينية"، إن هذا الاحتلال يُشيد الموت في كل زقاق، والقانون الدولي يقوم العالم بوضع قطعة قماش على عينيه، وهو الآن يقبع في السجن، ويتبول في الجردل، ويرتدي ثياب الإعدام، مستعداً للصعود إلى المقصلة التي تم بنائها على أرض تحوي برميل نفط، ولكن هذا القانون قرر الصمت المقدس خوفاً من الحبل الذي ينتظر رقبته، والكرسي يجلس بأقدامه الأربعة على الخشبات يُقاتل ملل انتظار الإزاحة، إذاً القانون لن ينطق الحقيقة، إنه جبان، بل على العكس قرر أن يُمارس الكذب، وأكثر أن يُبرر القتل بحق أطفال فلسطين، ويبرر القتل القائم منذ 75 عاماً بحق الشعب الفلسطيني، وخصوصاً عندما جاءت العصابات الصهيونية وقامت بشق بطون النساء وقتلت الأجنة، وهذا ما يثبت أن القانون الدولي قبل كل شيء هو شريك في الجريمة.
لا بأس، لن يتوقف النص عن النزيف هذه المرة، فالذكرى ستبقى الوقود في معركة النسيان، وبل في معركة الرصاصة التي تحمل معها حقداً أسود وتتكئ على الدماغ مبتسمه لعصفور كان اسمه الحياة، وأكثر في معركة الرصاصة التي لم تمنح شقيقي نفساً صغيراً في حوار الشهادة. والأهم ليس الخاتمة هنا، إذ الذكرى باقية حتى الأبد، باقية أولاً، باقية أبداً، ولكن أقتبس الخاتمة من نص كنت قد كتبته على "شبكة قدس الإخبارية" في ذكرى شقيقي العاشرة بعنوان "نحن لم نمت بعد"، وتقول الخاتمة: " أتساءل كثيراً هل مات مهدي ، هل سيعود حقا كما تعتقد أمي؟، استمع كثيراً إلى قصيدة نفسي الفداء علّي أفهم شيئاً، علّي أُجيب على اسئلتي الكثيرة، لقد قام الاحتلال بمحاولة قتلنا بعد مهدي، أخوفاً من أن يعود مهدي ؟ لقد داهم الاحتلال المنزل مرات كثيرة، حيث كان يمضي الساعات الليلية الطويلة بين تفتيش وتحقيق ميداني، وأحيانا ًكان كمن يحاول محاورتنا وفهمنا، كمن يُريد أن يعرف هل مهدي ما زال حياً، علاوة على أسري لسنة ونصف وأسر أخي الأكبر لعشرة شهور، قام بالتضييق على أبي في عمله فلقد صادرو منه أربعة سيارات غير مرخصة دون عن غيرها بمساعدة عملائهم، بالمقابل أتساءل أين نحن، هل نجحوا في قتلنا و قتله؟، أعطت أمي الاسم لحفيدها وكأنها تبعث الروح القديمة مع الاسم مؤكدة أن أبنها لا يموت ، وها أنا أكتب اليوم لأقول: نحن لم نمت بعد.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا