انقسامات في صفوف العمال البريطاني ودعوات لتأسيس حزب جديد

لندن- يبدو أن عاما واحدا كان كافيا لتبدأ الصدوع بتهديد الجبهة الداخلية لحزب العمال البريطاني الذي عاد إلى السلطة بعد 14 عاما من الانتظار، فقد برزت للعلن انقسامات على طرفي جناحيه السياسي، مما أفقده ثقة ناخبيه الأقرب إلى اليمين، وأغضب قواعده الشعبية ونوابه اليساريين.
يعيش حزب العمال على وقع سجال حاد بشأن هويته الأيديولوجية وطبيعة سياساته، بعد جدل أثارته خطط الحكومة لإصلاح أنظمة الرعاية الاجتماعية، ورفض نواب من الحزب تمريرها في البرلمان مما أجبر رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر على تقديم تنازلات لتأمين الموافقة عليها.
تمرد داخلي
ويخشى ستارمر من تكرار أسوأ تمرد في صفوف نواب أغلبيته البرلمانية منذ وصوله السلطة، في ظل اتساع الرفض لخطط حكومته للإصلاح الاقتصادي وتصاعد الغضب من قراراتها السياسية في صفوف نواب أقصى اليسار خاصة تلك المتعلقة بالموقف من القضية الفلسطينية.
وبعد أسبوع حافل بالاضطرابات داخل الحزب، أعلنت النائبة العمالية زارا سلطانة استقالتها من الحزب وانضمامها إلى تجمع النواب المستقلين في البرلمان، لتشارك إلى جانب قوى سياسية أخرى في تأسيس حزب بديل يضم الغاضبين من سياسات الحزب.
وقالت النائبة البرلمانية البريطانية إن نظام الثنائية الحزبية الذي يهيمن على السياسة البريطانية لا يقدم سوى وعود دون تحقيقها، مؤكدة أنها تعمل حاليا مع زعيم حزب العمال السابق جيرمي كوربن على وضع الأسس الديمقراطية لتأسيس حركة بديلة.
ويتهم المعارضون لنهج القيادة السياسية لحزب العمال بقمعها الأصوات المناوئة لسياساته، حيث واجه النواب التسعة، الذين صوتوا بالرفض على قرار الحكومة قبل أيام حظر حركة "فلسطين أكشن" الاحتجاجية وعارضوا وسمها بالإرهاب، إنذارات بالطرد والمتابعة القضائية.
وأعاد النائب العمالي اللورد وولني، ومستشار الحكومة لشؤون العنف السياسي، تحذير النواب البرلمانيين من إبداء التعاطف مع الحركة إن أقر مجلس اللوردات البريطاني الخميس المقبل حظرها بوصفها منظمة إرهابية، داعيا قيادة الحزب للتعامل بصرامة مع كل مخالف بطرده من صفوف الحزب.

بديل قابل للحياة
وكسر جريمي كوربن النائب المستقل في البرلمان البريطاني الصمت بشأن إنشائه الحزب الجديد، وقال في بيان إن "التغيير الحقيقي قادم"، وإن الحكومة فشلت في تحقيق التغيير الذي يرغب فيه البريطانيون، مشددا على ضرورة تغيير الاتجاه دون تأخير.
إعلانوعلق حزب العمال عضوية زعيمه كوربن عام 2020، بسبب اتهامات له بمعاداة السامية، قبل إعادة انتخابه كنائب مستقبل خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
وشكل كوربن تحالفا برلمانيا للنواب المستقلين لدعم القضية الفلسطينية في البرلمان، ودعا لفتح تحقيق مستقل لكشف تواطؤ الحكومة الحالية في دعم حرب الإبادة الجماعية في غزة.
ويرى توني ترافيرس، أستاذ السياسات العامة في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، أن أي كيان سياسي وليد سيكون تجمعا للغاضبين من سياسات قيادة حزب العمال وغير الراضين عن نهج زعيمه ستارمر الذي يصنف على أنه أقرب لتيار اليمين منه إلى اليسار العمالي.
لكن الخبير السياسي البريطاني يتساءل عن مدى قدرة الحزب الجديد على إرباك التوازنات السياسية، وإحداث شرخ في قاعدة حزب العمال الانتخابية، مشيرا -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن تحالفا بين الحزب الجديد وحزب الخضر قد يؤدي إلى استنزاف حقيقي لرصيد حزب العمال الانتخابي في أوساط الأقليات وداعمي القضية الفلسطينية الذين يشعرون بالامتعاض من سياساته تجاههم.
وكشفت هيئة الإذاعة البريطانية عن نتائج استطلاع للرأي بشأن مدى القبول الشعبي لحزب يؤسسه كوربن، متوقعة أن يحظى الحزب بشعبية في أوساط الشباب.
وتشير النتائج إلى إمكانية حصوله على 10% من الأصوات مما سيضعف حزب العمال بـ3 نقاط في أي استحقاق مقبل، لكنه سيؤثر سلبا على حزب الخضر الذي ستنخفض حظوظه من 9% إلى 5%.
تحدي اليمين الشعبوي
ولا تقتصر متاعب حزب العمال على خوفه من فقدان أصوات اليسار فحسب، بل يواجه تهديدا من جناحه اليميني أيضا، حيث تمكن حزب الإصلاح الشعبوي المتطرف من الفوز بعدد غير مسبوق من المقاعد في الانتخابات المحلية الأخيرة، منافسا حزب العمال في العديد من معاقله الانتخابية التي كان يسيطر عليها على مدى 4 عقود.
ويتهم حزب العمال بنزوعه لتبني سياسات أكثر يمينية في محاولة لاستقطاب القواعد الانتخابية اليمينية ومنافس حزب الإصلاح الشعبوي الصاعد بقوة خلال الأشهر الماضية.
ويرى جيمس جيلز الناشط السياسي البريطاني، وأحد أعضاء المجالس البلدية المستقلين، أن رئيس الحكومة البريطاني انحرف بحزب العمال بعيدا في اتجاه اليمين، جعل من الصعب إقناع قاعدته الانتخابية بسياساته وضمان ولائها، مشيرا إلى الحاجة لتحالف جديد للقوى التقدمية يوفر بديلا لتلك الأصوات الغاضبة.
ويضيف جيلز في حديث للجزيرة نت أن محاولات حزب العمال استقطاب أصوات اليمين الشعبوي عبر مغازلتها بسياسات تشدد على المهاجرين والداعمين للقضية الفلسطينية لن ينتهي إلا بنزيف آخر لأصوات قاعدته اليسارية.
وحقق حزب الإصلاح اليميني المتطرف نتائج غير متوقعة خلال الانتخابات المحلية الأخيرة، وانتزع عددا واسعا من المقاعد التي نافس عليها حزب العمال واقتحامه أحد معاقل العمال بظفره خلال انتخابات برلمانية فرعية ليرفع عدد نوابه في البرلمان إلى خمسة.

نهاية الثنائية الحزبية
وأعاد صعود حزب الإصلاح الشعبوي الجدل بشأن قدرة نظام الحزبين الذي حكم النسق السياسي البريطاني على مدى قرن من الزمن على الصمود، فيما توعد زعيمه المثير للجدل نايجل فاراج بإنهاء نظام الثنائية الحزبية والظفر بالانتخابات البرلمانية المقبلة.
إعلانويشير الخبير السياسي ترافيرس إلى أن هناك حالة من التشرذم الحزبي تطفو على الساحة السياسية البريطانية والانقسامات في أكثر من اتجاه تخترق الأحزاب السياسية التقليدية، ترجمت في الانتخابات المحلية الأخيرة إلى صعود لافت لحزب الإصلاح الشعبوي المتطرف.
وبدت الانقسامات المتزايدة داخل حزب العمال مصدر ارتياح لفاراج، الذي علق على الأنباء المتداولة بشأن نية تشكيل كيان سياسي جديد إلى يسار الحزب، قائلا إن رئيس الوزراء البريطاني، الذي يواجه بالفعل أزمات سياسية متفاقمة، يبدو أنه مقبل على أزمات أسوأ في المرحلة المقبلة.
وفي تعليقه على إعلان الملياردير الأميركي إيلون ماسك نيته تأسيس حزب سياسي جديد، يرى توني ترافيرس أن النظامين السياسيين في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا يعيشان حالة من الانقسام غير المسبوق.
ويضيف المتحدث أن أوجه التشابه بين الحالتين السياسيتين في البلدين، رغم اختلاف التوجهات الأيديولوجية، تتمثل في أزمة البدائل الخانقة داخل النظام السياسي، حيث تهيمن الأحزاب التقليدية على المشهد منذ عقود، بينما لا تجد التحولات الجارية في القواعد الانتخابية الشعبية انعكاسا حقيقيا لها في السياسات العامة.