غزة - خاص قدس الإخبارية: نجحت جهود وقف إطلاق النار في لبنان بإنهاء الاشتباك الذي كاد أن يتحول إلى حرب مفتوحة بين حزب الله ودولة الاحتلال الإسرائيلي، لتنهي بذلك القتال على الجبهة الشمالية الذي بدأه حزب الله في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 دعمًا للشعب الفلسطيني ومقاومته في قطاع غزة
شكّلت هذه الجبهة عامل استنزاف كبيرًا للجيش الإسرائيلي وضغطًا مستمرًا على الجبهة الداخلية، التي شهدت تهجير أكثر من 70 ألف مستوطن من مستوطنات الشمال. كما جسّدت الاشتباكات تطبيقًا عمليًا لمبدأ "وحدة الجبهات"، الذي لطالما خشيت إسرائيل تحققه.
ومع خروج هذه الجبهة الإسنادية من دائرة المواجهة، تخسر المقاومة الفلسطينية عنصرًا مهمًا من الدعم الميداني، في ظل انحياز عالمي واضح بقيادة الولايات المتحدة لصالح الاحتلال. هذا الواقع يضع المقاومة أمام تحديات متزايدة، تتطلب دراسة استراتيجية دقيقة للتعامل مع الضغوط متعددة المستويات، بهدف تحقيق مكاسب مؤثرة، بعد أن فشل الاحتلال في تحقيق اختراق عبر القوة العسكرية، واتجه الآن نحو انتزاع مكاسب من خلال المفاوضات غير المباشرة.
سياقات التهدئة في لبنان
أدى تصاعد نيران الحرب في لبنان إلى إدخال مستويات معقدة في الحسابات السياسية والعسكرية، إذ إن تفاقم المواجهة ووصولها إلى حرب شاملة كان سيشكل "صاعق انفجار" تتعدى تأثيراته الحدود اللبنانية لتطال دول المنطقة والعالم، مهددًا شبكة واسعة من المصالح الدولية المتداخلة في لبنان والشرق الأوسط عمومًا. وفيما يلي أبرز السياقات التي ساهمت في تحقيق التهدئة:
السياق اللبناني
منذ اليوم الأول لإطلاق جبهة الإسناد في 8 أكتوبر/تشرين الأول، سعى حزب الله إلى فرض قواعد اشتباك تُبقي الاستهداف محصورًا في الأهداف العسكرية من الطرفين، بهدف تجنب الضغط على الجبهة الداخلية اللبنانية. إلا أن الاحتلال الإسرائيلي تجاوز هذه القواعد، مُصعّدًا من استهدافه للمدنيين في جنوب لبنان، ما أدى إلى تهجير سكان قرى الجنوب وبعلبك، وصولًا إلى أحياء في مدينة صور الساحلية.
ومع تصاعد موجات النزوح الواسعة والاستهداف المكثف للضاحية الجنوبية في بيروت، ازداد العبء على الجبهة الداخلية اللبنانية، ما جعل احتواء تداعياته أكثر صعوبة على حزب الله. شكّلت قضية النازحين عنصر ضغط كبيرًا على الحزب، مستهدفةً استقراره الداخلي، حيث امتدت تأثيراتها لتطال حلفاءه وخصومه السياسيين على حد سواء.
سياسيًا، واجه حزب الله تحركات مدعومة من الولايات المتحدة وحلفائها، تهدف إلى تقويض نفوذه السياسي والعسكري، مع اتهامات بأن خياراته كانت سببًا في الدمار الذي يعاني منه لبنان. رأت القوى المناوئة للحزب
في هذه اللحظة فرصة لإعادة تشكيل المشهد اللبناني، بما في ذلك محاولة "إزاحته" سياسيًا، وفرض وقائع جديدة أقرب إلى "يوم تالي" لبناني يهدف إلى تقليص تأثير الحزب وحلفائه.
لذلك، لجأ حزب الله إلى مسار التفاوض عبر الدولة اللبنانية، بهدف التأكيد على أنه جزء من النظام الرسمي وليس "دولة داخل الدولة". وأوكل هذه المهمة إلى نبيه بري، زعيم حركة أمل ورئيس مجلس النواب، في إطار التزام بموقف لبناني موحد يطالب بوقف العدوان الإسرائيلي وفض الاشتباك.
أدرك حزب الله أن استمرار الاشتباك قد يؤدي إلى خسائر استراتيجية، ليس بسبب الضربات الإسرائيلية التي أظهر قدرته على تجاوزها، ولكن بسبب تعقيدات الجبهة الداخلية ومحاولات استغلال الوضع لإعادة تشكيل المشهد السياسي اللبناني، بما في ذلك التهديد باستدعاء شبح الحرب الأهلية.
في هذا السياق، بدا اتفاق وقف إطلاق النار، الذي يعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 8 أكتوبر/تشرين الأول دون أن يفرض الاحتلال وقائع جديدة على الأرض، مخرجًا منطقيًا يجنب الحزب خسائر استراتيجية داخلية ويعزز تماسك الدولة اللبنانية.
السياق الإسرائيلي
مع إنهاء إسرائيل للعمليات الكبرى في قطاع غزة وإتاحة المجال لنقل الجهد العسكري إلى شمال فلسطين المحتلة، تبنت حكومة الاحتلال استراتيجية تهدف إلى رفع كلفة المواجهة على حزب الله إلى أقصى حد ممكن، ردًا على دعمه المستمر للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
كثّفت إسرائيل عملياتها في الساحة اللبنانية، معززةً استعداداتها لتوسيع نطاق المواجهة العسكرية. واستندت في ذلك إلى عقود من الجهود الاستخباراتية التي ركزت على حزب الله باعتباره التهديد الأكبر في محيطها. برز هذا التصعيد بوضوح في سلسلة من الهجمات، بدأت بـ"هجوم البيجر" وامتدت لاستهداف قيادات بارزة مثل الأمين العام السيد حسن نصر الله، ورئيس المجلس التنفيذي السيد هاشم صفي الدين، بالإضافة إلى غارات طالت مخازن أسلحة ومنشآت اقتصادية زعمت إسرائيل أنها تشكل عمودًا فقريًا لقدرات المقاومة اللبنانية.
كانت الرؤية الإسرائيلية تعتمد على أن هذه الضربات ستؤدي إلى زعزعة قيادة حزب الله وإفقاده توازنه الميداني، مما قد يجبره على التراجع وتقديم تنازلات كبيرة تُمكّن "إسرائيل" من فرض وقائع جديدة تخدم استراتيجية بنيامين نتنياهو في تغيير "شكل الشرق الأوسط". ولتحقيق ذلك، نفّذت إسرائيل مناوشات برية محدودة في القرى الحدودية، مع طموحات واسعة للوصول إلى نهر الليطاني.
لكن هذه الحسابات لم تثمر عن النتائج المرجوة. فقد تمكن حزب الله من التكيف سريعًا مع الضغوط الميدانية، مستعيدًا زمام المبادرة بشكل كامل، مما أدى إلى إحداث معادلة مواجهة جديدة رفعت كلفة التحرك البري الإسرائيلي وألحقت خسائر كبيرة بصفوف قوات الاحتلال. بالتوازي، وسّع الحزب نطاق عملياته الصاروخية ليشمل العمق الإسرائيلي، مستهدفًا مستوطنات المركز وتل أبيب بصواريخ نوعية أصابت منشآت عسكرية حساسة.
هذا التعقيد الجديد كشف عن مأزق عسكري إسرائيلي في الساحة اللبنانية، حيث فشلت في تحقيق أهدافها الاستراتيجية أو إرغام حزب الله على تقديم تنازلات حقيقية. ورغم الدعاية الإسرائيلية التي ركزت على الضربات الكبرى ضد الحزب، أظهرت المعركة قدرة المقاومة اللبنانية على الاحتفاظ بقدراتها التسليحية وزيادة الكلفة الميدانية لأي تحرك إسرائيلي، خاصة على الصعيد البري. أمام هذا التصعيد، اضطرت حكومة الاحتلال إلى البحث عن مخرج سريع يقلل الخسائر مع الحفاظ على صورة "الإنجازات" التي حاولت تسويقها إعلاميًا.
السياق الإقليمي
منذ بداية "طوفان الأقصى"، سادت مخاوف إقليمية من احتمال توسع الاشتباكات لتشمل دول المنطقة، مما دفع العديد من هذه الدول إلى بذل جهود مكثفة لحصر المواجهات ومنع تحولها إلى حرب إقليمية واسعة. لجأت هذه الدول إلى استخدام أدواتها السياسية وأوراقها الداخلية، خاصة في لبنان، لتشكيل ضغط على حزب الله بهدف تقليص نطاق الاشتباك وفصل ارتباطه المباشر بالحرب في غزة. يُذكر أن بعض هذه الدول تمتلك نفوذًا مباشرًا على الساحة السياسية اللبنانية، مما جعلها فاعلًا رئيسيًا في مسارات التفاوض مع القوى الدولية.
على صعيد آخر، مارست الدول الإقليمية ضغوطًا على الولايات المتحدة لتفعيل دورها في وقف التصعيد العسكري في لبنان، خشية أن يؤدي توسع المواجهات إلى تهديد أمنها الداخلي أو وضعها على خط المواجهة. كان هذا التخوف ملموسًا في ظل المناوشات المحدودة بين إسرائيل وإيران، والتي زادت من حساسية الدول العربية تجاه إمكانية انزلاقها إلى صراع إقليمي.
في السياق ذاته، وبعدما أثبت حزب الله قدرته على التعافي من الضربات الإسرائيلية والحفاظ على تماسكه القيادي والميداني، تراجعت رهانات بعض الدول الإقليمية على انهياره أو إضعافه بشكل جوهري. لذلك، تغيرت أهدافها إلى تقليص الخسائر الناجمة عن استمرار المواجهات، بدلًا من السعي إلى تحييد الحزب أو إخراجه بالكامل من معادلة القوة اللبنانية.
أما بالنسبة لإيران ومحور المقاومة، فإن حزب الله يمثل نقطة الارتكاز الأساسية في مواجهة إسرائيل. الخشية على تضرر قدراته دفعت أطراف المحور إلى تغليب خيار السعي نحو تهدئة مرحلية تتيح للحزب فرصة لتعويض خسائره الميدانية وإعادة ترتيب أوراقه.
السياق الدولي
مع اقتراب انتهاء ولاية إدارة بايدن ودخولها مرحلة "البطة العرجاء"، وفي ظل فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية، أعادت إدارة بايدن ترتيب أولوياتها في الشرق الأوسط. جاء إنهاء القتال على الجبهة الشمالية كخطوة استراتيجية لتحسين صورتها الأخلاقية على الساحة الدولية، في ظل الانتقادات الموجهة لدورها في دعم الحرب الإسرائيلية على غزة، وتقليل احتمالية تحقيق ترامب مكاسب سياسية عبر طرح مبادرات سلام شاملة تنهي النزاعات في المنطقة.
في هذا الإطار، سعت فرنسا لاستثمار التطورات القانونية على الساحة الدولية، خصوصًا مع قرار محكمة الجنايات الدولية بإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. قدمت باريس ضمانات سياسية وقانونية لنتنياهو بعدم تعرضه للاعتقال في حال زيارته الأراضي الفرنسية، مما عزز دور فرنسا كوسيط فعال في مفاوضات التهدئة.
من جانبه، رأى نتنياهو في إنهاء القتال شمال فلسطين المحتلة فرصة استراتيجية لفصل الجبهات وتخفيف الضغوط الأمريكية. الخشية من قرارات دراماتيكية من إدارة بايدن، مثل تقليص شحنات السلاح أو الدفع نحو قرارات حازمة في مجلس الأمن، دفعته إلى تبني مسار التهدئة. كما أشار نتنياهو إلى أن الحفاظ على تدفق الإمدادات العسكرية الأمريكية كان من الدوافع الأساسية وراء التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار.
علاوة على ذلك، فإن إنهاء الاشتباك في الشمال يمنح نتنياهو فرصة لتقليل الضغوط المحتملة من الرئيس المنتخب دونالد ترامب. مع خفض خطر تصاعد المواجهة إلى حرب إقليمية، سيقل اندفاع ترامب نحو فرض تهدئة شاملة تشمل قطاع غزة، مما يتيح لنتنياهو هامش مناورة أوسع لإدارة المعركة الميدانية والسياسية هناك.
الموقف الفلسطيني
ارتكزت الفصائل الفلسطينية في موقفها من اتفاق التهدئة اللبنانية على تقدير واعٍ لطبيعة المشهد اللبناني، والتضحيات التي قدّمها حزب الله في دعمه لجبهة الإسناد، التي استمرت لأكثر من عام لدعم الشعب الفلسطيني ومقاومته. أدركت قوى المقاومة الفلسطينية مسبقًا المسار الحالي لجهود وقف إطلاق النار وفرص نجاحها، والتي يُرجح أنها نوقشت عبر قنوات الاتصال المباشرة مع حزب الله.
تعي المقاومة أن لكل ساحة خصوصيتها ومساحة مناورتها، وأن التحالف مع حزب الله يتجاوز حدود الاشتباك المباشر ليشمل أبعادًا استراتيجية أوسع. ترى المقاومة الفلسطينية في سلامة بنية حزب الله وحاضنته الشعبية مكسبًا استراتيجيًا يمكّنها من التحرك ضمن مشهد إقليمي يتسم بتضييق مساحات المناورة المتاحة أمام الفصائل الفلسطينية للحضور السياسي والتحرك الميداني.
مآلات المشهد في قطاع غزة
يمثل توقف جبهة الإسناد اللبنانية خسارة مهمة للمقاومة الفلسطينية، التي كانت تعتمد عليها كإحدى الأوراق القليلة للضغط في مواجهة الاحتلال. شكّل مشهد "وحدة الجبهات" وخطر الحرب الإقليمية عامل ضغط دوليًا على إسرائيل، حتى وإن لم يُجبرها على تقديم تنازلات جوهرية. مع زوال هذا الخطر، تتراجع قدرة المقاومة على الاستفادة من هذا الضغط.
من المتوقع أن تواجه المقاومة الفلسطينية جبهة واسعة من الضغوط الدولية والإقليمية. أبرز المؤشرات على ذلك إعلان قطر تجميد الوساطة في المفاوضات، إلى جانب الضغوط المتزايدة على قيادة حماس. وقد صرّح الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بوضوح أن الإفراج عن "الرهائن" هو الخيار الوحيد أمام حماس، بينما أشار وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إلى أن وقف إطلاق النار في لبنان يقرّب من إتمام صفقة في غزة. هذه الضغوط تستند إلى فرضية أن خسارة المقاومة لجبهة الإسناد ستدفعها لتقديم تنازلات جوهرية.
من جانبه، يرى رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أن الاتفاق مع لبنان يعزل المقاومة الفلسطينية ويضعها في موقف أضعف، مما يعزز طموحه في انتزاع تنازلات أكبر، خاصة في ملف تبادل الأسرى، دون تقديم أي تنازلات جوهرية، مثل الانسحاب الكامل من قطاع غزة أو وقف العدوان بشكل كامل.
تحديات المرحلة القادمة
تواجه المقاومة الفلسطينية ضغوطًا هائلة تتطلب التركيز على ثلاثة مسارات رئيسية:
محورية ملف الأسرى
يبرز ملف تبادل الأسرى كأهم محور في المفاوضات القادمة. سيعود هذا الملف إلى الصدارة مع تبدّد العناوين التي روج لها رئيس وزراء الاحتلال لأشهر باعتبارها أولويات ضمن أهداف الحرب. يشكّل اتفاق وقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية مادة مهمة للمعارضة الإسرائيلية للضغط، حيث يُثار احتمال الوصول إلى اتفاق مشابه في قطاع غزة.
في هذا السياق، تسعى حكومة نتنياهو لاستغلال الوضع الحالي لتحصيل صفقة تبادل أسرى بدون تقديم مقابل جوهري يمس مستقبل الحرب، وذلك لتحقيق مكاسب داخلية وسياسية.
في المقابل، تحتاج المقاومة إلى إبراز موقف تفاوضي قوي ومتسق مع مطالبها الرئيسية، مع الحفاظ على وحدتها السياسية والميدانية، بما يمكّنها من استثمار ورقة الأسرى بالشكل الأمثل. يجب عليها كذلك منع تغير المعادلات الإقليمية وزخم جبهات الإسناد من خلق واقع يفرض عليها قبول حلول جزئية تحمل أثمانًا استراتيجية تمس جوهر مستقبل القضية الفلسطينية.
وكمحصلة، فإن الرئيس الأمريكي العائد إلى البيت الأبيض يحمل معه ملفات متعددة لصفقات يقع الشرق الأوسط ومعادلة الصراع فيهما في صلبها. وبالتالي، فإن الحفاظ على جذوة المواجهة والاشتباك سيمثّل تثبيتًا لمركزية الملف الفلسطيني في تحديد المعادلات المستقبلية في الشرق الأوسط، ومنع تحول تصفية القضية الفلسطينية إلى مجرد عنوان فرعي على طاولة صناع السياسة الدولية.
لقد حقق طوفان الأقصى مجموعة من المنجزات الاستراتيجية، يقع في جوهرها إعادة الزخم للقضية الفلسطينية. لذلك، فإن أي تنازل فلسطيني يشرعن الاحتلال أو يساهم في تقسيم التمثيل الفلسطيني وتهديد كيانه سيعني في جوهره تهديدًا لكل هذه المنجزات، التي عُمّدت بتضحيات الشعب الفلسطيني على مدار أكثر من عام من حرب الإبادة، والتي فشل خلالها الاحتلال في تحقيق أهدافه المُعلنة.
إن المرحلة القادمة تُشكّل عنق الزجاجة، مما يتطلب استراتيجية فلسطينية طويلة النفس قائمة على الصمود والرفض، للحفاظ على الحقوق الفلسطينية ومنع محاولات حسمها إسرائيليًا.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا