Skip to main content

صمود إيران وحسابات نتنياهو: هل تفتح غزة على تسوية أم تصعيد؟

24 حزيران 2025
https://qudsn.co/صمود إيران وحسابات نتنياهو: هل تفتح غزة على تسوية أم تصعيد؟

غزة - خاص قدس الإخبارية: مع وصول المواجهة بين إيران والاحتلال الإسرائيلي إلى نهايتها، عبر اتفاق يستند إلى قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، بعد تبادل ضربات مؤثرة كادت أن تدحرج المنطقة إلى شفا حرب إقليمية، تعود الأنظار إلى النقطة التي انطلقت منها دوامة التصعيد: قطاع غزة.

ففي وقت بلغ فيه التوتر الإقليمي ذروته منذ أكتوبر 2023، ظلّت الحرب الإسرائيلية على غزة هي الحلقة الأكثر دموية، وواجهة الإبادة المفتوحة التي ضربت بعرض الحائط كل القيم والمعايير الإنسانية، في ظل دعم أمريكي مطلق، وسعي واضح لتصفية القضية الفلسطينية، بل وحتى استئصال الشعب الفلسطيني من أرضه.

ورغم أن غزة لم تكن طرفًا مباشرًا في التصعيد الإيراني–"الإسرائيلي"، إلا أنها لم تكن بمنأى عنه، إذ شكّلت أساس الاندفاعة الهجومية الإسرائيلية التي تجاوزت كل خطوط الردع. ومع احتواء التصعيد بين طهران وتل أبيب، تعود بوصلة التوتر إلى محورها الرئيسي في قطاع غزة، الذي لا يمكن الحديث عن أي استقرار حقيقي في الشرق الأوسط دون وقف حرب الإبادة المستمرة فيه – رغم كل المحاولات لتهميشها أو تطبيعها كأمر واقع.

لا منتصر في الحرب

في الحروب التي لا تنتهي بانكسار صريح لأحد الطرفين، تبقى مفاهيم الانتصار والهزيمة مرنة ومعقدة، تخضع لسياقات أكبر من ميزان القوة المجرد. وهذه الحرب، في جوهرها، لم تكن بين إيران والاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل بين إيران والمنظومة الغربية بأسرها، والتي أوكلت إلى حكومة الاحتلال – وفق توصيف المستشار الألماني – مهمة "إنجاز العمل القذر".

لهذا، كانت طهران تدرك منذ اللحظة الأولى أن الانتصار في معركة من هذا النوع ليس سهلًا، ولا سلسًا، في ظل انكشاف الدعم الشرقي، الذي لم يتجاوز حدود المواقف السياسية الخجولة. لذلك، لم تكن الغاية الإيرانية تحقيق نصر ساحق، بل منع الهزيمة، وتفكيك حسابات الحرب الإسرائيلية الغربية التي رمت إلى تحييدها بشكل كامل من المعادلة الإقليمية.

فمنذ استيعاب الضربة المباغتة التي استهدفت، بشكل متزامن، مفاعلاتها النووية وقدراتها الصاروخية، إلى جانب اغتيالات مركّزة طالت علماء وقادة عسكريين، انطلق الحرس الثوري الإيراني نحو رسم معادلة رد جديدة.

معادلة تقوم على الاستثمار الذكي في أوراق القوة، وتجاوز نقاط الضعف التي راهن عليها الاحتلال، عبر دخول الاشتباك في مسار استنزافي طويل المدى، يُبقي زمام المبادرة بيد طهران، ويُربك الرهانات الإسرائيلية على ضربة خاطفة تُحدث انهيارًا داخليًا في المنظومة الإيرانية.

هذه المعادلة وضعت استراتيجية الاحتلال الهجومية في أزمة فعلية، إذ سقط رهانها على فعالية الضربة الأولى في شل القدرات الإيرانية، وفرض مشهد قيادي مرتبك يقود إلى التنازل أو الانهيار. بدلًا من ذلك، بات الاحتلال يواجه شبح الاستنزاف، ومعه الحاجة إلى إعادة تقييم حساباته الاستراتيجية.

وفي ضوء ذلك، اختارت إدارة ترامب التدخل – لا من باب التورط المباشر في حرب مفتوحة مع خصم شرس – بل من باب فرض إيقاع ردعي استعراضي، يرسم حدود التصعيد ويمنع الانزلاق إلى الفوضى. فجاءت الضربة الأميركية للمنشآت النووية الإيرانية في نطنز وأصفهان وفوردو، كرسالة مزدوجة: ردعية في ظاهرها، واحتوائية في مضمونها.

الرد الإيراني على الضربة الأميركية جاء بدوره محسوبًا ومضبوطًا ضمن تفاهم غير معلن حول شكل نهاية الحرب، يسمح لكل طرف بحفظ ماء وجهه، وتسويق "انتصاره" بالطريقة التي تلائم جمهوره الداخلي.

لكن، المؤكد أن قدرة إيران على الصمود، وردّها المتماسك والممتد، كان العامل الحاسم في إجهاض مخطط إخضاعها، وتحطيم الرهان على إخراجها من معادلة الشرق الأوسط الجديد، الذي يُراد له أن يُهندَس بالكامل بأدوات أميركية وبأهداف إسرائيلية. فإيران، وإن لم تنتصر بالمعنى التقليدي، أفشلت مشروع إخراجها من التاريخ والجغرافيا معًا.

حسابات المقاومة: لا تسوية إقليمية... لكن صمود الحليف الاستراتيجي

تحمل حسابات المقاومة الفلسطينية تجاه الحرب الأميركية – الإسرائيلية على إيران طابعًا مركّبًا ومتعدد المستويات. فمنذ الأشهر الأولى لحرب الإبادة على غزة، رأت المقاومة في اتساع الاشتباك الإقليمي فرصة لفرض معادلة جديدة تُجبر كل الأطراف على الجلوس إلى طاولة تفاوض واحدة، تُفضي إلى وقف العدوان، وتُعيد ضبط قواعد الاشتباك بما يمنع استمرار الاندفاعة الإسرائيلية الإجرامية دون سقف أو حساب.

لكن هذا السيناريو لم يتحقق، بفعل الضغوط السياسية الأميركية والحشودات العسكرية في المنطقة، التي كُرست أساسًا لاحتواء الاشتباك ومنع تحوّله إلى حرب إقليمية شاملة. وعادت هذه الفرصة لتتبدد مجددًا بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين إيران والاحتلال، برعاية أميركية ووساطة قطرية، دون أن يُدرج ملف غزة كجزء من التسوية، أو حتى كأحد بنود التهدئة.

ويعود ذلك إلى جوهر الموقف الإيراني، الذي يرفض زجّ ارتباطاته الإقليمية في أي تفاوض نووي، ويتمسك بمبدأ "فصل الملفات"، ما أخرج الحرب على غزة من سياق النقاش السياسي المباشر، رغم كونها المحرّك الفعلي لاندلاع الأزمة الإقليمية.

ورغم ذلك، تدرك المقاومة الفلسطينية – على المستوى الاستراتيجي – أهمية صمود الحليف الإيراني، ليس فقط كشريك سياسي، بل كالداعم الوحيد الذي يوفّر الغطاء السياسي، والدعم المادي واللوجستي، ومعادلة الردع في الإقليم. من هنا، فإن أي انكسار إيراني كان سيُشكّل خسارة استراتيجية لا يمكن تعويضها، ويهدد بانكشاف المقاومة فلسطينيًا وإقليميًا.

لذلك، ترى المقاومة في صمود الجمهورية الإسلامية أمام الهجمة الإسرائيلية – الأميركية، وقدرتها على تجاوز الضربات المركّزة التي طالت بنيتها النووية والعسكرية، بمثابة إشارة أمان استراتيجية، وعنصر قوة رئيسي في وجه محاولات واشنطن لتكريس هيمنة الاحتلال الإسرائيلي على الشرق الأوسط، وفرض تسوية إقليمية كبرى على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته.

حسابات بنيامين نتنياهو: اللحظة المثالية حانت

على الضفة المقابلة، صاغ رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو استراتيجيته في إطالة أمد الحرب على قطاع غزة، على أساس مراكمة الوقت وتوظيف شعارات "النصر المطلق" كأداة للمناورة السياسية، داخليًا وخارجيًا. فقد سعى باستمرار إلى تحقيق اختراقات استراتيجية في الإقليم، مستفيدًا من التواطؤ الدولي غير المسبوق، ومن الصمت السياسي الذي رافق جرائم الاحتلال، لا سيما في غزة.

ارتبطت وتيرة التعنت الإسرائيلي وتنصل نتنياهو من كل الاستحقاقات التفاوضية، بشكل طردي مع متابعته الدقيقة لنتائج استطلاعات الرأي، التي ظلت حتى وقت قريب تُجمع على محدودية فرصه في العودة إلى رئاسة الحكومة أو تشكيل ائتلاف جديد. لكنه، ومن خلال سلسلة من العمليات العسكرية المتدحرجة – من غزة إلى بيروت، مرورًا بسوريا واليمن، ووصولًا إلى طهران – عمل على تثبيت سردية تفوق جيش الاحتلال وقدرته على مهاجمة خصومه في الإقليم، وإحياء صورة "الزعيم القوي" القادر على فرض الردع.

لكن مع استمرار الحرب على غزة لما يقارب العامين، واستخدام كل أدوات البطش دون تحقيق حسم، تبلورت لدى نتنياهو قناعة بأن خيار الانتصار العسكري الكامل لم يعد واقعيًا، وأن اللحظة المناسبة لإنهاء الحرب يجب أن تُنتزع سياسيًا عبر مشهد ختامي يسمح له بتسويق "النصر" لجمهوره.

راهن نتنياهو مؤخرًا على خطة "عربات جدعون" لحسم المواجهة ميدانيًا، لكن الخطة فشلت في كسر موقف المقاومة أو دفعها لتقديم تنازلات في ملف إنهاء الحرب. كما أن المخاطر الكبيرة التي تُحيط بحياة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة شكّلت عائقًا ميدانيًا وأخلاقيًا أمام القيادات العسكرية الإسرائيلية، التي باتت ترى في توسيع العمليات خطرًا قد يرتد سياسيًا وأمنيًا على المؤسسة بأسرها.

وفي هذا السياق، يُدرك نتنياهو أن ملف الأسرى بات المعضلة المركزية التي تقف في وجه تتويج سردية "مراكمة الانتصارات"، خصوصًا مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي المقرر للكنيست العام المقبل، وبروز مؤشرات على تحركات داخل الليكود للتحضير لانتخابات مبكرة.

أمام هذه المعطيات، تبدو اللحظة الراهنة – في حسابات نتنياهو – اللحظة المثالية لإنهاء الحرب. فقد حقق قفزات كبيرة في مؤشراته الانتخابية، وحصد إجماعًا داخليًا نادرًا على قراره بشن الهجوم على إيران، وانتهت الجولة بمادة سياسية وإعلامية تسمح له بتسويق "إنجاز استراتيجي غير مسبوق".

لكن لكي تكتمل هذه الصورة، يحتاج نتنياهو إلى استعادة الأسرى الإسرائيليين ضمن صفقة تبادل، يمكن تقديمها داخليًا كـ"تنازل انتزع بالقوة من حماس"، خاصة بعد أن مهد لهذا الربط مسبقًا بين مصير الحرب على إيران، وموقف المقاومة الفلسطينية التي ستفقد – حسب خطابه – أهم حلفائها الإقليميين.

المرحلة التالية: بين تسوية محسوبة ومخاطر التصعيد

مع طي صفحة المواجهة بين إيران والاحتلال الإسرائيلي، تعود الأنظار مجددًا إلى غزة، بوصفها قلب الصراع المفتوح، وساحة الاشتباك التي لم تُغلق بعد. فالمعادلات الجديدة التي أفرزها الاتفاق – رغم أنها لم تشمل قطاع غزة رسميًا – أعادت تموضع الأطراف، لكنها لم تُنهِ التوتر، بل نقلت ثقله إلى قطاع غزة، حيث ما تزال الحرب مفتوحة، والدمار متواصل، والمقاومة صامدة.

في هذا السياق، تبدو المرحلة المقبلة اختبارًا مزدوجًا: اختبارًا لخيارات الاحتلال في التعامل مع استحقاقات الحرب التي طالت دون حسم، واختبارًا أكبر لمدى إصرار إدارة دونالد ترامب على استكمال ما تسميه بـ"السلام عبر القوة"، وهي المقاربة التي تُقدَّم كمرتكز رئيسي للسياسة الخارجية الأميركية.

فإذا كانت واشنطن قد نجحت – مرحليًا – في ضبط الاشتباك مع إيران، فإن تحدّيها الحقيقي يتمثل في قدرتها على إغلاق ملف الحرب في غزة، باعتباره جوهر الصراع، والعقدة التي إن تُركت مفتوحة ستُفجّر كل محاولات تثبيت الاستقرار، وتنسف أي سردية حول تهدئة شاملة.

من زاوية المقاومة، لا يزال الموقف ثابتًا: لا وقف للحرب دون تسوية تضمن المطالب الجوهرية، وعلى رأسها إنهاء العدوان، ووقف الإبادة، وتحرير الأسرى. أما الرهان على تآكل الوقت أو ممارسة الضغوط الميدانية والإنسانية، فقد أثبتت التجربة أنه لن يدفعها إلى التراجع، بل إلى مزيد من التماسك والتصعيد المدروس.

وفي المقابل، فإن أي اندفاعة خاطئة من نتنياهو – إذا ما قرأ اللحظة بشكل مضلل، واعتقد أن بمقدوره انتزاع "مشهد نصر ختامي" في غزة – قد تُعيد تفجير المشهد برمّته، وتضع كل ما تحقق في مهبّ المواجهة مجددًا.

بذلك، لا تملك الأطراف الإقليمية والدولية ترف تجاهل الحرب في غزة، ولا ترف ترحيلها إلى موسم الانتخابات لدى الاحتلال أو التفاهمات الكبرى. فالميدان في القطاع لا يتحمل المزيد من التأجيل، والرسالة التي ترسلها المقاومة من تحت الركام واضحة: لا سلام دون وقف الحرب... ولا استقرار دون إنهاء الإبادة.

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا