من القمة إلى الهاوية.. كيف تحولت إنتل من عملاق الرقاقات إلى هدف للاستحواذ؟

في مفاجأة هزت صناعة التكنولوجيا، أصبحت إنتل، الشركة التي كانت ذات يوم العملاق الذي لا يقهر في عالم الرقاقات الإلكترونية هدفًا محتملًا للاستحواذ، فبعد أن كانت القوة الدافعة وراء الثورة الرقمية، تجد نفسها اليوم تواجه تحديات وجودية تهدد مكانتها التاريخية.

فقد أفادت تقارير صحفية خلال الأيام الماضية أن شركة إنتل تلقت عرضًا للاستحواذ من شركة كوالكوم، كما تلقت عرضًا ثاني من شركة (أبولو جلوبال مانجمنت) المتخصصة في إدارة الأصول، لضخ استثمارات بقيمة تبلغ 5 مليارات دولار، وتشير هذه العروض إلى أن إنتل، رغم التحديات التي تواجهها، ما زالت تمثل هدفًا جذابًا للمستثمرين، مما قد يؤدي إلى تغييرات جوهرية في الشركة خلال المدة المقبلة.

ولكن كيف فقدت إنتل مكانتها كواحدة من أكثر شركات الرقاقات قيمة في العالم، وأصبحت تبحث عن مستثمرين، وماذا يعني ذلك لسوق صناعة أشباه الموصلات؟

أولًا، ما الأخطاء التي ارتكبتها إنتل؟

قبل ثلاثة أعوام، كانت قيمة شركة إنتل تزيد عن ضعف قيمتها الحالية، وكان رئيسها التنفيذي (بات جيلسينجر) Pat Gelsinger، يبحث عن عمليات استحواذ جديدة، أما الآن، أصبحت إنتل نفسها هدفًا للاستحواذ، ويعود السبب الرئيسي لهذا التحول إلى سلسلة من الأخطاء الإستراتيجية التي ارتكبتها الشركة، بدءًا من تفويتها فرصة تصنيع معالجات الهواتف الذكية، ووصولًا إلى تأخرها في مواكبة تطورات عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي أحدث تغييرات جذرية في سوق أشباه الموصلات.

تأسست شركة إنتل في عام 1968، وظلت لعقود رائدة في تصميم الرقاقات الإلكترونية وتصنيعها، ولكنها الآن تعاني أزمة مالية متفاقمة، إذ تكبدت خسائر فادحة في أعمالها المتعلقة بصناعة أشباه الموصلات، بلغت 7 مليارات دولار أمريكي في عام 2023 وحده، ويعود جزء كبير من هذه الخسائر إلى الاستثمارات الضخمة التي ضختها الشركة في بناء مصانع جديدة، لم تسفر عن العوائد المتوقعة.

علاوة على ذلك، فشلت الشركة في تحقيق أهداف المبيعات الطموحة التي حددتها لنفسها خلال فترة الازدهار التي شهدتها سوق الحواسيب الشخصية خلال جائحة (كوفيد-19)، التي كانت تعتمد عليها لتمويل خططها التوسعية.

كما واجهت الشركة تحديات في الإنتاج، وتعرضت لهبوط حاد في شهر أغسطس الماضي، بعد إعلانها تسريح 15 ألف موظف وتعليق توزيع أرباحها من الربع الرابع من هذا العام.

لذلك يتعرض الآن باتريك جيلسينجر، الرئيس التنفيذي لإنتل، لانتقادات واسعة بسبب قراراته الإدارية، ويعتقد المحللون أن قرارات جيلسينجر المتعلقة بالاستثمار الضخم في المصانع الجديدة، وتسريح الموظفين، قد ساهمت بنحو كبير في تدهور الأوضاع المالية للشركة، مما أثار تساؤلات حول قدرته على قيادة الشركة نحو مستقبل أكثر إشراقًا.

ويقول (جي دان هاتشيسون) من شركة (TechInsights) المتخصصة في تحليل سوق أشباه الموصلات: “أعتقد أن أكبر مشكلة تواجه جيلسينجر حاليًا هي أنه يفقد مصداقيته وشرعيته، فبعد أن كان يُنظر إليه على أنه المنقذ لإنتل، باتت مصداقيته محل شك، خاصة بعد الفشل في تحقيق الأهداف المرجوة من خطته الخمسية”.

ثانيًا؛ سلسلة من الأحداث المؤسفة:

يمكن القول إن أخطاء شركة إنتل الفادحة لم تبدأ خلال مدة تولي جيلسينجر قيادتها، ولكنها ظهرت منذ عقدين تقريبًا عندما قررت التركيز في تطوير معالجات الحواسيب ولم تدخل سوق معالجات الهواتف الذكية.

لقد أدت شركة إنتل دورًا محوريًا في ثورة الحواسيب الشخصية في التسعينيات، إذ سيطرت على السوق بمعالجاتها المتطورة من سلسلة (x86)، تاركة منافسين مثل (AMD) يواجهون صعوبات كبيرة في اللحاق بها.

ومع ذلك، بدأت قصة إنتل تأخذ منحى مختلفًا مع بداية الألفية الجديدة، ففي حين كان العالم يشهد طفرة ضخمة في الأجهزة المحمولة بقيادة هواتف آيفون، كانت الشركة منشغلة بتعزيز مكانتها في سوق الحواسيب، وقد كلفها هذا التركيز الزائد على سوق واحد الكثير.

وفي مقابلة أجريت عام 2013 مع بول أوتيليني، الرئيس التنفيذي السابق لشركة إنتل، أعرب عن أسفه لرفض صفقة التعاون مع شركة آبل لتصميم معالجات آيفون وتصنيعها قبل طرح الهاتف أول مرة في عام 2007، وأكد أن هذا القرار كان مبنيًا على توقعات خاطئة حول حجم السوق وتكاليف الإنتاج.

ولم تتوقف الخسائر عند هذا الحد، ففي السنوات الأخيرة، فشلت إنتل في الاستفادة من طفرة الذكاء الاصطناعي التوليدي، عندما أتيحت لها فرصة ذهبية قبل سبع سنوات للاستثمار في شركة (OpenAI)، التي كانت تبحث عن بدائل لرقاقات إنفيديا المتخصصة في الذكاء الاصطناعي لبناء بنيتها التحتية الخاصة، لكن إدارة إنتل رفضت هذا العرض بسبب تشكيكها في إمكانات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وفي غضون سنوات قليلة، أصبحت (OpenAI) واحدة من أهم الشركات في مجال الذكاء الاصطناعي، ومدعومة بتمويل ضخم من مايكروسوفت.

علاوة على ذلك، واجهت الشركة صعوبات في تطوير رقاقات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها، رغم استحواذها على شركات ناشئة متخصصة في هذا المجال.

ثالثًا؛ لماذا تخلت إنتل عن تطوير وحدات معالجة الرسومات؟

يمكن القول إن أحد الأسباب الرئيسية وراء تراجع إنتل هو تركيزها الشديد على وحدات المعالجة المركزية (CPUs) وتجاهلها لوحدات معالجة الرسومات (GPUs)، ففي حين كانت شركات مثل: إنفيديا، وAMD تستثمر بكثافة في تطوير وحدات معالجة الرسومات المهمة لتشغيل الألعاب ونماذج الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، كانت إنتل تتخلف عن الركب.

لقد اعتقدت إنتل، على مدى أكثر من عقدين من الزمن، أن معالجاتها المركزية التقليدية، المستخدمة في الحواسيب المكتبية والمحمولة، تكفي لتلبية احتياجات الذكاء الاصطناعي المتنامية، وهذا ما أكده عدد من المديرين التنفيذيين السابقين للشركة، الذين كانوا لديهم معرفة مباشرة بخطط الشركة.

وقد أشار مهندسو إنتل إلى أن بنية شريحة ألعاب الفيديو الخاصة بوحدة معالجة الرسومات – التي تستخدمها الشركات المنافسة إنفيديا وAMD – تفتقر إلى الجودة الهندسية التي يطمحون إليها.

ولكن بحلول منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اكتشف الباحثون أن شرائح الألعاب، أو وحدات معالجة الرسومات، تفوقت على وحدات المعالجة المركزية التقليدية في التعامل مع الأعباء الحسابية الضخمة، التي تتطلبها عمليات بناء نماذج الذكاء الاصطناعي المعقدة وتدريبها، ويعود السبب في ذلك إلى قدرة وحدات معالجة الرسومات على إجراء العديد من الحسابات في وقت واحد، وهي مزية أساسية في عالم الرسومات الثلاثية الأبعاد.

وأمضى مهندسو إنفيديا سنوات منذ ذلك الحين في تعديل بنية وحدة معالجة الرسوميات وتطويرها لتلائم متطلبات الذكاء الاصطناعي المتزايدة، كما عملوا على تطوير برمجيات متخصصة لتحقيق أقصى استفادة من هذه القدرات. في حين فشلت إنتل في تقديم معالج يلبي متطلبات الذكاء الاصطناعي في الوقت المناسب لعملائها.

وقد شهدت إنتل في الماضي محاولة طموحة لدخول سوق معالجات الرسومات من خلال مشروع كان يُسمى (Larrabee)، لكن هذه الشريحة التجريبية فشلت في تحقيق الأداء المطلوب، لذلك قررت الشركة إلغاء تطويرها في عام 2009، وتحويل الجهود المبذولة في المشروع إلى تطوير منصة برمجية بديلة.

وتعليقًا على تخلي الشركة عن تطوير معالجات الرسومات، قال بريان كاتانزارو، نائب رئيس أبحاث التعلم العميق التطبيقي في إنفيديا، الذي عمل سابقًا في إنتل كمتدرب في مشروع (Larrabee): “لم تأت هيمنة إنفيديا من الحظ. لقد جاءت من الرؤية والتنفيذ. وهو ما افتقرت إليه إنتل”.

رابعًا، تراجع قدرات التصنيع وتزايد المنافسة:

دفعت التكاليف المتزايدة والرغبة في تحقيق أقصى قدر من الكفاءة العديد من عملاء ومنافسين إنتل إلى نقل عمليات تصنيع الرقاقات الإلكترونية إلى خارج الولايات المتحدة، فقد تبنت شركات مثل AMD و إنفيديا، تصميمات رقاقات متقدمة مع الاستعانة بمصادر خارجية للتصنيع، مثل شركة (TSMC) التايوانية.

في الوقت نفسه، عانت إنتل تراجع ملحوظ في قدراتها التصنيعية، مما أدى إلى تأخرها في تصنيع رقاقات بدقة تبلغ 7 نانومتر، في حين حققت شركات مثل TSMC وسامسونج تقدمًا ملحوظًا في مجال التصنيع، إذ تمكنت (TSMC) من تطوير عمليات التصنيع وتصغير حجم الترانزستورات بنحو كبير، ووصلت إلى دقة بلغت 7 نانومتر في عام 2020 ودقة بلغت 3 نانومتر في عام 2022، وقد سمح هذا التقدم لهما بتصنيع رقاقات أكثر قوة وكفاءة، مما زاد من الفجوة بينهما وبين إنتل.

علاوة على ذلك، تخلت آبل عن شركة إنتل بعد الاعتماد على معالجاتها لمدة 15 عامًا في أجهزة (ماك بوك) MacBook، إذ قررت آبل في عام 2020 الانتقال إلى معالجاتها الخاصة M1، التي صممتها وتعاقدت مع شركة TSMC لتصنيعها، وقد أظهر هذا التحول الإستراتيجي من جانب آبل، أحد أكبر عملاء إنتل، مدى اعتماد الشركات على مصادر تصنيع بديلة ومدى أهمية التقدم التكنولوجي في هذا المجال.

خامسًا؛ إنتل والأمن القومي الأمريكي:

ظلت إنتل لأكثر من نصف قرن من التاريخ رمزًا للتفوق التقني الأمريكي، إذ حملت على عاتقها مسؤولية الحفاظ على مكانة الولايات المتحدة كقوة رائدة في صناعة الرقاقات الإلكترونية. لذلك، فإن مصير إنتل مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمن القومي الأمريكي، خاصة في ظل التنافس المتزايد مع القوى العالمية الأخرى.

وقد أكد الرئيس جو بايدن هذه النقطة خلال جولته في أريزونا في شهر مارس الماضي، وأعلن حصول الشركة على تمويل يبلغ 8.5 مليارات دولار، بموجب قانون الرقاقات والعلوم (CHIPS and Science)، وفي الأسبوع الماضي، منح بايدن إنتل 3 مليارات دولار أخرى من خلال نفس القانون.

ويشير المحللين إلى أن هذا الدعم يعكس إدراك الحكومة الأمريكية لأهمية إنتل في الحفاظ على ريادتها التكنولوجية.

سادسًا، الاستحواذ على إنتل:

أشارت تقارير إخبارية متعددة خلال الأيام الماضية إلى أن شركة إنتل قد تكون على شفا صفقة استحواذ ضخمة، فوفقًا لرويترز وول ستريت جورنال، أبدت شركة كوالكوم، المتخصصة في معالجات الهواتف المحمولة، اهتمامًا بشراء أعمال تصميم الرقاقات في إنتل، وتقدمت بعرض للاندماج.

كما أشارت وكالة بلومبرغ إلى أن شركة (أبولو جلوبال مانجمنت) قدمت عرضًا للاستثمار في إنتل بقيمة تبلغ 5 مليارات دولار.

إذا نجحت كوالكوم في تحقيق هدفها، فمن المرجح أن يكون استحواذها على إنتل هو الأكبر في تاريخ وادي السيليكون، لكن محللي صناعة الرقاقات يقولون إن هذا من شأنه أيضًا أن يثير التدقيق في مكافحة الاحتكار وتحديات التنفيذ في البيئة السياسية الحالية.

لقد تأسست شركة كوالكوم في عام 1985، أي قبل 39 عامًا، ومنذ ذلك الحين، نمت لتصبح شركة تبلغ قيمتها أكثر من 188 مليار دولار، وتتخصص في مجالات مثل: الشبكات اللاسلكية ومعالجات الهواتف الذكية وأجهزة المودم.

ومن الواضح أن المشاكل الأخيرة التي واجهتها إنتل، أعطت كوالكوم على ما يبدو سببًا للتفكير في الاستحواذ على شركة فقدت أكثر من نصف قيمتها هذا العام، ويشير المحللون إلى أن استحواذ شركة مثل كوالكوم أو برودكوم على إنتل سيكون له تداعيات واسعة النطاق على صناعة الرقاقات العالمية، فمن جهة، قد يساهم هذا الاندماج في تعزيز مكانة الولايات المتحدة كمركز عالمي لتصنيع الرقاقات الإلكترونية، وهو هدف تسعى إليه إدارة بايدن.

ومن جهة أخرى، قد ينشأ عن هذا الاندماج كيان ضخم قادر على سحب البساط من شركات أمريكية منافسة مثل إنفيديا، مما سيثير التدقيق في مكافحة الاحتكار.

وقال دان مورجان، أحد كبار مديري المحافظ في شركة (Synovus) للخدمات المالية: “إن استحواذ شركة مثل كوالكوم على إنتل سيكون صفقة ضخمة ومعقدة، وقد لا تكون مبررة اقتصاديًا، لأن شركة كوالكوم ستجد نفسها أمام تحديات كبيرة في إدارة أعمال إنتل المتنوعة”.

كما أكد المحللون أن البيع لشركة أجنبية ليس وضعًا سياسيًا قابلًا للتطبيق بسبب مخاوف الأمن القومي الأمريكي المتعلقة بسلسلة الإمدادات.

سابعًا؛ ما الوضع الحالي لشركة إنتل؟

تعمل إنتل حاليًا على إعادة هيكلة عملياتها واعتماد إستراتيجية جديدة، إذ تركز الشركة حاليًا في تطوير شريحة (18A)، ومعالجات مركز البيانات (Xeon)، كما أعلنت خططًا إضافية لتوفير النفقات، ومنها تعليق خطط بناء مصنعين لها، بالإضافة إلى تحويل أعمالها في مجال صناعة الرقاقات إلى شركة مستقلة مع مجلس إدارة خاص بها وإمكانية جذب استثمارات خارجية لها.

تواجه إنتل لحظة حاسمة في تاريخها، حيث تتصارع قوى السوق والسياسة لتحديد مستقبلها. فهل ستقبل إنتل بعرض الاستحواذ، أم ستسعى إلى إعادة هيكلتها بشكل مستقل؟ الإجابة عن هذا السؤال ستحدد شكل سوق أشباه المواصلات في السنوات القادمة.

تم نسخ الرابط
تابعنا