طارق بن زياد لم يحرق سفنه لأنه أذكى من ذلك

لمع اسم القائد الفاتح طارق بن زياد في التاريخ الإسلامي باعتباره واحدا من أبرز القادة العسكريين في صدر الإسلام، إذ جمع بين الشجاعة والبراعة التنظيمية، وبرز دوره خصوصا في مطلع القرن الثاني الهجري، حيث تشير روايات ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب" والطبري في تاريخه، إلى أن طارق كان من الموالي الذين التحقوا بالجيوش الإسلامية في المغرب، حيث أظهر كفاءة قتالية جعلته يحظى بثقة الوالي العام على إفريقية وهو موسى بن نصير.
أما عن أصله ونسبه، فقد اختلفت فيه الروايات اختلافا بيّنًا، فبعض المصادر كابن خلدون في "العبر" يشير إلى أنه كان بربريا، وهو الاسم الذي أطلقته المصادر الإسلامية على سكان بلدان المغرب من قبيلة نفزة أو صنهاجة، بينما يذهب المقري في "نفح الطيب" إلى أنّه من الموالي الفرس الذين اندمجوا في المجتمع الإسلامي بالمغرب، وهو الأقرب إلى الصحة فيما يبدو.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsend of listارتبط اسم طارق بعلاقة وثيقة بقائده موسى بن نصير، تلك العلاقة التي جمعت بين الطاعة العسكرية والقدرة القيادية، ويورد المقري في "نفح الطيب" أن موسى اختار طارقا لقيادة جموع البربر الذين دخلوا في الإسلام حديثا، وهو اختيار يعكس تقدير موسى لمكانة طارق وقدرته على التعامل مع المقاتلين المحليين من جهة، ومع أوامر القيادة المركزية في دمشق من جهة أخرى. هذه العلاقة التكاملية بين الرجلين ستصبح لاحقا أساسا في حملة فتح الأندلس.
الطريق إلى الأندلس
وقبيل الانطلاق نحو الضفة الشمالية من المتوسط، كانت الأوضاع الداخلية في شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال)، ولا سيما النزاع المحتدم بين الملك القوطي المعروف باسم لذريق وبين خصومه من النبلاء والملوك المسيحيين المجاورين، قد ساهمت في تهيئة الأرضية لفكرة فتح الأندلس لدى المسلمين.
وتشير المصادر التاريخية عند المقري وابن الكردبوس وابن خلدون إلى أن هؤلاء المنافسين سعوا إلى مراسلة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، يعرضون عليه دعما وتنسيقا ضد لذريق، وهو ما دفع الخليفة إلى تكليف واليه على إفريقية موسى بن نصير بالنظر في إمكانية التوسع غربا وفتح الأندلس، فأسند موسى هذه المهمة الحساسة إلى قائده البارز طارق بن زياد.
إعلانوكان والي سبتة المعروف باسم يُليان يلعب دورا محفزا في هذا الاتجاه، فقد قدّم وعودا موسّعة لموسى بن نصير بأن الجزيرة غنية بالغنائم والثروات، وأنه على استعداد لمدّ المسلمين بالمعلومات اللازمة مستفيدا من معرفته الدقيقة بجغرافيتها وممراتها، غير أن موسى بخبرته العسكرية آثر التريث والحذر، مُفضِّلا اختبار صدقية هذه الوعود عبر تحرّكات استطلاعية محدودة.
وبناء على ذلك جهّز موسى قوة صغيرة للعبور من أقرب المنافذ البحرية، أي ميناء سبتة، وأسند قيادتها إلى أحد القادة ذوي الكفاءة وهو طريف بن مالك، وقد نفّذت هذه القوة غارات سريعة على الأراضي الأندلسية، كان هدفها جمع المعلومات عن طبيعة الأرض وقوة الدفاعات، وهو ما شكّل المقدمة العملية لعبور الجيش الكبير بقيادة طارق بن زياد لاحقا.
تتعدد الروايات حول كيفية عبور طارق بن زياد بجيشه إلى الضفة الشمالية من مضيق جبل طارق، غير أن أكثرها قبولا لدى الباحثين هي تلك التي تشير إلى دور يليان حاكم سبتة، الذي وجد في التحالف مع طارق فرصة للانتقام من ملك القوط لذريق لخيانته له ولابنته، فقد حملت علاقة الرجلين طابعا إستراتيجيا، إذ عرض يليان دعمه اللوجستي مقابل الوقوف معه ضد الملك الذي كان بينهما ثأر قديم.
وبحسب هذه الروايات، تولّى يُليان مهمة تأمين النقل البحري للجيش الإسلامي، فبدأت سفنه تعبر المضيق في رحلات متتابعة تنقل الجنود دفعة بعد أخرى، حتى اكتمل وصول القوة بقيادة طارق نفسه في آخر الرحلات، ومن اللافت أن هذا النشاط البحري لم يُثر الريبة في بدايته، لكون حركة السفن التجارية مألوفة في المنطقة، وهو ما ساعد على نجاح العملية من دون مقاومة تُذكر.
رواية إحراق السفن عند المؤرخين والباحثين العرب
أما القصة الشهيرة بعد عبور المضيق، وإحراق طارق بن زياد للسفن حتى لا يبقى لهم أمل في العودة والإصرار على الفتح واستكماله، فقد اختلفت بشأنها المصادر، فبينما ذهب عدد منها إلى أن الهدف كان دفع الجنود إلى الاستبسال وعدم التفكير في التراجع لغياب وسيلة للعودة، رأت روايات أخرى أن هذا الفعل -إن وقع- كان يحمل بُعدا رمزيا، أراد به طارق أن يؤكد ولاءه المطلق للعرب والمسلمين، وقطع الطريق على مَن قد يشكك في إخلاصه بسبب أصوله البربرية.
وقد ذُكرت خطبته الشهيرة في عددٍ من المصادر التاريخية مثل المقري في "نفح الطيب"، وابن هذيل الأندلسي في "تحفة الأنفس وشعار سكان الأندلس"، وابن الكردبوس في "الاكتفاء"، والإدريسي في "نزهة المشتاق"، والحميري في كتابه "الروض المعطار"، ومن اللافت أنها جاءت في لغة حماسية جزلة يقول فيها:
"أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم.
وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا، ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب عن رعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعا فيها للنفوس، أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا".
إعلانوقد ذكرها عدد من المؤرخين المعاصرين بالدرس والتحليل منهم محمد عبد الله عنان وعبد العزيز الدوري وحسين مؤنس ومحمود علي مكي وأحمد مختار العبادي وعبد الحليم عويس وغيرهم.
ومن اللافت أن أغلب المؤرخين المحدثين يميلون إلى التشكيك في صحة قصة إحراق طارق بن زياد لسفنه بعد عبور جيشه نحو الأندلس، معتبرين أنها أقرب إلى البناء الأدبي منها إلى الواقعة التاريخية، ومع ذلك لا يخلو التراث التاريخي من أصوات تؤيد إمكانية حدوثها، مستندة إلى أن مثل هذه الأفعال تكررت في وقائع مشابهة داخل التاريخ الإسلامي وغيره، مما يجعلها ممكنة الحدوث ولو في إطار رمزي.
فمن بين الشواهد التي يسوقها المؤيدون ما أورده الطبري في تاريخه عن أرياط الحبشي الذي قاد جيشه لعبور البحر إلى اليمن لاحتلالها، فأحرق سفنه وخطب في جنوده خطبة تحثهم على الثبات، في مشهد يشبه ما يُنسب إلى طارق لاحقا، كما يشير الطبري في تاريخه أيضا إلى القائد الفارسي وهرز مبعوث كسرى إلى اليمن لتحريرها، الذي لجأ بدوره إلى أسلوب مشابه عندما قرر قطع سبيل التراجع أمام جيشه ليضمن صمودهم.
ويستشهد الباحثون كذلك بما رواه أبو بكر المالكي في "رياض النفوس" عن القائد الفقيه أسد بن الفرات (ت 212هـ) فاتح صقلية، الذي فكر في إحراق مراكبه حين ثار عليه بعض جنوده مطالبين بالانسحاب، وقد عُدّ هذا الموقف أقرب النماذج الإسلامية لخطوة طارق بن زياد المفترضة.
أما في السياق الأوروبي، فيقدّم التاريخ مثالا حديثا نسبيا مع القائد الإسباني أرنان كورتيس، فاتح المكسيك سنة 1519م، حيث يروي الدكتور أحمد مختار العبادي في كتابه "في تاريخ المغرب والأندلس" أن كورتيس اكتشف مؤامرة بين قادته للعودة إلى إسبانيا، فقام بتفريغ سفنه من العتاد والجنود ثم ثقبها وأغرقها ليمنع أي محاولة انسحاب، وهو ما يوازي من حيث الفكرة ما نُسب إلى طارق بن زياد.

لذلك فإن القائلين بثبوت القصة لا يستندون فقط إلى ابن الكردبوس وابن هذيل ورواية المقري أو ابن عذاري، بل يحاولون تعزيزها بقرائن من أحداث مشابهة في تجارب قادة آخرين عبر العصور، مما يمنح القصة إطارا من المعقولية التاريخية حتى وإن بقيت مثار جدل.
ولكن في مقابل الأصوات التي تميل إلى إثبات حادثة إحراق السفن، يقدّم فريق من المؤرخين والباحثين جملة من الاعتراضات المنهجية التي تُضعف من صدقية القصة وتجعلها أقرب إلى الأدب الرمزي منها إلى الحدث التاريخي.
وأول هذه الاعتراضات يرتبط بالمنطق العسكري، فليس من المتصور أن يُقْدِمَ قائد مثل طارق بن زياد على تدمير وسيلة النجاة الوحيدة لجيشه وهو على أرض مجهولة المصير، يواجه فيها قوة عظمى كالجيش القوطي، فالتصرف في هذه الحالة يعادل الانتحار الجماعي أكثر منه خطة حربية مدروسة.
ثم إن الروايات نفسها تخبرنا أن طارق بعث إلى قائده الأعلى موسى بن نصير طالبا المدد حين واجه جيوش القوط، فمدّه موسى بخمسة آلاف مقاتل إضافي، وهنا يبرز التساؤل: كيف تمكّن موسى من إرسال هذه الأعداد الكبيرة عبر البحر إذا كانت السفن قد أُحرقت بالفعل؟ هذا الطرح يقود بدوره إلى إشكالية أخرى تتعلق بالقدرة اللوجستية، فهل كان بوسع الترسانات البحرية الإسلامية في تلك الحقبة أن تصنع في فترة وجيزة أسطولا جديدا لنقل الآلاف من الجنود؟ الأمر يبدو بعيدا عن المعقولية التاريخية.
ويضيف بعض المشككين بُعدا آخر للنقد، فحتى لو افترضنا أن السفن كانت تعود لحاكم سبتة يليان، فبأي حقّ يُقْدِم طارق على إحراقها؟ أليست ملكية الرجل الخاصة جزءا من اتفاقه مع الجيش الإسلامي؟ بل كيف يتصرّف طارق أصلا في موارد الدولة دون إذن الخليفة الأموي الذي تعود له الكلمة الفصل؟ من هنا يرى هؤلاء أن الخطبة المنسوبة وما فيها من مشهد إحراق السفن إنما تعكس صورة بلاغية لبثّ الحماسة في الجنود أكثر مما تعكس واقعة حقيقية.
إعلانوفي هذا السياق يشير المؤرخ محمود علي مكي في دراسة له بعنوان "أسطورة إحراق السفن في التاريخ" إلى أن من بين النماذج التي تغذي المخيلة التاريخية في الشرق هذه الأسطورة التي ارتبطت بالقائد الفارسي وهرز حين عبر إلى اليمن لمساندة سيف بن ذي يزن في طرد الأحباش، فقد نُسب إليه أنه أحرق سفنه بعد نزول جيشه إلى البر، وألقى في جنوده خطبة حماسية شحذ بها عزائمهم، وهي صورة خطابية ستجد صداها لاحقا في روايات بعض المؤرخين عن فتح الأندلس.
ويرى مكي أن قصة إحراق وهرز لمراكبه، مقرونةً بخطبة تحثّ على الصمود، تُمثِّل الجذور الأولى لأسطورة إحراق السفن المنسوبة إلى طارق بن زياد، بوصفها رمزا للتضحية والفداء، وهي منذ ذلك الحين صارت مثالا مفضّلا عند رواة أخبار الغزوات البحرية، حيث يواجه جيش صغير خصما يفوقه عددا وعدة.
ومن هذه الأرضية الأسطورية ينتقل مكي للحديث عن وقائع فتح الأندلس نفسها، مميزا بين ما هو متخيّل أدبي وما هو ثابت تاريخيا، فالمصادر المتفقة على تفاصيل العبور ومعركة شذونة (وادي لِكة) تشير بوضوح إلى حقيقة الفارق الشاسع بين جيش المسلمين وجيش القوط، وإلى أن المواجهة انتهت يوم 28 رمضان سنة 92هـ بانتصار حاسم للمسلمين الأقل عددا، دون حاجة إلى إقحام مشهد إحراق السفن في السرد، وهكذا يوضح مكي أن الفتح الأندلسي كان قائما على معطيات عسكرية حقيقية، بينما جرى استدعاء الأسطورة الشرقية لإغناء القصة ومنحها بُعدا بطوليا دراميا.
قصة الإحراق عند الباحثين الإسبان
تذهب الغالبية الساحقة من الباحثين الإسبان اليوم إلى أن قصة إحراق طارق بن زياد للسفن لا تعدو كونها خبرا أدبيا أسطوريا أُضيف لاحقا إلى روايات الفتح، وليست واقعة تاريخية تثبتها المصادر الأولى، وحجتهم الرئيسة في ذلك أن أقدم النصوص مثل "الكرونيكا الموزاربية" لعام 754، وهي أقدم شاهد لاتيني كُتب بعد أحداث الفتح بأربعين سنة، وكذلك المصادر العربية المبكرة عند البلاذري وابن عبد الحكم وغيرهم لم تذكر شيئا عن الإحراق، بل اكتفت بذكر دور يوليان حاكم سبتة في تسهيل العبور.
هذه النتيجة يؤكدها الباحث أليخاندرو غارسيا سانخوان في دراسته "أسباب الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية"، حيث يوضح أن مشاهد الخطبة والمعجزة والإحراق تنتمي إلى طبقة روائية متأخرة لا يمكن اعتبارها دليلا قاطعا على وقوع الحدث.
وبالمنهج نفسه يقدّم إدواردو مانثانو مورينو، الباحث في المجلس الأعلى للبحوث العلمية في مدريد، قراءة نقدية في بحثه "المصادر العربية حول فتح الأندلس: قراءة جديدة"، حيث يؤكد فيه أن روايات الفتح الأندلسي في المصادر الأندلسية والمشرقية المتأخرة امتلأت بالتوسعات الأدبية والتقاليد البلاغية، ومن بينها قصة الإحراق، وهو ما يُوجب على المؤرخ تغليب الروايات الأقدم زمنا وتجنّب رفع هذه الأخبار الدرامية إلى مرتبة الحقيقة التاريخية.
أما الباحثة أومايرا إيرّيرو سوتو، فقد خصّصت دراسة بعنوان "خطبة طارق بن زياد: مثال على الصياغة البلاغية في التأريخ العربي"، لتبيّن فيها أن مشهد حرق السفن ليس سوى "توبوس بلاغي" أو مجرد ثيمة متكررة في أدبيات الغزو عند ثقافات مختلفة، إذ يُستخدم لإيصال فكرة "عدم الرجوع"، بهدف رفع معنويات الجنود أكثر من كونه وصفا واقعيا.
وفي دراسة لاحقة للباحثة نفسها بعنوان "طارق بن زياد: الرؤى المختلفة لقائد بربري في المصادر الوسيطة" تؤكد أن حضور قصة الإحراق في المصادر محدود للغاية، لكنه ترسخ في الذاكرة الأدبية اللاحقة بوصفه رمزا بطوليا.
ويضيف لويس مولينا في مقاله "رواية عن فتح الأندلس" أن كتاب "أخبار مجموعة" الذي جُمِّع في قرطبة بالقرن الحادي عشر هو النص العربي الوحيد الذي يورد بصراحة عبارة الإحراق تلك، ويخلص مولينا إلى أن هذه التفاصيل الدرامية لا يجوز التعامل معها بوصفها خبرا أصيلا؛ لأنها تنتمي إلى طبقة روائية متأخرة اعتمدت على مواد أقدم لكنها أضافت إليها عناصر تخييلية.
وهكذا يتفق أغلب الباحثين والمؤرخين العرب والإسبان المعاصرين على رفض قصة إحراق السفن لأسباب تاريخية وعقلانية، كان على رأسها ضرورة وصول الرسائل والمدد إلى الفاتحين الجدد من القيادة العليا في شمال أفريقيا التي كان يقودها موسى بن نصير وقتئذ، وعدم وجود ترسانة إسلامية قادرة على صنع سفن أخرى بديلة لاستكمال عملية الفتح التي بدأت في رمضان سنة 92هـ.
إعلان