دلالات تصعيد إسرائيل عسكريا بسوريا رغم تقدم المفاوضات

في وقت تتفاوض فيه دمشق وتل أبيب على اتفاق أمني قد يوقّع في نهاية سبتمبر/أيلول الجاري، بحسب تقارير، كانت التوقعات تميل إلى تهدئة عسكرية تفسح المجال أمام مسار التسوية، لكن الواقع الميداني يكشف صورة مغايرة.
فقد كثّفت إسرائيل اعتداءاتها خلال الأسابيع الأخيرة على شكل غارات استهدفت مواقع عسكرية وبنى تحتية، وتوغلات داخل الأراضي السورية، مما أسفر عن خسائر بشرية ومادية.
ويطرح هذا تساؤلات بشأن جدية المسار التفاوضي وحدود تأثيره على القرار العسكري الإسرائيلي.
فهل تسعى تل أبيب إلى تحسين شروطها التفاوضية بالقوة، أم إن الضربات والاعتداءات تحمل رسائل أمنية وسياسية أبعد من الملف السوري ذاته؟

مفاوضات على وقع التصعيد
منذ الحديث عن بداية التفاوض بين دمشق وتل أبيب، بدا واضحا أن إسرائيل ترفع منسوب تدخلها العسكري في سوريا مع كل خطوة في المسار التفاوضي.
وبعد تواتر الأنباء عن وجود مسار تفاوضي بين الطرفين سارع الإعلام الرسمي السوري في يونيو/حزيران الماضي إلى نفي وجود أي اتصالات مباشرة أو اتفاقات سرية مع إسرائيل، مؤكدًا أن الحديث عن سلام أو تطبيع "سابق لأوانه".
غير أن التطورات اللاحقة أظهرت مسارًا مختلفا، إذ التقى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني وفدًا إسرائيليا في باريس منتصف أغسطس/آب الماضي لمناقشة ملفات تتعلق بخفض التصعيد في الجنوب السوري، ومراقبة وقف إطلاق النار في السويداء، إضافة إلى إعادة تفعيل اتفاق فك الاشتباك لعام 1974، بحسب ما أوردت وكالة الأنباء الحكومية السورية (سانا).
وتحدثت القناة 12 الإسرائيلية عن اتفاق وشيك بوساطة أميركية خليجية يتضمّن حزمة تنازلات سورية مقابل مساعدات وإعمار، في حين نقلت صحف إسرائيلية مثل "يديعوت أحرونوت" و"تايمز أوف إسرائيل" تقارير عن اتصالات تقودها أطراف ثالثة، بينها الإمارات والولايات المتحدة، لبحث إشراك سوريا في مسار "اتفاقيات أبراهام".
إعلانبيد أن الرئيس السوري أحمد الشرع تحدث في لقاء مع إعلاميين عرب في قصر الشعب بدمشق عن تركيز التفاوض مع الجانب الإسرائيلي على إحياء اتفاق 1974، مع إمكانية مناقشة ترتيبات أمنية جديدة تخص الجنوب السوري، معتبرا الحديث عن تطبيع أو اتفاق سلام مع إسرائيل غير وارد حاليا.
لكن بالتوازي مع ذلك، شهدت الأسابيع الأخيرة تصعيدًا غير مسبوق بلغ ذروته في عملية إنزال عسكري بمنطقة الكسوة بريف دمشق شاركت فيها 4 مروحيات وعشرات الجنود، سبقها بيوم قصف مسيّرات إسرائيلية أدى إلى مقتل 6 جنود في جبل المانع في المنطقة، وتحدث الجانبان عن أجهزة اتصالات وتجسس كانت مزروعة في الموقع المستهدف.
كما كثف الجيش الإسرائيلي خلال الفترة الماضية تحركاته الميدانية في ريف القنيطرة عبر عمليات دهم واعتقال طالت مدنيين، كان آخرها اعتقال 7 شبان في بلدة جباتا الخشب في الثالث من سبتمبر/أيلول الجاري.
إسرائيل تريد إذعانا لا سلاما
رغم المنحى العلني الذي أخذته المفاوضات بين دمشق وتل أبيب، يكشف السلوك الإسرائيلي في سوريا أن ما تريده تل أبيب ليس تسوية متوازنة أو سلامًا متكافئا، بل فرض معادلة إذعان على دولة خارجة من حرب وتمر بمرحلة انتقالية حساسة، بحسب مراقبين.
وفي هذا السياق، يؤكد الباحث الفلسطيني إبراهيم المدهون للجزيرة نت أن إسرائيل من خلال التصعيد الراهن تسعى إلى تثبيت معادلة التخويف والردع مع الإدارة السورية الجديدة، كما تريد أن تثبت أن أي مشروع سياسي أو عسكري يمكن أن يُعتبر تهديدًا لها سيواجه بالنار فورا.
وعليه، تبدو الرسالة الإسرائيلية واضحة: لا مكان لسوريا قوية وموحدة إلا إذا كانت تابعة بالكامل للاحتلال. لهذا لا تريد إسرائيل سلامًا مع سوريا، بل إذعانا كاملاً، كما يؤكد الباحث المدهون.
ويتقاطع هذا الطرح مع ما ذهب إليه الباحث في الشؤون الإسرائيلية خالد خليل، الذي يرى أن استمرار الاعتداءات رغم المفاوضات يعكس سقفًا مرتفعا لتوقعات تل أبيب التي تسعى لفرض اتفاقيات خضوع أكثر منها تسويات سياسية.
ويشير خليل، في حديثه للجزيرة نت، إلى أن الحالة السورية تمثل فرصة خاصة لإسرائيل، إذ تسعى لاستغلال هشاشة المرحلة الانتقالية لفرض وقائع أمنية غير مسبوقة، وصلت إلى حد التدخل في الشأن الداخلي وتغذية مشاريع التقسيم والفوضى.
وتدعم هذه الرؤية دراسة صادرة عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 بعنوان "إسرائيل بعد السابع من أكتوبر.. نحو عقيدة جديدة للأمن القومي"، خلصت إلى أن تل أبيب لم تعد تكتفي بإدارة الصراع، بل تسعى إلى فرض بيئة إقليمية تضمن تفوقها المطلق وتمنع نشوء أي قوة إقليمية منافسة.

نتنياهو يصدر أزماته للخارج
ولا يبدو التصعيد الإسرائيلي في سوريا منفصلًا عن الأزمات الداخلية التي تعصف برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومة اليمين المتطرف التي يقودها، فإلى جانب الانتقادات الواسعة الموجهة له بشأن إخفاقات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يواجه نتنياهو ملفات فساد ثقيلة.
واعتبارا من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، سيكون رئيس الوزراء ملزمًا بحضور ثلاث جلسات استجواب أسبوعيا، وفق ما ذكره موقع "تايمز أوف إسرائيل" في أغسطس/آب الماضي.
إعلانكما كشفت صحيفة "ذا ماركر" الاقتصادية في تقرير بتاريخ 28 يوليو/تموز الماضي عن تفشٍّ غير مسبوق للفساد داخل الائتلاف الحاكم، واصفة المشهد السياسي الإسرائيلي بأنه تحوّل إلى "نادٍ للنخبة المتهمة"، حيث تتشابك السياسة بالمال والمصالح الأمنية في شبكات محسوبية واسعة.
وفي هذا السياق، يؤكد مدير مركز الدراسات السياسية والتنموية في غزة رامي خريس أن نتنياهو اعتاد الهروب من أزماته الداخلية عبر تصديرها إلى الخارج، سواء بمحاولة التنصل من مسؤولية إخفاقات السابع من أكتوبر أو عبر توظيف التصعيد العسكري لتشتيت الانتباه عن قضاياه الداخلية.
ويضيف خريس، في تصريحات سابقة للجزيرة نت، أن سياسة نتنياهو تقوم على تحويل الأزمات الداخلية إلى فشل عسكري أو تهديد خارجي.
ويتقاطع هذا الطرح مع ما يشير إليه الباحث في الشؤون الإسرائيلية خالد خليل، الذي يرى أن الحكومة الحالية، التي تُوصف بأنها الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، لا تبحث عن تسوية بقدر ما تسعى إلى استدامة التوتر والحرب.
ويضيف خليل أن نتنياهو لا يقدّم نفسه رئيس وزراء وحسب، بل يحاول الظهور كزعيم تاريخي يسعى لإحياء مشاريع أيديولوجية مرتبطة بـ"إسرائيل الكبرى"، معتبرًا أن أي تهدئة سياسية أو عسكرية قد تعني فعليًا نهاية مستقبله السياسي.
الخوف الوجودي يحكم إسرائيل
لا يمكن قراءة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على سوريا بمعزل عن البنية الأمنية التي تحكم سلوك تل أبيب، والتي تضاعفت حساسيتها بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
فإسرائيل التي تعرّف نفسها كـ"دولة أمنية بامتياز"، تنظر إلى محيطها السوري بعيون مليئة بالقلق والشك، مما يفسر تكثيفها للغارات والتوغلات في الجنوب السوري خلال الفترة الأخيرة.
في هذا الإطار، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يوم 28 أغسطس/آب الماضي "لست شخصًا ساذجا، وأفهم تماما مع من نتعامل في سوريا، ولهذا السبب استخدمنا القوة"، وأضاف أن حكومته "لا تخدع نفسها بشأن من يسيطر على البلد العربي"، وذلك خلال جلسة خاصة في غرفة العمليات الدرزية بقرية جولس شمال إسرائيل، وفق ما أوردت القناة 12 الإسرائيلية.
وتلجأ تل أبيب منذ سنوات إلى تبرير عدوانها المتكرر على سوريا بادعاءات أمنية مثل وجود عناصر مرتبطة بإيران أو بالفصائل الفلسطينية، أو نقل أسلحة إلى حزب الله، وأصبح التبرير في الأشهر الأخيرة يقوم على دعوى "حماية الدروز" بعد الأحداث التي شهدتها محافظة السويداء في يوليو/تموز الماضي.
ويرى الخبير العسكري والإستراتيجي العميد عبد الله الأسعد أن إسرائيل دولة قائمة على الأمن والاستخبارات والتجسس، مما يجعل هاجسها الأمني حاضرا دائمًا في قرارها العسكري.
ويضيف في حديثه للجزيرة نت أن ضرباتها المركزة في الجنوب السوري مرتبطة بالعقيدة العسكرية والأمنية بعد السابع من أكتوبر والتي تغيرت جوهريًا، إذ بات "الخطر الوجودي" في مقدمة أولويات إسرائيل بعدما فقدت جزءًا كبيرا من شرعيتها في الغرب وحتى بين حلفائها التقليديين.
هذا القلق الوجودي تحدثت عنه العديد من مراكز الأبحاث الإسرائيلية، منها دراسة صادرة مركز بيغن/السادات للدراسات الإستراتيجية في ديسمبر/كانون الأول 2023، والتي خلصت إلى أن إسرائيل باتت تضع الأمن الوجودي فوق أي اعتبارات سياسية أو دبلوماسية، وأنها ستواصل استخدام القوة خارج حدودها، خصوصًا في سوريا ولبنان، كوسيلة استباقية لمنع تكرار "صدمة 7 أكتوبر".
وفي ظل هذا القلق، صعّد وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير خطابه بالتحريض على اغتيال الرئيس السوري أحمد الشرع، إذ قال عبر منصة إكس بعد أحداث السويداء "الصور المروعة من سوريا تثبت أمرا واحدا: مَن كان جهاديا يبقى جهاديا يجب عدم التفاوض معه"، واعتبر أن الحل الوحيد مع الرئيس السوري هو تصفيته، على حد قوله.

هل يقوض التصعيد الإسرائيلي فرص الاتفاق الأمني؟
مع استمرار الغارات والتوغلات الإسرائيلية في العمق السوري، يبرز سؤال جوهري حول مدى انعكاس هذا التصعيد على فرص التوصل إلى اتفاق أمني بين دمشق وتل أبيب.
إعلانينقل موقع أكسيوس عن مصادر إسرائيلية وأميركية أن المبعوث الأميركي إلى سوريا توماس برّاك بحث مع نتنياهو ووزراء بارزين مسألة وقف الهجمات على لبنان والمفاوضات الجارية مع سوريا.
كما حضر برّاك اللقاء بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ووزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر في باريس، لبحث خفض التصعيد وإعادة تفعيل اتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974 برعاية الأمم المتحدة.
لكن هذه الاتصالات الدبلوماسية لم تمنع التصعيد الميداني؛ إذ أكد كبار المسؤولين الإسرائيليين، وفي مقدمتهم نتنياهو، أنهم لن يسمحوا بنشر قوات سورية جنوبي دمشق، معتبرين أن المنطقة الممتدة نحو الجولان المحتل يجب أن تكون منزوعة السلاح.
وفي المقابل، أصدرت الخارجية السورية بيانًا اعتبرت فيه أن "استمرار مثل هذه الانتهاكات يقوّض جهود الاستقرار ويفاقم من حالة التوتر في المنطقة"، داعية الأمم المتحدة ومجلس الأمن إلى تحمل مسؤولياتهم أمام هذا العدوان الإسرائيلي.
من جانبه يرى الباحث في الشؤون الإسرائيلية خالد خليل أن التصعيد على الأرض لا يقوّض فرص التفاهم فحسب، بل يفتح الباب أمام تحالفات جديدة مع منافسين لإسرائيل.
ويشير خليل إلى أن قصف مبنى الأركان والقصر الرئاسي في دمشق سرّع في توقيع اتفاق للتعاون العسكري مع تركيا، مما يعكس أن الضغط الإسرائيلي قد يدفع دمشق لتعزيز تحالفاتها بدل تقديم التنازلات.
في المقابل يحذر الخبير العسكري العميد عبد الله الأسعد من أن استمرار العدوان قد يُفشل أي تفاهمات مرتقبة، موضحا أن الملف السوري لم يعد بيد دمشق وحدها، بل بيد ضامنين إقليميين كتركيا وداعمين عرب يسعون إلى بقاء سوريا مستقرة وآمنة بعيدًا عن مشاريع التقسيم أو الفدراليات.