التبعات الاقتصادية لقرارات ترامب العشوائية على اقتصاد أميركا

يُعد اقتصاد السوق من النماذج الرأسمالية التي تقوم على قواعد واضحة، وعلى رأسها الشفافية وتكافؤ الفرص بين المتعاملين، وهو ما يجعل من النموذج الأميركي أحد أبرز تطبيقاته.
بيد أن هذه القواعد تعرضت لهزة كبيرة مع تولّي الرئيس دونالد ترامب السلطة مجددًا في مطلع عام 2025، إذ اتسمت قراراته، خصوصًا في الشق التجاري، بالعشوائية والارتجال، مما أوجد حالة من الضبابية في المشهد الاقتصادي داخل أميركا، ومع شركائها الأساسيين، وعلى مستوى الاقتصاد العالمي عمومًا.
ارتباك داخلي وارتجال في القرار
لم يكن المستوردون أو المصدّرون الأميركيون على علم مسبق بخطط ترامب بخصوص رفع الرسوم الجمركية، وهو ما أصاب نشاطهم بالشلل. حتى المنتجون الأميركيون –الذين يُفترض أنهم المستفيدون من تلك الإجراءات– لم يجنوا أرباحًا، لأنهم يعتمدون على استيراد المواد الأولية من الخارج، فتأثروا أيضًا بارتفاع تكاليف الإنتاج.
وذكرت تقارير اقتصادية أن من أبرز مظاهر العشوائية كان الارتفاع المفاجئ في نسب الرسوم الجمركية، فعلى سبيل المثال، ارتفعت الرسوم المفروضة على الصين إلى 145%، بعدما كانت بحدود 20% في بداية عام 2025، كما هدد ترامب مرارًا برفعها إلى 245%، دون الاكتراث بأثر ذلك على الاقتصاد المحلي، قبل أن يتم توقيع اتفاق بين واشنطن وبكين على تخفيف التوترات التجارية بينهما.
إعلانوقد تفاوتت ردود أفعال الدول إزاء هذه السياسات بين الرفض، والمعاملة بالمثل، والدعوة إلى التفاوض، لكن موافقة بعض الدول على التفاوض مع إدارة ترامب شجعته على التمادي في نهجه، مما عكس حالة من الفوضى في العلاقات التجارية الدولية.

مزاد جمركي وصراع مفتوح
قرارات ترامب كانت في جوهرها أقرب إلى مزاد مفتوح لفرض الرسوم، خصوصًا تجاه الصين. فكلما ردّت بكين بالمثل، سارع ترامب إلى رفع النسبة أكثر، دون النظر إلى التبعات الاقتصادية.
وأشارت مصادر في الأسواق الأميركية إلى أن هذه القرارات أدت إلى اضطرابات كبيرة، إذ تراجعت مؤشرات أسواق المال، وارتفعت أسعار الذهب والعملات الرقمية بشكل جنوني، كما انخفضت أسعار النفط بسبب مخاوف من توسع النزاع التجاري.
وتابعت هذه المصادر بأن ترامب لم يعمل على تجهيز القاعدة الإنتاجية الأميركية لتكون بديلًا حقيقيًا للواردات، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم. وكانت النتيجة الحتمية هي التراجع عن العديد من قراراته، ليس فقط مع الصين، بل مع معظم الدول الأخرى.
مفاوضات غير منسّقة
من أبرز الأمثلة على التخبط، تغريدة ترامب في 9 مايو/أيار 2025، التي قال فيها إن فرض رسوم بنسبة 80% على المنتجات الصينية "يبدو قرارًا صائبًا"، بينما كانت المفاوضات الرسمية لا تزال جارية مع بكين.
وانتهت هذه المفاوضات في 12 مايو/أيار بالاتفاق على رسوم بنسبة 30% من الجانب الأميركي و10% من الجانب الصيني. الأمر الذي يثير تساؤلات حول ما إذا كان ترامب على دراية بما يفعله فريقه المفاوض أصلًا.
الصين تلعب أوراق الضغط بمهارة
وفيما اكتفت بعض الدول بالرد بالمثل، استخدمت الصين أدوات ضغط فعالة شملت وقف تصدير المعادن النادرة، وتعليق تسلّم الطائرات من شركة "بوينغ" الأميركية.
ونتيجة لذلك، اضطرت واشنطن إلى التراجع وإعلان ما سُمّي بـ"هدنة" تجارية تستمر 90 يومًا، تُخفّض خلالها الرسوم الأميركية من 145% إلى 30%، مقابل تخفيض الصين لرسومها من 125% إلى 10%.
إعلانوأشارت وسائل إعلام اقتصادية إلى أن استخدام مصطلح "هدنة" يعكس الطابع العسكري للنزاع الاقتصادي بين القوتين، وهو ما يكشف بوضوح أن ما حصل لم يكن خلافًا تجاريًا عاديًا، بل مواجهة حقيقية تتجاوز الاقتصاد إلى الجغرافيا السياسية.

مؤشرات سلبية في الداخل الأميركي
مع بداية تطبيق الرسوم الجمركية المرتفعة، بدأت التبعات تتوالى داخل الولايات المتحدة، إذ ارتفع معدل التضخم في أبريل/نيسان 2025 إلى 0.2% شهريًا، بعد أن كان 0.1% في مارس/آذار السابق له.
هذا الارتفاع دفع مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي إلى تثبيت أسعار الفائدة، وهو ما أزعج ترامب الذي طالب بتخفيضها، رغم أنها أداة فنية خالصة لا تخضع للمزاج السياسي.
كما أظهرت بيانات وزارة التجارة الأميركية انخفاضًا في إنتاج الصناعات التحويلية بنسبة 0.4% في أبريل/نيسان، وهي أول مرة يسجل فيها القطاع هذا التراجع منذ 6 أشهر، بعدما سجل نموًا بنسبة 0.4% في مارس/آذار الماضي.
وفي السياق ذاته، تحمّلت الشركات الأميركية أعباءً إضافية بفعل زيادة الرسوم، مما دفع بعضها إلى تقليص هوامش الربح، وأشارت تقارير محلية إلى انخفاض مؤشر أسعار المنتجين بنسبة 0.5%، وهي أعلى نسبة انخفاض خلال 5 سنوات، وسط تحذيرات من أن هذه الشركات قد تغادر السوق إذا استمرت في تسجيل خسائر.
كما شهد قطاع الوظائف تباطؤًا واضحًا، حيث أضاف الاقتصاد الأميركي 62 ألف وظيفة فقط في أبريل/نيسان، وهو أدنى رقم منذ يوليو/تموز 2024، وأقل بكثير من توقعات الاقتصاديين البالغة 115 ألف وظيفة.
قواعد غابت عن ترامب
كثيرًا ما يُقال إن ترامب يتعامل مع السياسة كأنه يدير شركة خاصة، فيسعى للصفقات والانتصارات السريعة. لكن إدارة الدول تخضع لقواعد دقيقة، من بينها قاعدة "المعاملة بالمثل" في العلاقات الدولية، والتي تجاهلها ترامب مرارًا، كما تجاهل ضرورة إجراء دراسات واقعية قبل فرض مثل هذه السياسات، آخذًا بعين الاعتبار قدرة الاقتصاد المحلي على التكيف وردود الفعل الدولية.
إعلانما الذي سيحدث بعد "الهدنة"؟
تنتهي فترة "الهدنة" التجارية في نهاية يوليو/تموز 2025، ومعها سنكون أمام مفترق طرق: فإما أن يتم التوصل إلى اتفاقات مقبولة لجميع الأطراف، أو أن يعود ترامب لفرض زيادات جمركية من طرف واحد، وهو ما سيدفع الولايات المتحدة نحو عزلة اقتصادية، ويفتح الباب واسعًا أمام إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي على أسس متعددة الأقطاب.