بيروت - خاص قدس الإخبارية: لم تبدأ الحرب على لبنان استمرارًا لحرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، حتى سارعت قوى مختلفة في الساحة السياسية اللبنانية الداخلية لاستغلال الاغتيالات التي نفذها الاحتلال بحق قيادات في أجهزة المقاومة اللبنانية، وعلى رأسهم الأمين العام لحزب الله الشهيد حسن نصر الله، في تثبيت وقائع سياسية جديدة، تعزز الحراكات الأمريكية وبعض الأطراف الأوروبية من رواية أنها في إطار حرب سياسية تتزامن مع العسكرية تتوافق مع رؤية لــ"تغيير الشرق الأوسط" بعيداً عن قوى المقاومة فيه.
لبنان البلد شديد التعقيد الذي فيه قضية سياسية أو خدماتية صغيرة قد تتحول إلى عنواناً لحراك سياسي لأسابيع وربما شهور، وقد تمتد لتصبح ملفاً إقليمياً بين القوى المختلفة المتنافسة في المنطقة، خبر حروباً كثيرة في العقود الماضية كان عنوانها إحداث تغيير سياسي عميق على وقع أصوات الرصاص والمدافع.
في أوج الحرب الأهلية التي كان اليمين "الانعزالي" أحد أطرافها ممثلاً بحزب الكتائب وحلفائه في مقابل منظمة التحرير الفلسطينية وقوى الحركة الوطنية اللبنانية، انسلت استخبارات الاحتلال بداية لتمهد الطريق للمستوى السياسي الإسرائيلي، حيث جرت العادة في دولة الاحتلال على أن تكون مقدمات العلاقات التي تنسج في الظلام أمنياً من صنع أجهزة الاستخبارات، إلى المشهد اللبناني عبر اتصالات مع جهات معادية للفلسطينيين لعرض تزويدها بالسلاح لقتال عدو الطرفين، ثم تطورت إلى الحد الذي صار فيه أرئيل شارون وزير جيش الاحتلال حينها يحلم بتغيير للشرق الأوسط من بوابة لبنان.
أجواء اجتياح 1982 التي توجت باختيار رئيس جديد للبنان هو بشير جميل حليف شارون، لا تغادر العقل اللبناني ومن كانوا شهوداً على هذه المرحلة ومن قرأوا عنها أو عاشوا آثارها، وهذا ما حضر في المؤتمر الصحفي الذي عقده مسؤول العلاقات الإعلامية في حزب الله محمد عفيف يوم أمس حين وجه رسالة تحمل عدة رسائل لكل الأطراف: "نحن لسنا في 1982".
القيادي في الحزب الذي أكد على أن الوقت للحراكات السياسية لاستغلال التغييرات "بدري عليها"، وأكد على قوة المقاومة في الميدان وقدرتها على إلحاق ضرر جسيم بقوات الاحتلال التي ما زالت منذ أيام تراوح في حركتها العسكرية على الحافة الأمامية من الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، وتتلقى آلياتها وقواتها الخاصة منها أو تلك في فرق المشاة ضربات نوعية وعلى الهواء مباشرة عبر كاميرات الإعلاميين المسلطة على المنطقة.
زعيم حزب "القوات اللبنانية"، سمير جعجع، أحد رموز القوى المعارضة لحزب الله والاسم الذي كان حاضراً طوال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية في مواجهة منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وحتى في مواجهة قوى مسيحية كانت حليفة له في ذات الأهداف، نزل بقوة في سياق الحراك السياسي اللبناني المتعدد الجهات والأهداف ودعا إلى اجتماع في معراب للدعوة لتطبيق قراري "1701" و"1559" الدوليين والجوهر الرئيسي فيهما هو "سحب سلاح الميلشيات وحلها"، كما جاء نصاً، وبالتأكيد فإن المستهدف الأساسي هو سلاح حزب الله الذي يقاتل حالياً في وجه جيش الاحتلال.
مصادر لبنانية قالت إن نواب تحالف "قوى التغيير" ميشال الدويهي، ومارك ضو، ووضاح الصادق والنائب المستقل بلال الحشيمي، ورئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، والنواب السابقين أحمد فتفت، وفارس سعيد، ومصطفى علوش، وحزب "الكتلة الوطنية"، لن يحضروا الاجتماع، وسط غياب للنواب السنة باستثناء أشرف ريفي، وهؤلاء جميعاً مشتركون في الخصومة مع حزب الله، لكنهم يرون أن جعجع يتصرف بـ"فردية" وعليه التشاور مع كل الأطراف التي تتفق على معظم الأهداف. بينما أكدت المصادر أن سعد الحريري الغائب عن المشهد السياسي منذ فترة طويلة قرر عدم الانخراط في هذه التحركات واستغلال العدوان الإسرائيلي لتحقيق نتائج سياسية.
الضربات الأمنية التي نفذتها استخبارات الاحتلال في لبنان ابتداء من الهجمة الإرهابية عبر تفجير أجهزة "البيجر"، ثم اغتيال قيادات في الصفوف العسكرية الأولى، وصولاً إلى اغتيال الأمين العام حسن نصر الله، والقصف المكثف والمجازر التي تركزت في الغالب الأعم منها ضد البيئة الشعبية والاجتماعية الحاضنة للحزب، جعلت الإدارة الأمريكية تتحرك على وقع ما تروج له أن ضعفاً أصاب الحزب، لذلك دعا وزير خارجيتها أنتوني بلينكن والسفيرة الأمريكية في لبنان إلى تغيير يجعل الحزب على هامش الحياة السياسية في لبنان، وبعيداً عن الحكومة التي يشارك فيها بوزراء منذ سنوات.
تؤكد مصادر لبنانية أن العرض الأمريكي المطروح على لبنان لا يظهر إلا أنه محاولة لتحويل ما تراها "إنجازات" عسكرية وأمنية إسرائيلية، إلى نتائج سياسية، ووصفت أخرى بأنه لا يتجاوز كلمة "الاستسلام"، أي انتخاب رئيس يتوافق مع برنامجها وبرنامج المعارضين للحزب، وتطبيق القرارات الدولية التي تدعو إلى سحب سلاحه، وحتى التعديل على قرار 1701 الذي أصبح لا يفارق ألسنة السياسيين من كل الأطراف.
وتشير المصادر إلى فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والسعودية تطالب باختيار قائد الجيش اللبناني، جوزيف عون، رئيساً بينما يطمح سمير جعجع للوصول إلى المنصب الذي لم يحقق حلمه بالوصول له طوال مسيرته من قائد في ميلشيا خلال الحرب الأهلية ثم زعيماً لحزب "القوات اللبنانية"، بعد سنوات من السجن في لبنان، بتهم ارتكاب جرائم ضد خصومه السياسيين، ولكن حظوظه تبدو ليست قوية في ظل معارضة اختياره من قبل قوى أخرى تتشارك معه في الخصومة مع حزب الله وتجتمع على المطالبة بسحب سلاحه واستغلال الفرصة لتحطيم الحضور الشيعي عامة في الحياة السياسية اللبنانية، وهو هدف يختلف عليه أطراف المعسكر المناهض للحزب، بدرجات.
لقاء "عين التينة" الذي ضم الزعيم السابق للحزب الاشتراكي، وليد جنبلاط، ورئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، ورئيس البرلمان، نبيه بري الذي أصدر بياناً دعا فيه إلى وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 1701، يبدو وكأنه اتخذ موقفاً آخر رافضاً لمحاولات تكريس معادلات سياسية جديدة على وقع نتائج الاغتيالات والضربات التي نفذها الاحتلال بحق حزب الله، وفي الوقت نفسه سعياً إلى فك الارتباط بين جبهتي غزة ولبنان، وقد كشفت مصادر إعلامية لبنانية إلى أن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي الذي زار بيروت مؤخراً اصطدم مع جنبلاط وميقاتي بعد تأكيده على "وحدة الساحات".
جنبلاط الذي خبر عقوداً من السياسة والحرب في لبنان يعلم من خبراته العميقة في لبنان والإقليم، أن الحرب الحالية لن تقف حتى تغير في معادلات المنطقة، والطرف الذي ستكون التغيرات لصالحه لم يحسم بعد، رغم اندفاعة معارضي الحزب الحالية في المراحل الأولى من المواجهة، وقد رفض حضور لقاء معراب الذي دعا له جعجع، وبعد شهور من موقفه المؤيد للمقاومة الفلسطينية وعملية "طوفان الأقصى" وتأكيده على الربط بين غزة ولبنان، عاد للدعوة إلى فصل الجبهتين وملف انتخاب رئيس جديد بعد شهور من شغور المنصب، إلى السعي لفك جبهة لبنان عن غزة، وفي الوقت ذاته عدم الاندفاع نحو مشاريع استغلال ما حصل لحزب الله خلال العدوان الإسرائيلي، ليقينه أن الحزب لم يضعف وما زال قادراً على المواجهة، في سياسة معقدة اكتسبها يسميها البعض "براغماتية" أو "مصلحية"، ولكنها في نظر آخرين تضعف الموقف الذي يريد التوصل لتسوية شاملة توقف العدوان على غزة ولبنان.
الحزب الذي فوَض رئيس البرلمان، نبيه بري، زعيم حركة أمل شريكته الأساسية في السياسة اللبنانية وفي المواجهة مع الاحتلال، أكد في خطاب نائب أمينه العام، الشيخ نعيم قاسم، الأسبوع الماضي أن لا نقاش في أي تفاصيل تتعلق بالداخل أو الانتخابات الرئاسية قبل وقف العدوان، وأعاد في بيان صادر عن غرفة عملياته العسكرية على استمرار الارتباط بين غزة ولبنان، وفاء لما أكد عليه الشهيد حسن نصر الله في خطابه الأخير. وتشير المصادر إلى أن الحزب وافق قبل اغتيال السيد نصر الله على إعلان نيويورك الذي أعلنته قطر ومصر ويدعو إلى وقف القتال في جنوب لبنان وتطبيق القرار 1701 وتنفيذ قرار مجلس الأمن الذي يطالب بوقف الحرب في غزة وهو ما يؤكد على مسار الربط بين الجبهتين سلماً وحرباً.
في هذه الأجواء، أثيرت مخاوف كبيرة بعد استهداف جيش الاحتلال لقوات "اليونيفيل" المنتشرة في جنوب لبنان، بعد دعوة سفير دولة الاحتلال في الأمم المتحدة إلى إبعادها عن الحدود لمسافة 5 كيلو، وهو ما اعتبره محللون ومراقبون إشارة مؤكد على مشروع إسرائيلي لبناء منطقة "عازلة" في جنوب لبنان، خالية من أي قوات حتى لو كانت تابعة للأمم المتحدة، وربما على طريق الزج بقوات دولية في لبنان تتكفل بمهمة نزع سلاح حزب الله.
التاريخ يقول إن لبنان بلد من الصعب توقع سير الأمور فيه، فمشاريع تغيير المنطقة هزم كثير منها فيه، كما في مشروع أرئيل شارون، وإن كان في ظروف متغيرة، وتؤكد الوقائع أن حزب الله ما زال يحتفظ بقوته وقادر على عرقلة أو تخريب أي مشروع في الميدان، وهذا تقوله المعارك التي ما زالت على الحافة الأمامية من الحدود، وإدارة النيران التي ينفذها طوال الأيام الماضية، رغم الضربة القاسية التي حلت به خاصة مع غياب أمينه العام حسن نصر الله.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا