Skip to main content

البطريرك الراعي والمطارنة: وحدة الكنيسة المارونية وتحديات الدور الوطني

20 أيلول 2025

تتميز الكنيسة المارونية بمجموعة أعراف وتقاليد باتت ثوابت ترسّخت طوال مسيرتها التاريخية. وشكّلت عناصر أساسية من عناصر قوّة هذه الكنيسة ووحدتها. وهي الكنيسة الشرقية الوحيدة غير المنقسمة بين أرثوذكسية وكاثوليكية. فهناك روم أرثوذكس وروم كاثوليك، وكذلك سريان، وأرمن وأقباط.... أرثوذكس وكاثوليك. هذه الأعراف الثوابت جعلت البطريرك الماروني رمز وحدة الموارنة المتقدّم عن سواه من الأساقفة بالصلاحيات والدور والموقع، بالرغم مما أصاب هذه الصلاحيات والأدوار من «تحجيم» عملاً بمقررات المجمع اللبناني 1736، بإيحاء روماني واضح، في سياق سعي روما الى «السيطرة» التامة على الكنيسة المارونية، وسلبها ما أمكن من خصوصيتها المشرقية.

من هذه الأعراف الثوابت أن الشأن الوطني متروك للبطريرك الماروني، فلا رأي لمطران أو لمجمع المطارنة غير رأي البطريرك في الشؤون الوطنية، حتى أنّ لا مطران يتحدّث أو يتناول علناً شأناً وطنياً ويعلن رأياً فيه مختلفاً عن رأي البطريرك. ودرج العرف الثابت أن لا يتحدّث المطارنة الشؤون الوطنية، للرأي العام واذا تحدثوا فلكي يؤكدوا على موقف البطريرك وليؤیدوه، وان كانوا يختلفون معه. لقد شكّل هذا التقليد عنصر قوّة اضافية للكنيسة المارونية. وكثيرة هي الأمثلة في محطات تاريخية حصل فيها تباين واختلاف في آراء البطريرك والمطارنة حول شؤون وطنية، لكنه بقي «بينهم» ضمنياً، وبقي موقف البطريرك هو المعلن والمعتمد والمأخوذ به.

ومن التقاليد الثوابت أيضاً أن المطارنة الموارنة يتجنبون «الانقسام» طويلاً في خياراتهم المتعلّقة بانتخاب البطريرك. وحين ينعقد مجمعهم لانتخاب البطريرك، وان حصل تنافس حاد بين مرشحين يعكس انقسام آباء المجمع حولهما، غالباً ما يسارعون، بناء على مبادرة قد تأتي أحياناً من بعض «المنقسمين بحدّة» الى انتخاب مطران ثالث بطريركاً. وهذه أيضاً من عناصر قوّة الكنيسة المارونية كونها تبرز وجهاً مشرقاً من روحانيتها المطبوعة بعيش التخلي وتجاوز المناصب والمراتب...

ومن «العادات الثوابت» أيضاً أن المطارنة الموارنة يكثفون رسائل التشكّي الى مجمع الكنائس الشرقية في روما فور دخول البطريرك عتبة الثمانين من عمره، وتتراوح كثافة هذه الرسائل وتضاؤلها قياساً بالوضع الصحي للبطريرك. فاذا كانت الصحة معتلّة «فاضت» الرسائل على المجمع المذكور و«بتنسيق منتظم» مع السفير البابوي، واذا كانت الصحة جيدة «تراجعت كثافة الرسائل وحدّتها...»

كيف تبدو الصورة في هذه المرحلة؟
مما لا شك فيه أن المطارنة الموارنة يحافظون على كل الأعراف الثوابت المذكورة، بما فيها الأخيرة المتعلّقة «بحركتهم» في ظلّ البطريرك بشارة الراعي الذي تجاوز الثمانين بخمس سنوات وأكثر. ويبدو المشهد كالتالي : البطريرك الراعي «شاب جداً» قياساً بعمره وأكثر نشاطاً وديناميكية من عدد كبير من المطارنة. ويقوم بمهامه على أكمل وجه، ويجول لبنان، في يوم واحد، من أقصاه الى أقصاه، إذا دعت الحاجة. وفي ذهنه «كل ما يهمّه»، وغير هذا المهمّ مرمي عمداً في دائرة النسيان! ولا تلوح في أفق الكرسي البطريركي أيّة مؤشرات أو ملامح، أو حتى مبررات، لتقديم البطريرك الراعي استقالته. ويقول عدد من المطارنة الموارنة، الذين لا يزالون في الخدمة الأسقفية، وليسوا على «لائحة المرشحين»، أو من المتقاعدين المنتهية صلاحيات ترشحهم وتصويتهم، أن البطريرك الراعي لا يزال أكثر قدرة وفعالية واضطلاعاً بالمسؤولية من كثيرين من الطامحين الى خلافته.

أما على جبهة المطارنة، بخاصة الطامحين الى السدّة البطريركية، فان الكلام المذكور ليس في قاموسهم، وهم ملتزمون باكمال «مساعيهم وجهودهم لانتخاب بطريرك جديد». والمطارنة الموارنة منقسمون قسمين، الأول هو قسم المغالين المستعجلين إنهاء ولاية البطريرك الراعي، وهؤلاء أقليّة، والثاني يضمّ الأكثرية التي تراقب الوضع بحكمة وموضوعيّة وتجرّد. هذا مع الإشارة الى أن قاسماً مشتركاً بين الجميع هو احترام البطريرك الراعي، والالتزام بقراره سواء مستمراً في موقع المسؤولية، أو مقدماً على الاستقالة. ولأن الأمر كذلك تبقى «مساعي وجهود الطامحين» ضمنية محتشمة بعيدة عن الاعلام والاعلان، من غير إغفال بعض الظواهر المعلنة، التي ترتدّ سلباً على أصحابها. وأكثر من تظهر «مساعيهم» الى العلن، بعدما «تجلّت» في مجمعي السنة الحالية 2025 والسنة الماضية 2024، هم قلّة من المطارنة أصحاب مقاربات جديدة في ما يعتبرونه «حقوقا» للانتشار الماروني المتزايد عدداً في الخارج، بعدما أدّى ولا يزال يؤدي «واجباته» تجاه النطاق البطريركي في لبنان والجوار.

المقاربات الجديدة

برزت في السنتين الأخيرتين، على هامش المجمع السنوي للأساقفة الموارنة، مقاربات جديدة متّصلة بمستقبل البطريركية المارونية. تقوم هذه المقاربات المستغربة الدخيلة على التقليد الماروني الكنسي على اعتماد معيار العدد حين يتم انتخاب بطريرك جديد خلفاً للبطريرك الكردينال الراعي. يستند أصحاب هذه المقاربات غير المألوفة، التي تخالف المسار التاريخي للبطريركية المارونية منذ تأسيسها سنة 685 مع مار يوحنا مارون حتى اليوم، يستندون على كون موارنة بلدان الانتشار باتوا أكبر عددياً من موارنة لبنان والجوار، المعروف بالنطاق البطريركي. وحين يعتمد هذا المعيار تكون أبرشيتا استراليا وأميركا هما المعنيتان بهذه المقاربة كون كل منهما تضم التجمع الماروني الأكبر في العالم، أستراليا أولاً فالولايات المتحدة الأميركية. يقول أحد المطارنة المتقاعدين حول هذه المقاربة إنها مرفوضة كلياً لأنها غريبة عن ثوابتنا الكنسية، لا بل إنها مقاربة خطيرة بأبعادها الوطنية، على قاعدة أنّه إذا كان قلة من المطارنة الموارنة يعتمدون العدد معياراً فماذا نترك لإخواننا المسلمين في الوطن؟! وكيف نبرّر قولنا لهؤلاء الشركاء في الوطن «لنوقف العدّ»، ونتمسّك بالمناصفة في نظامنا القائم؟!. وفق هذه المقاربة، يتابع المطران المتقاعد، يبدو المسلمون أرحم علينا من بعض مطارنة الانتشار الموارنة!

ويضيف المطران المتقاعد: ان رفضنا هذه المقاربة لا يعني إطلاقاً رفضاً لأي من مطارنة الانتشار في أيّة مسؤولية يدعوه الله اليها. فهؤلاء لديهم خبرات روحية وراعوية غنية، ويتمتعون بالمناقبية الأسقفية، التي حكمت تعاطي المطارنة الموارنة مع الاستحقاقات طوال تاريخنا. ولا حاجة لأي منهم للجوء الى معيار العدد لتشكيل حاضنة انتخابية له. وأظنّ آسفاً أن الكلام المذكور يقطع دروب النجاح على أي من المطارنة الذين يتم التداول بأسمائهم بالرغم من صفاتهم الحميدة ومؤهلاتهم الكبيرة. وربما كان وراء هذا الكلام رغبة في إقصاء بعض الأسماء المتداولة من مطارنة الانتشار، مع الإقرار بالدور الإيجابي المتقدّم الذي لعبه هؤلاء المطارنة إبان الأزمة الاقتصادية المعيشيّة في لبنان، من خلال المساعدات الماديّة المقدرة التي وفروها لإخوانهم في لبنان، ومن المؤكد أن لا أحد منهم أقدم على هذه المبادرات التضامنية الأخوية بخلفية التوظيف والاستغلال في أي استحقاق.

البعد المشرقي
لا يتوقف المراقبون عند مقاربة العدد بل يتناولون اعتباراً آخر لا يقلّ أهمية. ويجري الحديث بوضوح حول البعد المشرقي المطلوب توافره «بضرورة قصوى» في أي مرشح لمنصب البطريرك في المستقبل. ويضيف هؤلاء المراقبون المطلعون قائلين: ان اعتبار العدد والامكانيات يقودان الى اعتبار آخر يمكن اختصاره «بغربة» أهل الانتشار عن مجريات الوضع اللبناني. ان لبنان يشكّل الوطن الروحي للموارنة. إليه جاء الموارنة واستوطنوا أرضه الوعرة القاسية، وزرعوها واستنبتوها الخير والزرع لسدّ حاجاتهم، وأسسوا فوقها مشروعهم التاريخي، الذي تجسّد بإعلان دولة لبنان الكبير قبل 125 سنة. وحصّلوا مع شركائهم المسلمين صيغة حضارية فريدة في العالم قادت البابا القديس يوحنا بولس الثاني الى وصف لبنان بالوطن الرسالة. وليس لهذا الوطن أن يستمر خارج مفهوم الرسالة هذا، وليس لهذه الرسالة أن تستمر خارج وحدة اللبنانيين وتحصينها بخياراتهم الدائمة في العيش معاً، وهذه لا تكون إلا بتعميق المسيحيين، والموارنة بصورة خاصة، التزامهم المشرقي وأمانتهم للتراث الذي صنعوه مع المسلمين بشراكة إنسانية حضارية جامعة، ليحفظوا هذا الشرق من الأحادية والأصولية والتطرّف الديني.

ان هذه الأبعاد تشكّل ثوابت البطريركية المارونية التي لم تتبدّل لا بل هي قمة الأهداف التي سعى اليها البطاركة الموارنة طوال تاريخهم، وتحققت في لبنان، وطنهم الروحي.

يحفل تاريخ الموارنة بالتجارب المأساوية التي دفعوا فيها أثمان «غربتهم عن مشرقيتهم وتغرّبهم الى الغرب»، واليوم في زمن التحولات والتحديات المصيرية، وتغيير الخرائط الجغرافية والكيانات السياسية على قاعدة التجزئة والتفرقة والتقسيم، وكلها تحولات يقودها الغرب، هل تتحمّل الجماعة المارونية انعطافاً جوهرياً من تجذرها المشرقي الى هامشية «تغرّبها». انه انعطاف يجافي الماضي، ويتعثر في الحاضر ولا يضمن المستقبل.

سركيس أبو زيد - الديار

The post البطريرك الراعي والمطارنة: وحدة الكنيسة المارونية وتحديات الدور الوطني appeared first on أخبار الساعة من لبنان والعالم بشكل مباشر | Lebanonfiles | ليبانون فايلز.

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا