Skip to main content

هكذا أحال النظام الدولي دول العالم الإسلامي إلى بلاد محتلة

05 شباط 2025

هكذا أحال النظام الدولي دول العالم الإسلامي إلى بلاد محتلة

5/2/2025
جاءت الدولة القومية أكفأ من سابقتها في تعهد مشروع الاستيطان والإبادة بركائزه الأربعة: الإمبريالية والرأسمالية والعنصرية والفاشية (غيتي إيميجز)

في نهاية كل عام، تصدر عشرات التقارير حول وضع الديمقراطية، تقدمًا وتراجعًا، بمختلف دول العالم. وهناك مؤشرات أو مقاييس "كمية" للديمقراطية تقيس أداءَها بجملة عوامل تحدد المستوى رقميًا بكل دولة، وترتيبها بين دول العالم.

هناك شبكات غربية من عشرات المنظمات ومراكز التفكير، ومراصد المراقبة تهتم بحالة الديمقراطية، بعضها حصان طروادة لاختراق نخب دول العالم وتكوين ناشطين، بالتمويل والمؤتمرات، وبرامج تدريب وورش عمل، قد تُفضي لمصائد التجنيد والتحريض، وثورات ملوّنة وانقلابات جيوسياسية باسم التحول الديمقراطي.

يُفترَض أن تتابع هذه التقارير عناصرَ "الممارسة الديمقراطية" من حريات شخصية وصحفية وتعددية حزبية ونزاهة انتخابية وحرية التجمعات وتداول السلطة. وترصد معززاتِ الديمقراطية: تشريعاتٍ وسيادة القانون وحقوقًا مدنية وحق الاقتراع وحصانة صناديقه، وعوامل تراجعها من انقلابات عسكرية ودكتاتوريات وسيطرة أمنية ونزعات فاشية وشعبوية وعنصرية.

وقد ذكر باحث مرموق، يتابع الركود الديمقراطي، أن 2024 شهد تنظيم 77 انتخابًا حول العالم، في حين وجدت تقارير رصد الديمقراطية عام 2006 أن 120 دولة تتبنى النظام الديمقراطي، مما يطرح مخاوف جدية حول تراجع الديمقراطية والقناعة بجدواها كنظام مثالي.

إعلان

الثورة المضادة (العربية)

من أسباب ذلك، تفاقم الفساد وعجز مكونات النظام الديمقراطي المحلي عن الرقابة والمحاسبة ووضع حد له. لكن الأهم تدخل قوى كبرى، تزعم نشر الديمقراطية وتفرضها بالإكراه، وتتواطأ على الديمقراطيات عندما لا تذعن لإملاءاتها.

لقد أجمعت ثورات الربيع العربي على الديمقراطية خيارًا مصيريًا، ودخلت التحول الديمقراطي طوعًا، وسلمت بفرضياته ومتطلباته، لكن تم إجهاض ذلك بحصار وضغوط وانقلابات الثورة المضادة (العربية)، حليفة الغرب والكيان الصهيوني، وامتنعت دول التحالف الغربي حتى عن توصيفها كانقلابات، لئلا تتخذ إجراءات ضدها.

اعتبرَت بعض الدراسات، القرن الماضي قرن الازدهار الديمقراطي. لكنها تُغفِل أن الحرب الباردة بين القوتين العظميين قيدت قدرتهما على التدخل في شؤون النظم الديمقراطية، وغير الديمقراطية. والحقيقة أن كعب أخيل التحول الديمقراطي ومأزقه التاريخي تحديات إستراتيجية وتهديدات جيوسياسية.

فمعظم الأمم الراغبة بالتحول الديمقراطي تتسم بالهشاشة إزاء تغول الهيمنة الإمبريالية، لأنها مخترقة نُخبويًا وأمنيًا وعسكريًا وتابعة اقتصاديًا، لا قدرة لها على الدفاع عن نفسها أو استرداد أرضها من الاحتلال والعدوانية الصهيونية والإمبريالية، إلا بخضوع تام لسياسات وإملاءات إمبريالية وتبعية تامة للمركز الغربي. بل يكاد يكون شرط "استقرار" أي نظام "ديمقراطي" أو غيره في دول الهشاشة هو استمرار وتكريس التبعية للغرب الرأسمالي وهيمنته الإمبريالية.

العسكر وأزمة الديمقراطية

درس باحثون أسباب استقرار الممارسة الديمقراطية بالهند، وتعثرها المزمن بباكستان نتيجة انقلابات الجيش الباكستاني وتدخله المتواصل في شؤون الأحزاب السياسية واستتباعها وتدبير انقلاباتها الداخلية أو إقصائها، بحيث عجزت الحركة الوطنية عن إنتاج تيار وطني رئيس يقود البلاد، ويضمن الاستقرار وتداول السلطة بين مكوناته.

إعلان

في ظل تهديدات وجودية محدقة بباكستان من قِبل الهند أدت لحروب أفقدت الأولى شطرها الشرقي، والخنق والحصار الأميركي خاصة بعد تسلح باكستان نوويًا ردًا على الابتزاز النووي الهندي، قامت المؤسسة العسكرية بدور مركزي في إدارة شؤون البلاد منذ الاستقلال، ونصبت نفسها مرجعًا أعلى للدولة.

لذلك، ثمة نمط متكرر من تدخلات العسكر الرامية لإبعاد الأغلبية عن السلطة وإقصاء أحزاب "مناوئة" لتدخلاتها ورعاية أحزاب مُدَجّنة وتسليمها السلطة، وبلا شرعية شكلية. ويتم التلاعب بمحاكم عليا، وشراء ذمم سياسيين ونواب لإحداث انشقاقات وأزمات بحكومات منتخبة، فنادرًا ما تكمل أي حكومة فترتها الدستورية.

من أكثر الأحزاب تمسكًا بالديمقراطية بباكستان، رغم أنها نادرًا ما تحكم، سنجد أحزابًا وجمعيات ذات مرجعية إسلامية، كالجماعة الإسلامية وغيرها، منذ تأسيس باكستان بقيادة زعيم الرابطة الإسلامية لمسلمي الهند، "قائد أعظم" محمد علي جِناح (1876-1948)، وهو علماني ذو خلفية إسماعيلية.

وبعد رحيله ووقوع انقلاب الجنرال أيوب خان، ترشحت زعيمة المعارضة فاطمة جِناح (1893-1967)، الأخت الصغرى لقائد أعظم، وحظيت بدعم الجماعة الإسلامية بزعامة السيد أبو الأعلى المودودي (1903-1979)، منظر الحركة الإسلامية بالنصف الأخير من القرن الماضي. وما زالت القوى الإسلامية قادرة على الحشد والاحتجاج والتظاهر ضد الفساد السياسي، ونصرةً للخيار الديمقراطي وقضايا الأمة.

ثغور وحدود دامية

وقد يسأل سائل: لماذا أُنجز التحول الديمقراطي بدول شرق ووسط أوروبا، ولم يحدث في جمهوريات آسيا الوسطى (السوفياتية السابقة)؟ وهي سبع دول إسلامية عدا أرمينيا. استبدلت معظم هذه الدول بنظمها الشيوعية السابقة نظمًا قومية شمولية تحت سيطرة بيروقراطية الأحزاب الشيوعية الحاكمة سابقًا وأجهزتها الأمنية وإجراءات (ديمقراطية) شكلية لشرعنة النظم الجديدة وانقلاباتها الداخلية مع تغيير أيديولوجي أتى بقومية سلطوية عاجزة واقتصاد رأسمالي نيوليبرالي محا مكتسبات عدالة اجتماعية سابقة.

إعلان

تعاني معظم هذه الدول عسرًا اقتصاديًا، وتهديدات جيوسياسية وهيمنة روسية وعائلات تتوارث الحكم وأزمات هوية، فاستبدل بعضها الأبجدية اللاتينية بدل الروسية في كتابة لغته! ناهيك عن إنجاز تحول ديمقراطي.

لقد أحال النظام الدولي الإمبريالي دول العالم الإسلامي من مناطق مستقرة جيوسياسيًا بأهلها وإثنياتها وحضاراتها إلى بلاد محتلة أزمانًا طويلة و"ثغورًا" متنازعًا عليها وساحات "حروب".

وكان صامويل هنتنغتون في مقاله الشهير "صدام الحضارات" بمجلة فورين أفيرز، قد أشار لـ"حدود دامية" تحيط بأقطار العالم الإسلامي (كمؤشر على عدوانية المسلمين وتورطهم في صراعات مزمنة!)، وإن لم تكن حدود جميع أقطارهم دامية، فهي هدف "طبيعي" للنفوذ الغربي والهيمنة الإمبريالية. لا يتيح التهديد الجيوسياسي المستمر والاختراق الغربي استقرارًا سياسيًا أساسه نظام تمثيلي تعددي، حر وحقيقي، يعبر عن اختيارات الأمة في أي من أقطارها.

الديمقراطية والمشروع الإمبريالي

هناك سياق تاريخي لنشوء النظام الديمقراطي عن الدولة القومية الأوروبية الحديثة بدل الدولة الإمبراطورية، عقب انتهاء الحروب الدينية وسلام معاهدة ويستفاليا (1648). وواكب ذلك انطلاق حركة الاستعمار والاستيطان الأوروبي في القرن 16، وكذلك المرحلة الميركانتيلية التجارية التي شهدت تأسيس شركات الهند الشرقية (المسلحة).

جاءت الدولة القومية أكفأ من سابقتها في تعهد مشروع الاستيطان والإبادة بركائزه الأربعة: الإمبريالية والرأسمالية والعنصرية والفاشية، ورؤية معرفية إمبريالية تنكر التكريم الإلهي للإنسان وتتسم بعنصرية وصراعية ومركزية أوروبية نافية.

جاء الانتقال لنموذج الدولة القومية بحقوق مواطنة، وتعددية حزبية، وضوابط وتوازنات دستورية، وبرلمانات منتخبة، وفصل بين السلطات، لأجل بناء الأمم الأوروبية وتحرير الأقنان والمهمشين لتجنيدهم بالمشروع الإمبريالي، وكانت المرأة آخر من نال حق الترشح والانتخاب نظرًا لعدم أو محدودية فائدتها له.

إعلان

امتد دور الدولة القومية من تشكيل النظام الأوروبي إلى تعميم النموذج ورؤيته المعرفية دوليًا، فغدا جوهر نظام دولي يستبيح العالم ويسحق البشرية قرونًا، فشهدت استعمارًا واستيطانًا وقهرًا وإبادةً ونهبًا وإفقارًا وتجويعًا، وتدميرًا لحضارات وثقافات إنسانية بأنحاء العالم.

الاستقلال والعدالة الاجتماعية والتمكين

في العالم الإسلامي، جاءت المسألة الشرقية والتحديث الأوروبي الإمبريالي تحديًا وجوديًا هائلًا فرض عليه مسارًا تحديثيًا متعجلًا في القرن 19 استهدف الجيش والدولة، في الدولة العثمانية، ودولة محمد علي باشا، وإيران القاجارية، وفكّك مؤسسات الاجتماع التاريخية بها، ونقلها إلى نموذج الدولة القومية بمركزيتها وجبايتها وسلطويتها وتهميشها للأمة. وما زال فارق التحديث والتمكين واسعًا بين المركز (الدولة) والأطراف (شعوبها) مكرّسًا توازنًا مختلًا بين الدولة والأمة، وغدت الدولة ضد الأمة.

لذلك، لا تحولَ ديمقراطيًا ونظامًا تمثيليًا حقيقيًا دون علاج الاختلالات السابقة ببرنامج ثلاثي الأركان:

  1. استقلال كامل يمنع الاختراق ويردع التدخل الأجنبي ويعزز المناعة الوطنية.
  2. عدالة اجتماعية تعيد توزيع الثروة بآليات عديدة تنتمي لأصول الاجتماع العربي الإسلامي التاريخية والحضارية وتعضد السلام الاجتماعي.
  3. تمكين الأمة وتوسيع المشاركة الشعبية بدوائر صنع القرار والسلطة المحلية والمركزية وردع تغول الدولة وتوسيع مساحة الأمة.

ينبغي بناء إجماع واسع على هذا البرنامج، وأن تناضل الحركات الوطنية بكافة تشكيلاتها وألوانها لتحقيقه وصولًا لحياة ديمقراطية شاملة.

إذًا السبب الأهم في الركود الديمقراطي هو هشاشة الدول والتهديدات الجيوسياسية وضعف المناعة الإستراتيجية، فغاية أي ديمقراطية أو نظام تمثيلي أو حكم رشيد هي تمثيل الأمة وحفظ هويتها ومصالحها وإنفاذ إرادتها المستقلة الحرة رغم رياح الهيمنة الإمبريالية العاتية.

إعلان

هذا ربما ما لا تلتفت إليه التقارير الصادرة سنويًا حول أوضاع الديمقراطية في العالم ومؤشراتها، وهي ترصد تراجع الديمقراطية، خلال السنوات الماضية، وانكسار موجة التحول الديمقراطي بعد صعودها أوائل التسعينيات الماضية عقب تفكك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، وانهيار النظم الشيوعية الحاكمة شرق ووسط أوروبا.

للمفارقة، لا تنفصل الدوافع الكامنة لهذه الموجة عن التوجه نحو عضوية الاتحاد الأوروبي لتحقيق الأمن الاقتصادي وعضوية حلف الأطلسي؛ لتحقيق الأمن القومي والاستقرار الجيوسياسي!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا