عاصمة الثقافة الأوروبية 2025.. مدينة واحدة عبر دولتين فرّقتهما الانقسامات التاريخية
8/2/2025-|آخر تحديث: 8/2/202503:02 م (توقيت مكة)للمرة الأولى في تاريخها، ستكون صفة "عاصمة الثقافة الأوروبية" هذا العام عابرة للحدود، حيث ستجمع بين مدينتي نوفا غوريتسا في سلوفينيا وغوريزيا في إيطاليا، وهما مدينتان كانتا في الماضي مدينة واحدة قبل أن تقسمهما معاهدة باريس عام 1948.
تتذكر المخرجة الوثائقية أنيا ميدفيد كيف كانت جدتها تعاني ألم الانفصال عن عائلتها بعدما قسّمت المعاهدة مسقط رأسها غوريزيا بين إيطاليا ويوغوسلافيا عقب الحرب العالمية الثانية. لكن مع مرور الزمن، تغير المشهد، فقد اختفت الأسلاك الشائكة التي مزّقت المدينة، وانضمت سلوفينيا إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004، ثم إلى فضاء شنغن، مما ساهم في إزالة الحدود بين المدينتين.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsلم يكن هذا التقسيم مجرد خط سياسي، بل غيّر ملامح الحياة في المنطقة، إذ قررت السلطات اليوغوسلافية عام 1948 بناء مدينة جديدة شرقي غوريزيا ترمز إلى قوة الشيوعية، فاصلة بذلك بين السكان الذين وجدوا أنفسهم في واقع مختلف على جانبي الحدود، حيث فصل بينهم خط للسكك الحديدية وحقول وحدائق وساحات مقسّمة.
قضت ميدفيد حياتها في استكشاف هذا الإرث الحدودي، واصفة إياه بـ"كنز من المعلومات والجروح التي خلّفتها فظائع التاريخ والندوب الدائمة". واليوم، وهي في 56 من العمر، تحتفظ بذكريات مختلفة تمامًا عن تجربة جدتها القاسية. فمع تخفيف القيود الحدودية في الستينيات، حصل السكان على تصاريح مرور، مما سمح لهم بالتنقل بحرية كبرى، وفتحت أمامها أبواب عالم مختلف على الجانب الإيطالي.
إعلانتقول ميدفيد، التي كانت في صغرها تهوى ركوب دراجتها نحو إيطاليا، إن مجرد عبور الحدود كان يمنحها شعورًا بالحرية، رغم أن المشهد لم يكن يبعد سوى بضعة كيلومترات. وتضيف "كان كل شيء مختلفًا، من الرائحة إلى الألوان والحافلات".
وترى أن المشروع الثقافي هذا العام يحمل دروسًا قيّمة لأوروبا، مؤكدة أن أهم ما يمكن استخلاصه من التجارب والشهادات التي جُمعت عبر العقود هو أن "الحروب لا تقدّم حلولا".
"بلا حدود"
تحت شعار "بلا حدود"، تنطلق السبت فعاليات عاصمة الثقافة الأوروبية، والتي تضم أكثر من 400 حدث ثقافي تهدف من خلالها إلى استعادة الماضي المؤلم، وأيضًا إلى إزالة الحواجز الذهنية، وفق ما تؤكد مديرة الحدث ميا لوربيك.
تشكل المدينتان وجهين مختلفين لتاريخ واحد: غوريزيا بتاريخها الذي يمتد لأكثر من ألف عام، تحتضن مزيجًا من الأساليب المعمارية الأوروبية الوسطى بشوارعها المرصوفة بالحصى ومبانيها الملونة. أما نوفا غوريتسا، التي تأسست قبل ثمانية عقود، فتتميز بطابعها الاشتراكي الحداثي حيث الشوارع الواسعة والحدائق والجامعات.
لكن المصائر تبدّلت مع الزمن، إذ باتت نوفا غوريتسا، التي يقطنها 13 ألف نسمة، وجهة محببة ونابضة بالحياة، في حين شهدت غوريزيا تراجعًا سكانيا وانخفاضًا في النشاط الاقتصادي، حيث تقلص عدد سكانها إلى النصف خلال الثلاثين عاما الماضية ليصل اليوم إلى 32 ألف نسمة.
مدينتان.. مصير واحد
يرى أندريا بيلافيته، الناشر الإيطالي ومؤلف دليل سياحي عن المدينتين، أن العلاقة بينهما تشبه "أختين متعارضتين تمامًا، لكن من خلال التقارب يمكنهما أن تصبحا نموذجا يُحتذى به في أوروبا". ويشير إلى أن العداء الذي ساد في الماضي تلاشى وحلّت محله أشكال متعددة من التعاون، وربما سنشهد قريبًا "اختفاء الجدار" الذي لا يزال يفصل بينهما في أذهان الناس.
في هذه المنطقة الغنية بالتاريخ، تقدم فعاليات عاصمة الثقافة الأوروبية فرصة فريدة للكشف عن كنوز ثقافية غير معروفة مثل قبر الملك شارل العاشر، آخر حكام فرنسا من سلالة بوربون.
بعد تنازله عن العرش، لجأ الملك إلى النمسا والمجر، متنقلًا بين براغ وهذه المدينة الصغيرة ذات المناخ المعتدل، التي كانت تُعرف آنذاك باسم "نيس هابسبورغ"، حيث توفي عام 1836 بسبب المرض.
في تقسيم 1947، ورثت إيطاليا قلعة غوريزيا التي تعود إلى العصور الوسطى، بينما أصبحت سلوفينيا موطن دير الفرنسيسكان في كوستانييفيكا، الواقع على تل يطل على نوفا غوريتسا، حيث يرقد الملك وخمسة من أفراد عائلته في مثواهم الأخير.
إعلانبابتسامة فخر، تشير أمينة مكتبة الدير ميريام بريسيلي إلى المكان الذي كان بإمكان شارل العاشر رؤيته وهو على فراش موته عبر النافذة، قائلة "نحن السلوفينيين ليس لدينا ملك خاص بنا، لذا فإن شارل العاشر هو الملك الوحيد المدفون على أرضنا".
أما المخرجة الوثائقية أنيا ميدفيد فترى في هذا الحدث "مفارقة حدودية"، وتتساءل مازحة "من كان ليتصور أن ملكا فرنسيًّا سيُدفن في نوفا غوريتسا، المدينة الاشتراكية؟"، مؤكدة أن "التاريخ لا يمكن أن يُقرأ من خلال القوالب النمطية".