Skip to main content

صناديق التكافل النقابية في مصر.. التضخم يلتهم حلم التقاعد

24 تموز 2025
مراسلو الجزيرة نت

صناديق التكافل النقابية في مصر.. التضخم يلتهم حلم التقاعد

المهنيون في مصر يضعون آمالا كبيرة على صناديق التكافل (الموقع الرسمي لنقابة المحامين)
أحمد علي24/7/2025-|آخر تحديث: 11:42 (توقيت مكة)

الإسكندرية – قبل أكثر من 30 عاما، بدأ المُعلم مؤمن (اسم مستعار) دفع اشتراك شهري لصندوق التكافل بنقابة المعلمين، على أمل أن تساعده المكافأة المنتظرة عند تقاعده في تجهيز ابنته الوحيدة للزواج أو شراء شقة صغيرة في أحد أحياء القاهرة الشعبية، لكن اليوم وبعد بلوغه سن المعاش، فوجئ بأن كل ما حصل عليه لا يكفي لشراء غرفة نوم متواضعة، ناهيك عن باقي الالتزامات.

ليست هذه القصة فردية، بل تعكس أزمة متفاقمة يعاني منها مئات الآلاف من المصريين المنتمين إلى النقابات المهنية، والذين لطالما رأوا في صناديق التكافل وسيلة أمان اجتماعي، قبل أن تصطدم آمالهم بجدار التضخم، وتُجهض قوانين الاستثمار التي يصفونها بـ"العقيمة" قدرتها على مواكبة التحديات الاقتصادية.

صناديق التكافل في مصر هي كيانات غير حكومية أنشأتها النقابات المهنية أو الجمعيات الأهلية بغرض توفير دعم مالي لأعضائها عند التقاعد أو الوفاة أو العجز الكلي، وتقتطع هذه الصناديق اشتراكات دورية من أعضائها، وتستثمرها على أمل تحقيق عوائد تُمكّنها من صرف مكافآت أو معاشات تكميلية.

700 صندوق

ووفق تقديرات الهيئة العامة للرقابة المالية، تجاوز عدد هذه الصناديق 700 صندوق حتى نهاية 2023، بإجمالي أموال يقارب 100 مليار جنيه (ملياري دولار)، لكن هذه الأرقام لا تعكس حقيقة الأزمة، فالأموال موجودة، غير أنها مجمدة فعليا في أوعية مصرفية لا تُنتج إلا القليل.

ويخضع عمل هذه الصناديق لقانون صناديق التأمين الخاصة رقم 54 لسنة 1975 وتعديلاته، والذي يفرض قيودا صارمة على أساليب استثمار أموال الأعضاء، وينص على ضرورة توجيه ما لا يقل عن 50% من الأموال إلى شهادات وأوعية ادخارية لدى البنوك، بينما يُسمح بنسبة ضئيلة بالاستثمار في أدوات الدين الحكومية مثل السندات أو أذون الخزانة.

ويُحظر تماما الاستثمار في الذهب أو العقارات أو الأصول ذات العائد المرتفع، على الرغم من أن هذه الأصول أثبتت خلال السنوات الماضية قدرتها على الحفاظ على القيمة الحقيقية للأموال.

إعلان

وهذه القيود، التي يُفترض أنها تحمي أموال الأعضاء من المخاطر، أصبحت مصدر تهديد حقيقي، إذ إن التضخم المتسارع وانخفاض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار بأكثر من 300% خلال 8 سنوات، أفقد المدخرات قيمتها عاما بعد عام.

نقابة الصحفيين المصرية (الموقع الرسمي)

لا بد من التدخل فورا لتغيير الخريطة الاستثمارية

حسب عضو مجلس إدارة صندوق التكافل بنقابة الصحفيين الدكتور حماد الرمحي، فإن متوسط مكافأة نهاية الخدمة التي يمنحها الصندوق لأعضائه تتراوح بين 100 ألف جنيه (2039 دولارا) و223 ألفا (2038 دولارا).

وعلى رغم من أهمية هذا المبلغ على الورق، فإنه لم يعد كافيا لتأمين حياة كريمة بعد التقاعد، أو ضمان استقرار أسرة في حالة وفاة العائل.

ويقول الرمحي للجزيرة نت إن فلسفة التكافل تقوم على التضامن بين الأعضاء، لكن استمرار توجيه الأموال نحو أدوات منخفضة العائد مثل الشهادات البنكية القديمة بعائد لا يتجاوز 15% يجعل العائد الحقيقي سلبيا في ظل تضخم تجاوز 30% في بعض الأشهر.

وأضاف "مدخرات الأعضاء تُنهك، ولا بد من التدخل فورا لتغيير الخريطة الاستثمارية، والدخول في أدوات أكثر ربحية مثل أذون الخزانة والأسهم، مما يرفع استثمارات الصندوق بنحو 200 مليون جنيه (4 ملايين دولار)".

وشدد الرمحي على أن استمرار العمل بقيمة الاشتراك المعمول بها منذ أكثر من 10 سنوات يمثل استنزافا لقدرات الصندوق، ويحول دون تحسين الخدمة، واقترح رفع الاشتراكات، خاصة في الشرائح العليا، مع إدخال وثائق تأمينية جماعية جديدة بالتعاون مع شركات تأمين موثوقة، لتوفير باقات تغطي الوفاة والعجز والتأمين الصحي الجزئي، وتدار بإشراف مباشر من مجلس إدارة الصندوق.

ويرى الرمحي أن الاستعانة بخبراء اكتواريين مستقلين لوضع دراسات علمية مرنة للصناديق هو أمر لا غنى عنه، إذا كانت النقابات تسعى بالفعل إلى رفع مكافآت نهاية الخدمة، لتبلغ نصف مليون جنيه (10194 دولارا) كمرحلة أولى، ثم مليون جنيه (20389 دولارا) لاحقا.

وفي قطاع التعليم، يقول الدكتور سمير النيلي، مدير عام نادي المعلمين بالإسكندرية والقيادي البارز بنقابة المعلمين، إن صندوق الزمالة يُخصص للمعلم المتقاعد بعد عشرات السنين خدمة في مجال التعليم مبلغا لا يزيد عن 50 ألف جنيه (1019 دولارا) في أحسن الأحوال، دون أن يُخصم من رواتب المعلمين شيء نظرا لانخفاض الأجور.

وأضاف "إذا أردنا تعظيم عوائد هذه الصناديق، فلا بد أولا من تعديل القوانين، ثم رفع الرواتب حتى يتسنى اقتطاع اشتراكات مجدية".

ضعف الاشتراكات وتآكل القيمة

أما عضو مجلس النقابة العامة للمحامين محمد عبد الوهاب، فيرى أن المشكلة مزدوجة، فإلى جانب ضعف الاشتراكات وتآكل القيمة، يعاني عدد من الصناديق من عدم التزام بعض الأعضاء باستكمال مدفوعاتهم، لكنه أشار إلى أن الصناديق رغم قصورها لا تزال مفيدة في بعض الحالات، خصوصا عند وفاة عضو في سن صغيرة، حيث يحصل الورثة على مبالغ لم يكن بمقدور المتوفى ادخارها بمفرده.

وأوضح عبد الوهاب أن قيمة المبالغ التي يسددها الأعضاء في صندوق التكافل تتآكل مع مرور الوقت، نتيجة تراجع قدرتها الشرائية بفعل التضخم، وأن الظروف الاقتصادية الصعبة وارتفاع أسعار الفائدة تؤثر بشكل مباشر على أداء صناديق التكافل، لا سيما في ظل سعي الشركات أو البنوك التي تدير تلك الصناديق إلى تحقيق أرباح من خلال دراسات جدوى تضمن لها هامش ربح قبل تقديم الخدمة، وهو ما ينعكس على القيمة الحقيقية لما يحصل عليه الأعضاء.

إعلان

وأكد في حديثه للجزيرة نت أن المحامي رغم تمتعه بحق الحصول على معاش شهري ودفعة واحدة "مكافأة معاش"، بالإضافة إلى عوائد صندوق تكافل، فإن مجمل هذه العوائد لا يواكب تطورات الأسعار أو كلفة المعيشة.

واقترح أن تُنشئ الدولة صناديق تكافل حكومية تُدمج فيها الصناديق النقابية، لتدار بكفاءة أعلى وتُحقق عوائد أكبر عبر أدوات استثمار أكثر مرونة.

من جانبه، يقول أستاذ الاقتصاد بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية الدكتور إيهاب الدسوقي إن فلسفة القانون ترتكز على تقليل أخطار حتى لو جاء على حساب العائد عند استثمار أموال الغير، وهي نية إيجابية في الأصل، لكنه يشير إلى أن تطبيق هذه الفلسفة من دون مراجعة دورية لواقع الاقتصاد يُفقد الصناديق جدواها، خاصة في ظل ارتفاع التضخم وفقدان أدوات الادخار المصرفية لقدرتها على مجاراته.

ويضيف الدسوقي للجزيرة نت أن بعض الصناديق، مثل صندوق نقابة المهندسين، تُدار بكفاءة وتُحقق عوائد ملموسة، في حين تفشل صناديق أخرى بسبب ضعف الإدارة أو الفساد، بالإضافة إلى هشاشة الرقابة الحكومية على هذه الكيانات.

نقابة المحامين المصرية (الموقع الرسمي)

تجارب عربية

ويشير أستاذ التمويل بكلية الأعمال في جامعة الإسكندرية الدكتور السيد عبد اللطيف إلى أنه في عدد من الدول العربية تُمنح صناديق التقاعد والتكافل استقلالية أكبر في إدارة أموالها، وتُخصص نسبا معتبرة للاستثمار في الذهب والعقارات.

ففي الأردن -على سبيل المثال- يستثمر صندوق الضمان الاجتماعي نسبة تفوق 25% من أمواله في القطاع العقاري، ويُسمح له بشراء أسهم في شركات إستراتيجية، وفي دول الخليج، تمثل الصناديق أذرعا استثمارية نشطة، تُدرّ أرباحا سنوية تُوزع على المستفيدين.

ويوضح أستاذ الاقتصاد أن الحل لا يكمن في المغامرة بأموال المشتركين، بل في وضع إستراتيجيات استثمارية متوازنة، تُراعي الحفاظ على رأس المال وتحقيق عائد حقيقي يواجه التضخم.

ويقترح تأسيس محافظ استثمارية متنوعة للصناديق، تضم أدوات مثل الذهب والسندات الحكومية والعقارات، إلى جانب جزء من الأوعية البنكية، وفقا لمستويات المخاطرة المقبولة.

ولا يستبعد عبد اللطيف أن تكون الرغبة الحكومية في الاستفادة من التدفقات المصرفية الهائلة لأموال صناديق التكافل هي الدافع الخفي وراء الإبقاء على القوانين الحالية من دون تعديل، فمع تفاقم الأزمات الاقتصادية، بات كل جنيه يُضخ في الأوعية البنكية التابعة للدولة بمثابة "طوق نجاة يسند الموازنة العامة ويُعزز السيولة، حتى لو جاء ذلك على حساب القيمة الحقيقية لمدخرات المواطنين وحقوقهم المستقبلية"، على حد قوله.

المصدر: الجزيرة

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا