Skip to main content

جبل السالمة: صمود على القمة بين الأرض والاحتلال

10 أيلول 2025
https://qudsn.co/images (1)

رام الله - خاص قدس الإخبارية: من على قمة جبل السالمة شرق جنين، يُكشف المشهد عن لوحة طبيعية وإنسانية نادرة، كأن نطفة من الجنة وقعت في المكان وشكّلت هذه الطبيعة الخلابة. فالجبل، الذي يُعَدّ ثالث أعلى قمة في شمال الضفة الغربية، يُطلّ على مساحة جغرافية واسعة تجعل الناظر يشعر أنّه يقف عند نقطة التقاء بين التاريخ والجغرافيا.

إلى الشمال، يظهر جبل الشيخ شامخًا بقمته المكسوّة بالبياض معظم العام، وكأنّه يخبرنا: أنا أرض فلسطين، أنا جزء لا يتجزأ من إرثها وتاريخها. أمّا في الأفق الأقرب، فيمتدّ الشمال الفلسطيني بسهوله ووديانه وقراه المتناثرة. هنا، حيث تقف على القمة، تأخذ شهيقًا محمّلًا بهواء أراضي الشمال الفلسطيني المسلوبة، وهنا تسمع الآذان يرتفع طامسًا مساعي الاحتلال في تهويد الأرض وتغيير معالمها وتسميتها. وهنا، على هذه القمة، يتابع نظرك حيث يمكنك أن تتبّع خط الأغوار حتى يلامس الحدود الأردنية، فيما ينفتح المشهد غربًا على البحر الأبيض المتوسط. هذا الاتساع في الرؤية يجعل جبل السالمة أكثر من مجرد قمة طبيعية، إذ يربط بين جغرافيا فلسطين من شمالها حتى جنوبها.

في ثنايا الجبل يقطن الحاج سمير البحيص مع ثمانيةٍ وأربعين نفرًا من عائلته. قبل خمس سنوات فقط جاء ليسكن بجوار أرضه في جبل السالمة.

كانت الأرض بالنسبة له أكثر من مجرد تراب؛ كانت وطنًا، مأوى، وملاذًا للعيش. زرع كروم العنب، فترعرعت ونمت تحت رعايته كما يرعى الأب ابنه. وعمّر منازل في محيط أرضه، التي تُقدّر مساحتها بثلاثة عشر دونمًا، وقام بتربية المواشي. رأى الحاج سمير نفسه في قصور الجنة على الأرض من جمال المكان وعظمة خيراته وروعة الإطلالات واللون الأخضر المحيط وسطوع الشمس والقمر في الأرجاء. لكن الحلم الوردي لم يدم طويلًا؛ فما إن وطئت أقدامه الأرض حتى جاء الاحتلال الطاغي ليقتل كل حلمٍ وأملٍ جميل في هذه البلاد.

في يومٍ، استفاق على كابوس صفع كيانه، ليجد أنّ الجيش أقام بؤرة عسكرية فوق الجبل، ترفع أعلامها كما لو أنّها تعلن سيطرتها على كل شبر من الأرض. كل وطأة قدم، كل زرع، كل خطوة إلى البساتين أصبحت تحت مراقبتهم. كأن الأرض لم تعد ملكًا له، بل مجرد مسرح صغير لأوامر الجيش ومستعمريه.

صدمة كبرى حولت المكان إلى سجن كبير. لم يعد يستطيع التنقل خارج أسوار بيته. حتى البوابات المحيطة بمنزله أُجبر على الاستغناء عن اثنتين منها بعد أن منعه الجيش من فتحهما بتاتًا.

كل صباح يقف أمام البوابة المغلقة، يراقب الجنود وهم يسرحون ويمرحون وفق مزاجهم، يترقب اللحظة التي يسمحون له بالمرور، ليشعر أنّه زائر في أرضه لا صاحبها.

ولم يكن وحده في هذا الانتظار؛ خلف تلك البوابة يقف أحد عشر طفلًا من عائلته يحملون حقائبهم المدرسية، يترقبون مصيرهم الدراسي بين الخروج من أمام هذا المعسكر الإسرائيلي الجديد والطريق المعقدة والبعيدة للوصول إلى مدارسهم، مع تواجد قطعان المستوطنين بين الحين والآخر في المنطقة.

بين ليلة وضحاها، أضحت العائلة بأكملها أسيرة خلف أسوار منزلها، محرومة من إشعال ضوء كشاف حول المنزل، أو السهر في الفناء الخلفي، أو الاستمتاع بنسمات الصيف الباردة على الشرفات، أو حتى النظر إلى الطبيعة الخيالية المحيطة بثنايا الجبل.

عائلة ثكلى أجبرها الاحتلال على أن ترزح في خضم الجبل منقطعة عن العالم الخارجي مقابل البقاء في منزلها، حيث لا مجال للاعتراض وإلّا كان الترحيل القسري سيد الموقف. أتدري كيف يكون ألمُ أمٍّ يبكي طفلُها طوال الليل من شدة المرض ولا يستطيع والده نقله للعلاج بسبب منع الجيش تحرك سياراتهم في المنطقة؟ وماذا عن قهر أبٍ يُجبر على السير مشيًا على الأقدام من رأس الجبل إلى وسط قرية رابا لتأمين احتياجات بيته ذهابًا وإيابًا، حاملاً ثقلًا كبيرًا على ظهره خوفًا من جوع أبنائه؟ وكيف لطفل أن يحين وقت العودة للمدرسة ولا يستطيع الالتحاق بزملائه على مقاعد الدراسة بسبب صعوبة التنقل والوصول إليها؟

العنف هنا لم يكن رصاصًا يُطلق، أو بيتًا يُهدم أمام أعينهم، بل كان في قرار يحرمهم من زراعة حقولهم، وفي جدار يقطع أحلام الصغار، وفي خوف يتسرّب إلى قلوبهم كل صباح.

عائلة البحيص ليست الشاهد الوحيد ولا المتضرر الوحيد من غطرسة الاحتلال. فبحسب المواطن سامر البزور من قرية رابا، ما يقارب أربعة آلاف دونم تمت مصادرتها رسميًا ونُصبت فوقها خيام لتجمع المستوطنين، والمساحة المسلوبة تتزايد بين ساعة وأخرى، إضافةً إلى أنّ خزان المياه المغذي للقرية أصبح داخل الدائرة الاستيطانية.

تحدٍّ كبير أمام المزارعين مالكي الأرض، أولئك الذين شهدت الأرض أنفاسهم بين أشجارها وارتوت من عرقهم فوق ترابها. أرض الجبل التي لطالما كانت سلة غذائية لقرية رابا والقرى المجاورة ومتنفسًا للسكان، أصبحت أسيرة ومحرّمة عليهم.

من جهة أخرى، عبّرت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان عن قلقها الشديد ورفضها لهذه المصادرة، ووصفتها بأنّها محاولة لفرض وقائع جديدة على الأرض وإفراغ المنطقة من أهلها لصالح المستوطنات والمناطق العسكرية.

المزارعون الذين اعتادوا الصعود كل صباح إلى الجبل لرعاية أشجار العنب والكروم، وجدوا أنفسهم محرومين من الوصول إلى أراضيهم إلّا بإذن من الجيش. وحتى إذا سمح لهم، فليس هناك ضمان بألا يتعرض لهم المستوطنون. وكأنهم أصبحوا غرباء في وطنهم.

في صباح الثامن من يوليو عام 2025، حين كان المزارعون يتجهزون لجمع غمار زراعتهم في جبل السالمة كما اعتادوا كل يوم، حلّت الفاجعة التي هزّت أرجاء القرية بعد أن وصلهم خبر قرار الاحتلال بمصادرة أكثر من 2400 دونم من أراضيهم، شاملةً قمة الجبل ومحيطها، بحجة إنشاء منطقة عسكرية.

قرارٌ قصم ظهور المزارعين، إذ شعر الأهالي بالغربة في أرضهم. كل خطوة نحو قمة الجبل أصبحت بحاجة إلى إذن من غرباء دخلاء على الأرض وأصحابها، وحقولهم صارت تحت المراقبة والتهديد.

ومع ذلك، ظل جبل السالمة شاهدًا على تصميمهم على الصمود وتمسكهم بحقهم في الأرض، رافعين شعارًا: الأرض ليست مجرد تربة، بل تاريخ وهوية وحياة.

وأخيرًا، تحوّلت المصادرة إلى فصل جديد في تاريخ الجبل، يروي صراعًا بين الاحتلال والصمود، وأهالٍ رفضوا التخلي عن جذورهم مهما كانت الصعاب.

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا