
يواصل الذهب تسجيل قمم جديدة، ليبدو الخيار الأمثل أمام المستثمرين هذا العام بالمقارنة مع الأصول الأخرى. لكن ينبغي ألّا ننبهر فقط بمكاسب الذهب من دون أن ننظر بعمق إلى دلالات ذلك على الصعد المختلفة، المالية والسياسية والأمنية، حول العالم. من هنا يبرز السؤال الأهم مع صعود أسعار الذهب، ما المخاطر التي تهدّد العالم؟
يُعدّ ملف الديون أخطر الملفات التي تهدد استقرار الاقتصاد العالمي، والتي قد تزعزع مكانة أهم العملات، وتعزز الإقبال على الذهب وعلى الأصول الآمنة الأخرى، فقد تضخّمت ديون الدول الكبرى وتضاعفت حتى أصبحت قنابل موقوتة، إن لم يحدث تحركٌ سريع لتنفيذ خطط فعالة للتخفيف من حدّتها.
ويؤدي إدمان الحكومات على الاقتراض إلى تفاعل مخاطر الدين في الولايات المتحدة وكبرى الاقتصادات الأوروبية، كفرنسا وبريطانيا، وغيرها من الدول التي لا تلتزم بشروط سقف الدين العام، ونسب العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي، المحدّدة في ميثاق الاتحاد الأوروبي الذي ينصّ على سقف 60 في المئة للدين العام، و3 في المئة للعجز من الناتج المحلي الإجمالي، في الوقت الذي تخطّت فيه الديون هذه المستويات بأشواط.
الثقة.. المفتاح الذهبي للاستثمارات
تتحدّد بوصلة الأسواق واتجاهات رؤوس الأموال عبر عنصر الثقة، حيث إنّ فقدان الثقة بقدرة الحكومات على تنفيذ برامج خاصّة بإدارة الأزمات وتحييد المصالح السياسية لتحقيق الأهداف المالية اللازمة لتفادي الانهيارات الاقتصادية والاجتماعية، يؤدي إلى تضعضع مكانة الدول، ويضرب بالتالي أداء الاقتصاد العالمي.
وتُثبت المؤشرات التي تأتينا من الأسواق صحّة تلك المخاوف، فأسعار الكثير من السندات الحكومية تراجعت على نحوٍ لافت في الفترة الأخيرة، في حين ارتفعت عوائد تلك السندات بقوة، وهو ما يثير التساؤلات حول متانة الاقتصادات، ومستويات التصنيف الائتماني للدول الكبرى الواقعة في مهبّ أزمات الديون، مثل الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وبريطانيا.
وبالتالي فإنّ إقبال المستثمرين على الملاذات الآمنة يرتفع مع ارتفاع منسوب الضبابية، إضافة إلى التوجه نحو خفض أسعار الفائدة، وهو أمر متوقّع في وقت قريب من قبل بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي، لذا تتعزّز مكانة الذهب في صدارة الأصول الاستثمارية، وتهتزّ مكانة الدولار الأميركي، وسط قلق متصاعد من مرحلة اضطرابات قوية قادمة.
استقلالية الفدرالي الأميركي على المحكّ
المسألة الأخرى بالغة الأهمية بالنسبة إلى العالم اليوم هي الثقة في بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي، كونه مرآة مهمة لأداء الاقتصاد الأكبر في العالم، ولقوة أو ضعف العملة الخضراء.
في هذا الإطار، يتّجه العالم إلى مرحلة جديدة في تاريخ الفدرالي، حيث ستتغير إدارته مع انتهاء ولاية جيروم باول في شهر أيّار القادم. وأيّ تدخل من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإدارته في نهج السياسة النقدية يعتبر ضربة لصدقيّة الفدرالي ولاستقلاليّته، كما أنّ أي قرار لا ينبثق عن قراءة دقيقة وتحليل علمي للأرقام والمؤشرات الاقتصادية، سيُترجم كذلك في فقدان الثقة بالفدرالي، ويؤدي بالتالي إلى تراجع جاذبية الأصول الأميركية.
اختبارات صعبة للاقتصاد الفرنسي
من جهة أخرى تبرز المخاطر المالية في كبرى الاقتصادات الأوروبية التي تمرّ باختبارات صعبة؛ إذ يعاني الاقتصاد الفرنسي من حالة تباطؤ مزمنة تعكس غياب الإصلاحات الفعلية الهادفة إلى ضبط الإنفاق، وتراجع القدرات الإنتاجية، وتحديات الطاقة، فضلًا عن غياب خطط التحفيز الاقتصادي التي تتناسب مع التحديات المالية والتطور الذي من المفترض أن يشهده الاقتصاد.
وتتفاعل أزمة الديون الفرنسية نتيجة تراكم الأزمات المالية والتضخمية، وتهدد هذه الأزمة بانفجار لا تحمد عقباه، فقد بلغ الدين العام في فرنسا مستوى 114 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين وصل إجمالي الدين الحكومي والخاص، حتى منتصف 2025، إلى نحو 7.65 تريليون يورو؛ أي ما يزيد عن ضعفيّ الناتج المحلي الإجمالي، البالغ 2.9 تريليون يورو.
الجدير ذكره أنّ فرنسا تحتلّ المرتبة الثالثة بين دول الاتحاد الأوروبي من حيث المديونية، في حين تأتي اليونان في المرتبة الأولى، تليها إيطاليا في المرتبة الثانية.
إلى ذلك، تُعطّل الانشقاقات السياسية في فرنسا خطط الإصلاح الحقيقية، وهو ما يُنذر بانهيار اقتصادي خطير سينعكس على الاتحاد الأوروبي برمّته، في الوقت الذي تواجه فيه معظم الاقتصادات تحديات صعبة. فحتى الاقتصاد الألماني، الأكبر بين الدول الأعضاء، يواجه خطر الركود، في ظلّ الضغوط الناجمة عن الرسوم الجمركية الأميركية، فضلاً عن تراكم الضغوط المالية منذ أزمة كورونا، إلى الحرب الروسية الأوكرانية، وآثار العقوبات على فاتورة الطاقة التي تدفعها أوروبا، وتُضاف إلى كل ما سبق خطط الإنفاق الدفاعيّ التي تزيد من حجم الضغوط المالية على ميزانيات الاتحاد الأوروبيّ.
اقتصاد بريطانيا في انزلاق حاد
من جهة ثانية، يقع اقتصاد المملكة المتحدة أيضًا في دائرة الخطر، في ظلّ ارتفاعات تاريخية في حجم الديون وتكاليف خدمة الدين والإفراط الحكومي في الاعتماد على الاقتراض، وجاء الارتفاع الملحوظ لعوائد السندات البريطانية مؤخرًا ليؤكد مخاوف الأسواق المتزايدة بشأن الاقتصاد البريطانيّ.
بلغ الدَّين الحكومي في المملكة المتحدة نحو 104 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، في الوقت الذي يتزايد فيه قلق الأسواق بشأن استقرار المالية العامة، وقدرة الحكومة على السيطرة على العجز الماليّ والتعامل مع الضغوط على الموازنة، في ظلّ تباطؤ النمو الاقتصادي بشدّة، وارتفاع البطالة إلى مستويات قياسية، وتسجيل سوق العقارات الفاخرة أسوأ أداء له في عشر سنوات.
ويُقدَّر الدَّين الخارجي للمملكة المتحدة هذا العام بنحو 10.72 تريليون دولار، وهو ما يوازي أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي، فقد ارتفعت قيمة سوق السندات البريطانية بأكثر من 600 في المئة خلال العقدين الماضيين، من 554.88 مليار دولار في العام 2006 إلى نحو 3.54 تريليون دولار في تموز 2025.
انقسامات وتباينات في أميركا
يعتمد تقييم الوضع الاقتصادي على معايير متعددة، وتعتبر صحّة أسواق العقارات وسوق الإسكان من المؤشرات المهمة الدالّة على صحة الاقتصاد. من هنا نستشف عمق الأزمات التي تحدث اليوم في بريطانيا وكذلك في الولايات المتحدة الأميركية، في حين يواصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلقاء اللوم على رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي جيروم باول، معتبرًا أنّه تأخر كثيرًا في خفض أسعار الفائدة، وهذا ما يؤدي إلى تباطؤ سوق الإسكان الأميركيّ وتراجع حجم القروض العقارية.
في هذا السياق، تتباين المؤشرات التي يُظهرها الاقتصاد الأميركي، حيث تشير بعض الأرقام إلى متانة الاقتصاد، في حين تبيّن معطيات أخرى ارتفاع حجم المخاطر التي تدفعه نحو الركود، ويرجَّح السيناريو المتشائم بوصفه الأكثر احتمالًا نظرًا لتداعيات الرسوم الجمركية، والقرارات العقابية التي يصدرها الرئيس ترامب تجاه الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، وآثار تلك القرارات على الأسعار والتضخم والدولار الأميركي، المهدّد بفقدان قيمته. كما تظهر عوائد السندات الأميركية الطويلة الأجل مؤشرات سلبية بعد الارتفاعات الملحوظة التي سجلتها مؤخرًا.
لا بدّ من الإشارة كذلك إلى الانقسامات السياسية الحادة في الداخل الأميركي، والحكم القضائي الذي دحض قرارات ترامب بما يخصّ الرسوم الجمركية، التي كبدت الشركات الأميركية أكثر من 200 مليار دولار حتى الآن، حيث اعتبرت محكمة الاستئناف الفدرالية أنّ معظم تلك الرسوم غير قانونية. ويقف ترامب حاليًا أمام مسار قضائي؛ إذ يسعى للاستئناف أمام المحكمة العليا.
ختامًا، يوثّق المشهد الدولي اليوم التحوّلات والتغييرات التي تسير بنا باتجاه عالم مختلف؛ فالتقارب الصيني الهندي والتحالفات التي تتعزّز بينهما، إلى جانب روسيا وكوريا الشمالية وغيرها من الدول، ترسم خريطة موازين القوى الجديدة في العالم. لكن إلى أيّ حد سيكون مخاض ولادة نظام عالميّ جديد صعبًا؟ وما الثمن الذي سيدفعه الاقتصاد مقابل هذا التحوّل؟
رمزا زخريا - المدن
The post ذهب يحلّق.. واقتصادات تتداعى: دول وأسواق على فوهة بركان appeared first on LebanonFiles.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا