Skip to main content

ما هو المحدد الرئيسي لعلاقة ترامب بـ"إسرائيل"؟

10 أيار 2025
https://qudsn.co/9831c0c0-130f-11f0-ba12-8d27eb561761.jpg

 خاص - شبكة قُدس: في سنوات حكم دونالد ترامب، ولا سيما خلال فترته الرئاسية الأولى (2017–2021) وولايته الثانية الحالية، شهدت العلاقات الأميركية مع "إسرائيل" تحولًا نوعيًا تجاوز المصالح الاستراتيجية أو التحالفات الأمنية التقليدية، ليدخل في عمق العقيدة الدينية والهوية الثقافية لشريحة وازنة من المجتمع الأميركي. هذا التحول ليس نتاج قناعة شخصية من ترامب، الذي لا يُعدّ شخصية متدينة في جوهرها، بل نتيجة صفقة محسوبة مع التيار الإنجيلي، الذي يشكل قاعدة انتخابية صلبة داخل الحزب الجمهوري، ويمتلك تأثيرًا متصاعدًا على السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

الإنجيليون في الولايات المتحدة ليسوا مجرد جماعة دينية، بل تيار سياسي-اجتماعي يتبنى رؤية شاملة للعالم تنبع من التفسير الحرفي للعهد القديم. وهم يشكلون قرابة ربع سكان الولايات المتحدة، وتتجلى قوتهم الأساسية في الولايات المحافظة، خصوصًا في الجنوب والغرب الأوسط. هؤلاء لا يدعمون "إسرائيل" بدافع قومي أو سياسي، بل لأنهم يعتبرون قيامها تجسيدًا لنبوءات كتابية يجب أن تتحقق قبل عودة المسيح، حسب معتقداتهم. من هنا، فإن دعمهم لـ"إسرائيل" يحمل طابعًا لاهوتيًا، يربط بين السياسة الدولية وتحقيق مشيئة إلهية كما يرونها.

هذا الإطار الفكري جعل من "إسرائيل" بالنسبة للإنجيليين مشروعًا دينيًا مقدسًا، وجعل من ترامب مرشحهم الأمثل حين ترجم هذا الولاء إلى سياسات فعلية. ومن أبرز تجليات هذا التحالف كان قرار ترامب في ديسمبر 2017 الاعتراف بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل" ونقل السفارة الأميركية إليها في مايو 2018. ورغم معارضة شريحة واسعة من المجتمع الدولي لهذا القرار، ورفضه من قبل الفلسطينيين، إلا أنه لاقى ترحيبًا كبيرًا بين الإنجيليين الذين رأوا فيه تحقيقًا لرؤى نهاية الزمان. وقد صرح ترامب بوضوح في مقابلة مع "فوكس نيوز" أن خطوته هذه كانت "من أجل الإنجيليين".

لم يتوقف الأمر عند القدس، بل امتد إلى قرارات أخرى شكلت قطيعة مع السياسة الأميركية التقليدية. ففي مايو 2018، أعلن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، وهي خطوة طالما طالب بها الإنجيليون واليمين الإسرائيلي. وفي مارس 2019، اعترف ترامب بسيادة "إسرائيل" على الجولان السوري المحتل، وهو إجراء لم يجرؤ عليه أي رئيس أميركي قبله. ثم جاء ما عُرف بـ"صفقة القرن" في يناير 2020، التي طرحت تصورًا أميركيًا لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يتضمن الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على أجزاء واسعة من الضفة الغربية، وهو ما رُفض فلسطينيًا، لكنه حظي بدعم الإنجيليين وبنيامين نتنياهو.

ومع اندلاع حرب غزة الأخيرة في 2023، تجددت مظاهر هذا التحالف، حيث لم يقتصر دور الإنجيليين على الدعم الخطابي، بل نظّموا مظاهرات كبيرة داخل الولايات المتحدة، وجمعوا تبرعات مالية ضخمة لصالح "إسرائيل"، وواصلوا الضغط على الإدارة الأميركية خلال ولاية جو بايدن لتوفير الدعم العسكري الكامل. وقد لعبت منظمات إنجيلية مثل "اتحاد المسيحيين من أجل إسرائيل" دورًا محوريًا في التعبئة الجماهيرية، حيث صُوِّرت الحرب على غزة في الخطاب الإنجيلي على أنها معركة بين "النور والظلام"، وهي استعارة لاهوتية تُحيل إلى معركة روحية بين قوى الخير والشر.

لم يتردد ترامب بدوره في التجاوب مع هذه التصورات، فواصل إدانة المقاومة الفلسطينية ورفض أي مواقف نقدية تجاه "إسرائيل"، بل اتهم إدارة جو بايدن بـ"خيانة إسرائيل" حين حاولت الأخيرة الدعوة إلى وقف إطلاق النار والاهتمام بالأبعاد الإنسانية للكارثة في غزة. وهنا يتضح بجلاء أن دعم ترامب لـ"إسرائيل" لم يعد يندرج فقط في إطار المصالح المشتركة أو حتى المزايدات الحزبية، بل أصبح تعبيرًا عن التزام أيديولوجي وديني عميق.

لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل الأصوات النقدية داخل المجتمع اليهودي الأميركي نفسه، إذ أن غالبية اليهود الأميركيين يميلون إلى الليبرالية ويصوتون تقليديًا للحزب الديمقراطي، وينظرون بعين الريبة إلى تحالف ترامب مع التيارات الدينية المتشددة. كثيرون منهم عبّروا عن مخاوفهم من أن دعم الإنجيليين لـ"إسرائيل" لا ينبع من محبة حقيقية لليهود، بل من عقيدة "نهاية الزمان" التي تتطلب في نهاية المطاف اعتناق اليهود للمسيحية أو فنائهم. هذا القلق يعكس التوتر بين التقدير البراغماتي للتحالف مع الإنجيليين، والتحفظ من التوظيف اللاهوتي للدين في السياسات الدولية.

الجدير بالذكر أن تأثير التيار الإنجيلي لم يكن هامشيًا أو موسمياً، بل اخترق مؤسسات الحكم في عهد ترامب. فقد عيّن شخصيات إنجيلية في مناصب حساسة في وزارة الخارجية والسفارات الأميركية، وأُقيمت فعاليات دبلوماسية استحضرت رموزًا توراتية بشكل غير مسبوق. السياسة الخارجية الأميركية – التي كانت تُدار سابقًا على أساس التوازنات الواقعية والمصالح الاقتصادية – أصبحت في عهد ترامب أكثر التصاقًا بالسرديات الدينية. وتم توظيف هذا النهج لتبرير قرارات كبرى، منها ترسيم حدود ونقل سفرات وفرض عقوبات، استنادًا إلى تفسيرات توراتية وليس فقط إلى تحليل استراتيجي.

ومن الواضح أن هذا التحالف بين ترامب، "إسرائيل"، والإنجيليين خلق نوعًا من "القداسة السياسية" للعلاقات الثنائية بين واشنطن وتل أبيب. لقد تحولت "إسرائيل" في أعين شرائح واسعة من المجتمع الأميركي اليميني إلى "كيان مقدس"، له دور في مخطط إلهي، مما أعطى هذه العلاقة بعدًا لا يُمسّ، ومنح ترامب القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة دون خشية من المعارضة الداخلية.

ورغم أن الكثير من سياسات ترامب لم تكن تقليدية أو مؤسساتية، إلا أنه نجح في بناء ما يشبه "العقيدة الترامبية" في السياسة الخارجية، والتي تقوم على الولاء الديني والتحالف مع قوى روحية ترى في السياسة أداة لتنفيذ مشيئة إلهية. ترامب قد لا يتبنى بالضرورة الحب العاطفي لإسرائيل، لكنه يدرك أن التخلي عنها يعني التخلي عن قاعدة إنجيلية ضخمة تمثل له القوة الحقيقية وراء صعوده السياسي.

أكثر من ذلك، فإن التحالف بين ترامب والإنجيليين و"إسرائيل" يتجاوز السياسة الآنية، ويشكل نموذجًا جديدًا في العلاقات الدولية، حيث تتقاطع الأيديولوجيا الدينية مع السياسات الخارجية في عصر ما بعد الحقيقة. لقد أصبحت "إسرائيل" في خطاب ترامب واليمين الديني الأميركي رمزًا لنظام قيمي متكامل، يُجسّد "الحق التوراتي" و"الحرية الأميركية" و"التحالف ضد الإسلام الراديكالي"، في آن واحد.

من هنا، فإن السياسات الأميركية تجاه "إسرائيل" في عهد ترامب لا يمكن فهمها إلا ضمن هذا الإطار اللاهوتي-السياسي المركب. إنها ليست فقط سياسات دعم لحليف قديم، بل هي تماهٍ مع سردية دينية ترى في الشرق الأوسط مسرحًا للنبوءات، وترى في "إسرائيل" لاعبًا جوهريًا في نهاية التاريخ. ترامب، بهذا المعنى، لم يكن مجرد رئيس يدعم "إسرائيل"، بل زعيم أعاد صياغة التحالف معها ضمن أفق لاهوتي يعطي للسياسة بعدًا رسوليًا.

إن هذا التداخل بين الدين والسياسة يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل العلاقات الأميركية-الإسرائيلية، ومآلات النفوذ الإنجيلي داخل الدولة العميقة الأميركية. كما يدفع الفلسطينيين والعرب إلى إعادة تقييم استراتيجياتهم في التعامل مع الإدارة الأميركية، التي قد تبدو عقلانية من الخارج، لكنها – في ظل هذه التحالفات – تحركها إيمانات روحية لا تخضع بالضرورة لمنطق المصالح التقليدي.

في المحصلة، لا يبدو أن ترامب سيتخلى يومًا عن "إسرائيل"، ليس حبًا بها كدولة، بل التزامًا بتحالفه مع جمهور إنجيلي يراه مفتاح البقاء السياسي ومصدر الشرعية الأيديولوجية. وبهذا، فإن العلاقة بين واشنطن وتل أبيب لم تعد فقط قضية سياسة خارجية، بل باتت شأنًا داخليًا أميركيًا تقوده روايات دينية لا تقل تأثيرًا عن المصالح الجيوسياسية.

 

 

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا