
خاص قدس الإخبارية: منذ اللحظة الأولى لولادة الفكرة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر لم يكن تأسيس دولة يهودية في فلسطين غاية نهائية، بل مقدمة ضرورية لمشروع أكبر يحمل اسم "إسرائيل الكبرى". هذا المشروع استند إلى نصوص توراتية ورؤى أيديولوجية مبكرة تحدثت عن "الأرض الموعودة" الممتدة من النيل إلى الفرات، وهو ما جعل فلسطين مجرد النواة الأولى. وعندما أعلن قادة الحركة الصهيونية قيام "إسرائيل" في 14 أيار/مايو 1948، اعتُبر ذلك انتصارًا مرحليًا، لكنه لم يُشبع الطموح الأيديولوجي الذي ظلّ يتجاوز حدود فلسطين التاريخية. في تلك الحرب التي يسميها الفلسطينيون "النكبة"، سيطرت إسرائيل على نحو 78% من مساحة فلسطين، وشرّدت أكثر من 750 ألف فلسطيني.
خلال العقدين التاليين كرّست "إسرائيل" وجودها العسكري والسياسي، لكنها ظلت في حالة صراع دائم مع محيطها العربي. جاءت حرب السويس عام 1956 لتكشف مبكرًا كيف يمكن لمفهوم "الأمن" أن يتحول إلى أداة للتوسع. فبعد أن أعلن الرئيس المصري جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، شنت "إسرائيل" حربًا بالتحالف مع بريطانيا وفرنسا وسيطرت على شبه جزيرة سيناء حتى قناة السويس. صحيح أن التدخل الدولي أجبرها على الانسحاب بعد شهور، لكن التجربة أثبتت أن سيناء تمثل بالنسبة إلى "إسرائيل" ورقة استراتيجية مرتبطة بخطاب الأمن القومي. وفي الداخل الإسرائيلي أخذت تتبلور قناعة متزايدة بأن الدولة لا يمكن أن تبقى آمنة داخل حدود ضيقة، وأن "العمق الجغرافي" شرط للبقاء، وهو ما يتقاطع مع التنظير الأمني لفكرة "إسرائيل الكبرى".
جاءت اللحظة المفصلية في الخامس من حزيران/يونيو 1967 مع اندلاع الحرب التي استمرت ستة أيام فقط، وغيّرت وجه المنطقة. ففي هذه الحرب احتلت "إسرائيل" الضفة الغربية بما فيها شرق القدس وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء كاملة حتى قناة السويس، بالإضافة إلى هضبة الجولان السورية. هذا التوسع الهائل ضاعف مساحة الأراضي الخاضعة لسيطرتها أكثر من ثلاث مرات، ووفّر لها عمقًا استراتيجيًا غير مسبوق. داخل "إسرائيل" جرى تصوير ما حدث على أنه معجزة عسكرية وتاريخية، لكن في الجوهر كان تطبيقًا عمليًا للرؤية الأيديولوجية: فلسطين التاريخية اكتملت سيطرتها، والمرحلة الثانية من المشروع بدأت بالتمدد نحو مصر وسوريا. ومع أن حكومة الاحتلال رفعت شعار "الأمن" لتبرير الاحتلال، معتبرة أن السيطرة على سيناء والجولان ضرورية لحماية الحدود، إلا أن حقيقة الأمر أن الانتصار العسكري عزز قناعة بأن مشروع "إسرائيل الكبرى" لم يعد مجرد حلم، بل صار واقعًا قيد التنفيذ.
بعد حرب حزيران/يونيو 1967 دخلت المنطقة مرحلة جديدة من الصراع، حيث حاولت "إسرائيل" تحويل مكاسبها العسكرية إلى وقائع دائمة. فمع سيطرتها على شرق القدس والضفة وغزة وسيناء والجولان، لم تكتفِ بالاحتلال العسكري، بل سارعت إلى البدء في مشروع استيطاني مكثف خاصة في القدس والضفة. وقد جرى تسويق ذلك داخليًا وخارجيًا تحت شعار "الأمن"، فالقدس وُصفت بأنها "العاصمة الأبدية والموحدة" التي لا يمكن التخلي عنها لأسباب دينية وتاريخية، بينما الاستيطان في الضفة وقطاع غزة صُوِّر كخط دفاعي متقدم يحمي الدولة من أي تهديد محتمل. هكذا تماهى البعد الأيديولوجي مع البعد الأمني ليشكلا معًا الذريعة الكبرى لاستمرار التوسع.
لكن الاحتلال الواسع خلق تحديات جديدة، فقد اندلعت "حرب الاستنزاف" على جبهة قناة السويس بين 1969 و1970، حيث حاول الجيش المصري استنزاف "إسرائيل" لإجبارها على الانسحاب من سيناء. ورغم الخسائر التي تكبدتها" إسرائيل"، إلا أنها تمسكت بموقفها رافضة أي انسحاب من دون مقابل سياسي يضمن تفوقها العسكري واستمرار مشروعها التوسعي. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1973 اندلعت الحرب الكبرى التي شنها الجيشان المصري والسوري لاستعادة سيناء والجولان. في الأيام الأولى تكبدت "إسرائيل" خسائر كبيرة، لكنها سرعان ما استعادت زمام المبادرة بدعم أمريكي واسع. ورغم أن الحرب انتهت بوقف إطلاق النار، إلا أنها شكلت صدمة داخلية كبرى في "إسرائيل"، إذ كشفت أن خطاب الأمن القائم على التوسع لا يحصّن الدولة بالضرورة من المفاجآت العسكرية.
بعد سنوات قليلة جاء المسار السياسي ليسجّل أول تراجع عملي عن مشروع "الأمن بالتوسع". ففي عام 1978 وُقعت اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر و"إسرائيل" برعاية أمريكية، أعقبها انسحاب كامل من سيناء عام 1982 مقابل معاهدة سلام منفردة مع مصر. ورغم أن الانسحاب بدا هزيمة لرؤية إسرائيل الكبرى، إلا أن المؤسسة الحاكمة قدّمت الأمر داخليًا على أنه صفقة أمنية رابحة، فإخراج مصر – أكبر دولة عربية – من معادلة الحرب منح "إسرائيل" هامشًا استراتيجيًا واسعًا للتحرك في باقي الجبهات. لقد أعادت "إسرائيل" صياغة خطابها الأيديولوجي بحيث يُظهر السلام وكأنه امتداد للأمن، بينما الحقيقة أن التراجع كان نتيجة مباشرة للمواجهة العسكرية التي خاضتها مصر في 1973 والتي فرضت على "إسرائيل" تغيير حساباتها.
وفي عام 1982 عادت "إسرائيل" إلى الخيار العسكري التوسعي بغزوها لبنان. العملية التي بدأت بذريعة ضرب قواعد منظمة التحرير الفلسطينية في الجنوب تحولت إلى اجتياح واسع وصل إلى بيروت. وكما في كل مرة، جرى تسويق الغزو على أنه إجراء أمني لحماية الجبهة الشمالية، لكن جوهره كان محاولة لفرض نظام سياسي جديد في لبنان يتماشى مع التصور الإسرائيلي للهيمنة الإقليمية. احتلال جنوب لبنان لم يكن إذن مجرد عملية عسكرية ظرفية، بل استمرار عملي لرؤية أيديولوجية. غير أن المقاومة اللبنانية سرعان ما بدأت بالتصدي لهذا المشروع، لتتحول الأرض المحتلة إلى عبء ثقيل على جيش الاحتلال الإسرائيلي وتضع بذور انسحاب جديد سيأتي بعد عقدين.
مع دخول جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى بيروت عام 1982 بدا وكأن مشروع "إسرائيل الكبرى" بلغ ذروة اندفاعه تحت غطاء الأمن. فالغزو لم يُبرَّر فقط بضرب منظمة التحرير الفلسطينية، بل أيضًا بإنهاء "الخطر الاستراتيجي" القادم من الشمال، وربطه بالخطاب ذاته الذي برر احتلال سيناء والجولان. لكن سرعان ما تبددت صورة النصر العسكري، إذ تصاعدت المقاومة في جنوب لبنان لتتحول إلى حرب استنزاف يومية ضد قوات الاحتلال. العمليات التي قادتها الفصائل اللبنانية، ثم لاحقًا "حزب الله"، نجحت في تحويل الجنوب إلى مستنقع دموي لإسرائيل، حتى بات الجمهور الإسرائيلي نفسه يتساءل عن جدوى البقاء هناك. ومع تزايد الخسائر، ومعادلة الردع التي فرضتها المقاومة، اضطر جيش الاحتلال الإسرائيلي في أيار/مايو 2000 إلى الانسحاب من لبنان من دون اتفاق أو مكاسب سياسية، في مشهد اعتُبر هزيمة استراتيجية كبرى وفشلًا صارخًا لمنطق الأمن بالتوسع. لقد تحوّل الاحتلال من ورقة قوة إلى عبء ثقيل، وبرز لأول مرة بوضوح أن المقاومة قادرة على تعطيل المشروع الأيديولوجي مهما كان مدججًا بالقوة.
وفي فلسطين اندلعت الانتفاضة الأولى عام 1987 لتفتح فصلًا جديدًا في الصراع. الانتفاضة الواسعة كشفت هشاشة السيطرة الإسرائيلية على الضفة وغزة، وأظهرت أن خطاب الأمن لا يمكن أن يخفي واقع الرفض الفلسطيني الشامل للاحتلال. فالمواجهات اليومية والحجارة التي تكسرت على جنود الاحتلال لم تكن مجرد احتجاج عابر، بل تحديًا مباشرًا للمشروع الأيديولوجي الذي أراد تحويل الاحتلال إلى أمر واقع لا رجعة فيه. تحت ضغط هذه الانتفاضة ذهبت "إسرائيل" إلى مسار سياسي انتهى بتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993، الذي أنشأ السلطة الفلسطينية وأعطى وعودًا غامضة بدولة. لكن "إسرائيل" سرعان ما وظفت الاتفاق لتعميق مشروعها الاستيطاني تحت شعار الأمن أيضًا، إذ أبقت سيطرتها الكاملة على الحدود والمعابر، وحولت المدن الفلسطينية إلى جزر معزولة. ومع ذلك، فإن مجرد اضطرار "إسرائيل" للتفاوض كان دليلاً على أن المقاومة عطّلت مرة أخرى خطوات متقدمة في مشروعها الأيديولوجي.
لكن سراب التسوية لم يدم طويلاً. ففي سبتمبر/أيلول 2000 اندلعت الانتفاضة الثانية عقب اقتحام أرئيل شارون للمسجد الأقصى، لتعود المواجهة المسلحة هذه المرة بشكل أعنف. العمليات الاستشهادية في قلب المدن المحتلة أظهرت أن خطاب الأمن الذي رُفع لتبرير استمرار الاحتلال والاستيطان لم يعد يحمي الداخل، وأن المشروع كله يترنح أمام مقاومة لا تتوقف. جيش الاحتلال الإسرائيلي رد باجتياحات واسعة وحصار خانق، لكنه تحت وطأة المقاومة اضطر للانسحاب من قطاع غزة وإخلاء المستوطنات هناك. ورغم أن الخطاب الرسمي صوّر الانسحاب كإعادة انتشار أمني، إلا أن الحقيقة أنه كان هزيمة أخرى لرؤية الأمن بالتوسع. فقد أثبتت غزة أن المقاومة قادرة على إخراج الاحتلال من الأرض، وأن المشروع الأيديولوجي لإسرائيل الكبرى يواجه حدودًا قاسية عندما يصطدم بإرادة المقاومة.
في العقدين الأخيرين مع صعدت تيارات دينية قومية ترى أن هذا المشروع "إسرائيل الكبرى" ليس خيارًا سياسيًا بل واجبًا دينيًا. شخصيات مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير أعادت إنتاج الخطاب التوراتي داخل السياسة اليومية، معتبرة أن السيطرة على الضفة الغربية وضم الأغوار وتوسيع الاستيطان خطوات ضرورية لتحقيق "الخلاص". هذه التيارات لم تبقَ على هامش المشهد، بل وجدت لنفسها موقعًا متقدمًا في الحكومات المتعاقبة، خصوصًا مع تحالفها مع بنيامين نتنياهو. الأخير لم يخفِ يومًا أنه يعتبر نفسه في "مهمة تاريخية وروحية"، إذ صرح بأنه مرتبط بقوة بفكرة "إسرائيل الكبرى" وأنه يشعر أنه يقود مشروعًا يتجاوز حدود السياسات اليومية. تحالف الدين والقومية مع السلطة السياسية أضفى على المشروع بعدًا مؤسساتيًا جديدًا، فصار خطاب الأمن أداةً يومية لتبرير الاستيطان والتهويد ورفض أي انسحاب.
ومع ذلك فإن المشروع يظل عائقًا ثابتًا باستمرار المقاومة. والمفارقة أن هذه المقاومة لا تدافع عن فلسطين وحدها، بل تتحمل مهمة تاريخية بالنيابة عن دول عربية أخرى يشملها المشروع الأيديولوجي. فالنصوص التوراتية التي يستند إليها سموتريتش وبن غفير لا تتحدث فقط عن الضفة وغزة، بل عن أرض تمتد إلى الأردن وسيناء ولبنان وسوريا والعراق. أي أن الفلسطينيين اليوم يقاتلون على جبهة هي في حقيقتها خط دفاع عن المنطقة بأسرها. لكن المفارقة المؤلمة أن بعض هذه الدول لا ترى في المقاومة حليفًا يحميها من أطماع المشروع الإسرائيلي، بل عدوًا تسعى لمحاصرته بالتنسيق مع الاحتلال. هنا يتكشف التناقض الأكبر: "إسرائيل" ترفع شعار الأمن لتبرير مشروعها الأيديولوجي، والمقاومة تواجه هذا المشروع بصدور عارية نيابة عن شعوب المنطقة، بينما الأنظمة التي يفترض أنها مهددة بالمخطط تنخرط في تحالفات مباشرة أو غير مباشرة مع القوة التي تستهدفها.
هذه المفارقة تكشف أن فشل "إسرائيل" في استكمال مشروعها لم يكن نتيجة مراجعة ذاتية أو اقتناع بالحدود، بل نتيجة مباشرة للمقاومة التي فرضت على مدى عقود حدودًا جديدة على الأرض. فمنذ 1948 وحتى اليوم، ظل المشروع الأيديولوجي لإسرائيل الكبرى حاضرًا في النصوص والخطاب السياسي والعسكري، يُعاد إنتاجه جيلاً بعد جيل تحت مسمى الأمن. لكنه في كل مرة يصطدم بمقاومة تعيد تعريف المعادلات وتجعل من الأمن ذريعة فارغة. لقد أثبتت التجارب من سيناء إلى الجولان إلى لبنان وغزة أن الأمن الحقيقي ليس في التوسع بل في إنهاء الاحتلال، وأن إسرائيل مهما امتلكت من قوة عسكرية ودعم دولي تبقى عاجزة عن فرض مشروعها الأيديولوجي على شعوب المنطقة. وبذلك يستمر الصراع لا كصراع حدود فحسب، بل كمعركة بين رؤية أيديولوجية تسعى لابتلاع المنطقة تحت شعار الأمن، وإرادة مقاومة تصر على تعطيل هذا المشروع وصون الحق مهما طال الزمن.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا