"بوصلة السراب" متحف سردي لثقافة القرية العُمانية

حفظ
تؤكّد الرواية العربية في سلطنة عمان حضورها بصورة متزايدة، وتقدّم نماذج فذّة مشوقة منذ بدايات الألفية الثالثة وحتى اليوم، في محاولة دؤوبة ربما تعوّض عن تأخرها الزمني في مواكبة نشأة الرواية العربية وتطورها وصعودها في مراحل سابقة من القرن العشرين، ومن علامات هذا التطور ما حقّقته من مواقع متقدمة عربيا وعالميا من خلال كتابات: محمد اليحيائي، وجوخة الحارثي، وزهران القاسمي، ومحمود الرحبي، وبشرى خلفان، وهدى حمد.. وغيرهم.
وإلى جانب ذلك أسهمت هذه النماذج الجديدة في استنهاض عدد من الأقلام النقدية العُمانية والعربية، لتناول هذه الكتابات وإدماجها في اهتمامات النقاد المعاصرين، وفي مدونة الرواية العربية التي تحقق تقدما وتشهد تنافسا شديدا في المشرق والمغرب، إلى جانب مكانة الرواية من خلال ما تحظى به من جوائز مرموقة عديدة.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsend of listوقد حققت النماذج المشرقة من الرواية العمانية درجة طيبة من الاهتمام والمقروئية الجاذبة، بما يسهم في الكشف عن خصوصية المجتمع العماني، وعن تنوع مكوناته الثقافية والاجتماعية، فتغدو الرواية كتابة وقراءة سبيلا حيويا من سبل النقد والكشف والمساءلة.
ومؤخّرا سلّطت القائمة القصيرة لجائزة كتارا في دورتها للعام 2025 أضواء كاشفة على عدد من الأسماء الروائية العربية من بينها اسم كاتب متميز من كتّاب الرواية العمانية هو القاص والروائي أحمد م الرحبي، مؤلف رواية "بوصلة السراب" التي تنافس على الفوز بهذه الجائزة لموسمها الحالي، وينبئنا ذلك بأن هذه الرواية تشكل علامة مميزة في مسيرة الرحبي تضاف إلى تجاربه السابقة في الكتابة القصصية والروائية.

وفي سيرة المؤلف أنه من مواليد العاصمة مسقط عام 1971، وقد أنهى مراحله المدرسية في السلطنة، ثم تنقل في دراساته الجامعية بين عدد من البلدان العربية والأجنبية: المغرب ومصر وفرنسا وروسيا. واستقر منذ عام 1999 في موسكو ودرس الروسية حتى حصل على الدكتوراه في الترجمة عام 2010. وعمل في الصحافة الثقافية والترجمة وإعداد البرامج وكتابة السيناريو. وتوزّع إنتاجه الأدبي بين القصة القصيرة والرواية والترجمة الأدبية من الروسية إلى العربية.
إعلانوكانت باكورة أعماله المنشورة مجموعة قصصية بعنوان "أقفال" عام 2006. ثم نشر "الوافد" عام 2012، و"أنا والجدة نينا" بعد 3 أعوام، وصولا إلى روايته الثالثة "بوصلة السراب" العام الماضي. وللرحبي نشاط ملحوظ في الترجمة عن الروسية، ومنها نشر ترجمات أعمال قصصية لعدد من أدباء روسيا من مثل: أنطون تشيخوف، مكسيم غوركي، ستانيلاس فوستكوف، يفغيني روداشيفسكي، ألكسندر تشايانوف.
ويبدو أنه يسير في هذا النهج على خطى مترجمين مرموقين أسهموا في نقل الأدب الروسي المرموق إلى العربية. وربما يتفرد بكونه المترجم العماني الأوضح نشاطا في الترجمة من هذه اللغة المتميزة بثقافتها وأدبها في الماضي والحاضر. وإلى جانب ذلك كوّن الرحبي شراكة عائلية واجتماعية عبر زواجه من المترجمة الروسية فكتوريا زارتوفسيكا التي تنشط في ترجمة الأدب العربي إلى الروسية، ومن حصاد ذلك إنجاز ترجمات لعدد من أعمال نجيب محفوظ وغيره من أعلام الأدب العربي الحديث.
ولا شك في أثر هذه التجربة والخلفية الثقافية المتنوعة على الرحبي نفسه، بما يسهم في صقل اتجاهات كتابته وتفريد رؤيته للعالم، ذلك أن تجربة السفر والحياة، في مناطق وثقافات متباينة ومتقاطعة وبلدان بعيدة، تمنح المرء فرصة نادرة للاكتشاف، وتعدل رؤيته للآخر من جهة، وربما أهم من ذلك ما تؤدي إليه من تعديل رؤيته للذات من جهة ثانية، بما يؤدي إلى معاينتها بمنظورات جديدة، وما يسهّل شروط إدماجها في الثقافة العالمية، بدلا من إبقائها حبيسة في حدود محلية ضيقة.
وقد انعكست بصمات هذه الرؤية العالمية المغايرة على مناخات "بوصلة السراب" لتقدم للقارئ تجربة بارزة في تقديم الهوية المحلية بمنظور عالمي، فقد جمعت بين المحتوى المجتمعي العماني الذي يمثل سيرة قرية عمانية سمّتها الرواية تسمية كنائية (المكان) مطلع تسعينيات القرن العشرين، وقدّمت هذا العالم القروي بمنظور عالمي يجمع بين خصوصية المحتوى الثقافي المحلي والرؤية النقدية التي لا تنفصل عن وظيفة الرواية وطبيعتها الرؤيوية والفنية، إلى جانب علامات أخرى مهمة تشمل الحرص على صياغة المكونات الهوياتية والثقافية بلغة شارحة موجهة إلى طائفة واسعة من القراء، وعندما لا تعوز هذه اللغة في الإيضاح والبيان فإن الهوامش تتكفل بإتمام المهمة.
فهذه الملامح وغيرها توضح لنا قلق الكاتب حيال مسألة الإيصال والتفكير في القارئ القريب والبعيد، وهي لا تنفصل عما أسميناه الرؤية العالمية التي تنبثق من المحلي والخصوصي، وتحمل بصيغها المتنوعة آثارا من رؤية عالمية واسعة للذات ولكيفية معاينة الهوية ومساءلتها بمنظور جديد يتسع لأسئلة الحياة والأدب والثقافة.

عالم القرية العمانية
تقدّم الرواية جانبا لافتا من تطور القرية والبيئة الريفية في السلطنة مطلع تسعينيات القرن الماضي، تطل عليها بعيني فتى في نحو سن الـ12، وإذا ما استوقفت القارئ هذه المرحلة التي انتمى إليها الفتى محمد وعدد من رفاقه الحاضرين في الرواية مثل: سليمان ورشيد ومزهود، فيمكن أن نستكشف حيويتها لارتباطها بتكوّن الخبرة والتجربة وبإمكانية صقل الشخصية والتهيؤ للدخول في مرحلة المراهقة.
إعلانإنها مرحلة العبور التدريجي إلى مراحل أكثر نضجا تسهم التجارب التي عاشها الفتى في الارتحال إليها، وهي بصياغة ثانية مرحلة الانتقال من قلق الهوية إلى تثبيتها أو استقرارها مع الحفاظ على قدر موسع من إمكانية انفتاحها الإنساني الرحب، ذلك أننا نتعلم من التجارب المبكرة ومراحل العبور ما يبقينا على وعي ويقظة مدى العمر.
كما أسهم الانطلاق من منظور الصبيّ ذي الـ12 عاما بالحفاظ على ملمح الاكتشاف والرؤية الطفولية الجديدة والمتجددة للأشياء والتفاصيل، بحيث بثّ هذا المنظور الحيوية في الموصوفات والمسرودات والمقتبسات الكلامية والحوارية التي انبنت منها الرواية. وقد عزز هذا الاختيار طابع الاستكشاف والاندهاش عبر منظور طفولي يتسم بطابع التدرج والنمو وتصوير مشاعر الصبي محمد الذي بدت شخصيته أبرز من ناحية حضورها وتقديم الأحداث من منظورها.
وتقوم حبكة الرواية على رحلة إلى القرية تستمر نحو شهرين، حيث تضطر الفتى محمد ظروف وملابسات معينة لقضاء إجازة قصيرة في القرية التي تنتمي إليها أسرته في الأصل قبل انتقالها إلى العاصمة، وهو وإن كان ليس غريبا عن القرية غربة تامة، فإنه ابن المدينة (العاصمة مسقط). وتبدو تجربة قضاء مدة طويلة نسبيا في القرية تجربة جديدة، ولذلك نفهم تخوّفه بداية الأمر من فراغ القرية وسكونها فقد فكر في نفسه ماذا سيفعل "مع جدين عجوزين وعم يسرّح لحيته؟ شهران كاملان في قرية خاملة موحشة" (ص 13).
ولكن هذا التقرير أو الحكم الأولي لا يلبث أن ينتقل إلى نقيضه، عندما تتكشف له عوالم القرية شيئا فشيئا، فيكاد ينسى عالم المدينة التي جاء منها، فبعد نحو شهر -أي منتصف الرحلة- يتغير هذا الحكم "لقد تكشفت له القرية وأفضت له بسرها، فأوشك أن ينسى بيته ورفاقه في المدينة. وكل ما رآه وسمعه وعرفه خلال شهر حفّزه للمضي قدما والتمتع بالمزيد" (ص 105).
وفي نهاية الرواية تبدو تجربته قد اكتملت ونضجت فيعود مع أسرته بصحبة جده وجدته، بعدما فضلا الارتحال معهم إلى المدينة، نتيجة التغييرات التي أصابت القرية وأصابت بيت الجد. لقد عاد محمد بوعي مختلف عما جاء به، كأنه كبر سنوات وليس شهرين فحسب!! فهذه التجربة في التحول والانتقال من حال إلى حال، وما تخللها من وصف أحوال القرية والاشتباك الفعال مع مكوناتها وتراثها وشخصياتها، تمثل الروافد والمكونات الأساسية في هذه الرواية المهمّة.

جماليات السهل الممتنع
وبالرغم من البساطة الظاهرية في الرواية فإنها بساطة جمالية، لجذب القارئ وإيجاد المتعة، وتخبئ وراء قناعها تعقيدا وتركيبا غير هينين، حتى ليصح أن نراها مثالا للسهل الممتنع في البناء والتشكيل الروائي، وقد جاء المظهر العام فيها مبنيا عبر تقسيم الرواية إلى فصول تحمل عناوين دالة: الدخول في المكان، ابن المجنونة، السوق، الخروج من المكان.
فالأول منها فصل عام يعطينا الصورة العامة للقرية ويقدم معظم شخصيات الرواية وخيوطها، أسرة محمد والأسر المجاورة، بحيث تحضر معظم الخيوط ولكن دون أن تكتمل، ويمكن في هذا المقام الإشادة بجماليات الاستباق والإرجاء، فقد بدا المؤلف متمكنا في توزيع مادته السردية بالتدريج، وعدم الاستعجال بكشف الخيوط، ليحافظ على تماسك الرواية وعلى تقديم مادة مشوقة وتأخير كشف التفاصيل إلى أن يحين ميعادها.
وفي فصل "ابن المجنونة" يتجه التركيز على حبكة فرعية تخص واحدة من نساء القرية هي أم الفتى سليمان الملقب لدى خصومه بـ"ابن المجنونة". وتقدم هذه القصة مثالا مركزا على ما يعمد إليه بعض الرجال من التنكيل بالنساء، والمثال هنا ما تعرضت له هذه المرأة على يد خالها الذي صار واليا وصاحب سلطة. ورغم زواجها وإنجابها ظل يلاحقها واتهمها بالجنون، فعمد إلى حبسها وربطها بسلسلة كالقيد، ويمكن أن نقرأ فيها قيودا معنوية ومادية معا تتعرض لها بعض النساء.
إعلانوتذهب الأقاويل مذاهب مختلفة إزاء وضعية هذه المرأة حبيسة القيود، فبعضهم يشفق عليها ولكنه لا يتدخل بسبب قوة السلطة القامعة، وبعضهم يتحالف معها ويتبنى موقف الخال الوالي، وهم من ينبزونها بالمجنونة. وهذه السردية الفرعية تناولتها الرواية بقدر من التركيز والإطالة بقصد تقديم إدانة سردية للقهر الذي ما زالت تتعرض له فئات من النساء العربيات على امتداد الجغرافيا العربية بدرجات وألوان مختلفة من القهر والتسلط.
وقد تبين لمحمد بالتجربة والمعاينة أنها ليست مجنونة بل مظلومة مقهورة، واقترب عبر ذلك من نفسية صديقه سليمان الذي عانى هو الآخر وتشكلت هويته وسط هذا القهر، خصوصا مع غياب شخصية الأب وصمتها وضعفها، وتقدم سن الجَد بالرغم من قوته وتمرده وحكاياته الثورية في الماضي غير البعيد.

ثقافة القرية وأحوالها
يتاح لمحمد عبر تفاصيل الرواية أن يتابع القرية ويتعرف عن قرب إلى ما تبقى من العادات والتقاليد ودورة الحياة اليومية، وما يفعله أهل القرية في الأفراح والأتراح، ونحو ذلك من تفاصيل ثقافية وشعبية.
ولا يكتفي بالتعرف وحده بل ينخرط في هذه الحياة ويشارك فيها بفعالية، بعد أن كان يتساءل في البدء عن كيفية تزجية وقته إزاء رتابة القرية ومحدودية مكوناتها، ومن خلال هذه التجربة تكشفت له عوالم خفية ثرية تختفي وراء الرتابة والبساطة الظاهرية.
وعنيت الرواية بالإشارة إلى التنوع الاجتماعي في النسيج الهوياتي وتبنت موقفا إيجابيا من هذا التنوع عبر التداخل والتعاون والتعاضد، إلى جانب اللمحات الإنسانية التي كان الطفل يلتقطها في المحيط الذي اتصل به خلال شهور إجازته، مما منح القارئ صورة لقيم القرية وتركيبتها الثرية بالرغم من مظهرها البسيط.
وتتكون القرية من أكثرية حضرية مستقرة تعمل في الزراعة والتجارة، وليست منبتة الصلة عن مرجعياتها القبلية، ومعها مكونات بدوية تداخلها وتلابسها، مثل شخصية الجدة البدوية (صفية جدة محمد) التي حافظت على كثير من مكونات هويتها وقبلت بعض التعديلات الضرورية لتتعايش مع عالم القرية فقد "تزوجها الجد وأحضرها من موطنها في الصحراء. بعد أن سكنت أيامها الأولى في القرية، فشربت من مائها وتنفست هواءها وتثبتت من مواقع قدميها، ونظرت حولها فوجدت أن الأشجار كثيرة وقريبة. وكان الأوان خصبا، فدلفت عالمها الجديد الأخضر".
وهكذا نمت اهتماماتها وهواياتها الزراعية لتغدو من أمهر النساء في الزراعة المنزلية والعناية بالأشجار. ومع ذلك بقيت لهجتها وتعبيراتها الثقافية قريبة مما تعلمته في عهد بداوتها وصحرائها البعيدة، وتنم عن شخصيتها المتفردة المختلفة عن المحيط القروي الذي عاشت فيه زمانا طويلا. وإلى جانب هذه الشخصية نشهد شخصيات بدوية تقدم إلى فضاء السوق الذي يمثل فرصة للتبادل التجاري والثقافي قديما وحديثا.
وفي القرية أقلية من أصول غجرية (زطّ) لم تزل الفوارق بينهم وبين غيرهم بالرغم من التعايش الطويل، ففي الزواج مثلا لا يصح أن يتزوج أولاد القبائل من الغجر لعدم التكافؤ في الأصول، بحسب ثقافة القرية.
فحين جاء خُطّاب لمريم ابنة الغجرية كان تعليق أمها بحسب ما نقلته لصديقتها أم محمد "جانا خطاب لمريوم، ناس قبائل، أولاد عرب، لكنا صارحناهم أننا زطّ ما قبائل مثلهم. ما نريد نخدع الناس" (ص21). ويحمل الجيل القديم (مثل جدة محمد البدوية) موقفا أكثر حدة من هذه الاختلافات ويتبين ذلك من اعتراضها على لعبه مع أولاد الغجر واقترابه منهم "أنت ولد عاقل وما يصحّ تلعب مع أولاد الغجر. عندهم حياتهم وعندنا حياتنا. تفهم؟" (ص37).
وظهرت مكونات أخرى بدرجات متفاوتة، فحين اتجه العم صالح لبناء منزل الزوجية استعان بشخص باكستاني يدير ورشة متخصصة في البناء، وقدمته الرواية بلكنته ولهجته التي تبين عن أصوله وثقافته الأعجمية "شوف بابا شوف! سقف خربان. لازم تكسير" (ص 34) والطريف أن التكسير في لغة الرجل أشد فيما يبدو من تكسير السقف الذي ينوي تجديده، وهو يكشف عن جانب ثقافي ولغوي يثري الرواية ويقوي تعبيراتها الثقافية.
وأما زوجة عبد الله المضمد (أم مزهود) فكان في كلامها وشخصيتها عناصر ثقافية إيرانية قدمت إليها من نشأتها وولادتها لأم إيرانية وأب عماني، ولذلك فهي "تنطق كلماتها الخليجية المطعمة بلكنة أعجمية بليونة واسترخاء" (ص 170).
إعلانكما تتميز هذه المرأة بـ"لهجتها الهجينة وحلتها الطويلة المهلهلة وشعرها الأسود الكثيف الذي تمرد على إيشاربها.. كل هذا مع حبها لنفسها وغيرتها على مأكلها ومشربها وما أحاطت به نفسها من أثاث وزينة.. ونقل محمد من عالم القرية بل ومن البلاد كلها وأدخله في عالم جديد" (ص 166). فالتنوع الأجناسي والعرقي أنتج تنوعا في الثقافات واللغات اجتهدت الرواية في الانتباه إليه بوعي متفهم يضع ذلك كله في نسيج إنساني منتج وفعال.
جماليات اللغة وتنوع الأصوات
وانطلاقا من ملاحظة انتباه الرواية للتنوع الثقافي والاجتماعي يمكن الالتفات إلى وعي الرواية بجماليات اللغة النثرية، والاهتمام بتمثيل اللغة للعالم المتنوع الذي كشفته الرواية، وقد جاءت اللغة السردية موفقة من نواح كثيرة، فهي لغة سليمة موحية من جهة، وهي أيضا تتصف بالتنوع بين الفصحى (في مستوى السرد) وتقترب من المحكية/العامية في الحوار ومواقف تمثيل الكلام والمقتبسات الشعبية كالأقوال والأغاني والأناشيد، بما يعطي انطباعا بالتنوع ويقرب المتلقي من أجواء القرية وخصوصيتها.
ومن ذلك خطاب الجدة للفتى عندما توجهه لتناول طعام الإفطار والخروج بعد ذلك لجمع الرطب المتساقط: "ارفع الشتّ وافطر. الشاي في المدلاة. بعدها خذ الزبيل وروح ارقط". (ص18).
يحضر هذا التنوع في تمثيل اللهجات بما فيها من تعبيرات خاصة يقتضي بعضها شرحا ولا يكفيه السياق، تقتبس الرواية -على سبيل المثال- قصيدا شعبيا من فن الرزحة (العمانية): "لا تضعضع يا الجدار وتنهدم، راكن عليك الورد ومايل بثمره، شِك الجباير والشواهد والختم، كلهن جواهر، ما شقتني غير ذيك الجوهرهْ" (ص184).
فيعمد المؤلف إلى بيان سياقه الأصلي وإلى ترجمته بلغة فصيحة في الهامش: أناشدك أيها الجدار أن تكون قويا ولا تتضعضع وتنهدم، فقد اتكأ عليك الورد ومال بزهره. لك يا جدار أن تضم كل الجواهر من جباير وشواهد وختم (أسماء مجوهرات عمانية) فما يشغلني منها جوهرة واحدة فقط".
ويتبع مظهر التنوع اللغوي والثقافي مسألة استعمال الكنى والألقاب في عالم القرية، فهذا مظهر ثقافي ولغوي، ذلك أنه انعكاس للثقافة الشفاهية ومواقفها وطرائقها في التنميط والحكم على الآخرين، واستبدال الألقاب والكنى بأسمائهم تفريدا لهم بأمور اشتهروا بها.
ومن ذلك تلقيب الفتيان لبعض أصحابهم: ابن المجنونة (سليمان)، وابن الغجرية (رشيد)، ومحمد نفسه يلقبونه (ابن الكافر) لما يشاع عن والده من معاقرة الخمر والتدخين. كما حمل جد محمد (سليم التويجر) لقبه من عمله في التجارة، وجدّ سليمان حمل لقب (الثعلب) لمراوغته وتصعلكه المتمرد في شبابه، وجار سليم في السوق هو التاجر خلفان الملقب بالمنطوح؛ لحقه اللقب قديما من نطحة تيس فحل كان يربيه ويشغبله ليهدّ ماعز الجيران بأجر.
يضاف إلى هذا شخصية سعيد الشاوي المعروف بالحافي بين رواد السوق، لاعيتاده حمل نعاله والمشي حافيا: "لذلك نال لقب الحافي، في حين ظلت نعاله جديدة أبدا" (ص146). فهذه الألقاب والكنى في جملتها تنهض بدور مكمل في تمثيل ثقافة المكان وطبيعته الاجتماعية، بأساليب مستمدة من خصوصيته وهويته.
ولا يخلو الأمر من عناصر شعبية ذات أصول أجنبية، لكنها تكتسب تطورا دلاليا جديدا إزاء تداولها في بيئتها الجديدة ونتيجة استعمالها في المجتمع القروي، من ذلك ما يشرحه الحاج درويش مراد عن اصطلاح (الهنجري) الذي صار ذا مدلول خاص: "الهنجري كلمة إنجليزية.. تنطق في الأصل (هنجري) ومعناها جوعان. في عمان نقولها للشخص الغني. فكيف يكون غني وجوعان؟" (ص124)، ثم تشرح الرواية ما يمكن اعتباره لونا شعبيا من تغير الدلالة وتطورها عبر المواقف التداولية للغة والتعبيرات الدالة فيها.
ويقابل المستوى اللغوي المتعدد عبر تمثيل اللهجات واختلاف النبرات مستوى ثان يمكن تسميته بشعرية الوصف، ويتعلق هذا المستوى بتقديم الأماكن ورسم الشخصيات وإضاءت التفاصيل والأشياء والمكونات القروية كالنباتات والأحياء المتنوعة، وقد اتضحت هذه الشعرية الواصفة في الفصل التمهيدي واستعان بها المؤلف في رسم صورة ضافية للمكان ومكوناته وتفاصيله، كوصف اليمامة وسمكة الصدّة والعناكب وسحالي الجدران التي تشمل العظايا السوداء والوزغ الأبرص، ونحوها، وكذلك التعريف بالأعشاب والنباتات، مثل: الشكاع والسيداف والعسبق والحصرم ونبتة الجعدا ذات الصفات العلاجية، وغير ذلك من تفاصيل متممة للعلاقة بين عناصر البيئة والمكان والإنسان.
كل ذلك بأسلوب مكثف يقرب من كثافة القصة القصيرة، ومنظورها الخاطف في التعريف والتلخيص، ولذلك ظلت الرواية محافظة على قدر رفيع من التشويق والجاذبية بالرغم من محدودية عالمها وحصره في القرية وبيوت محددة منها هي البيوت التي ارتادها الصبي محمد في إجازته، وبالرغم من حصرها في زمن ضيق لا يتعدى شهرين، كما أسلفنا.

أصداء الحرب والسياسة في الخليج
جاءت الخلفية السياسية مرتبطة بمرحلة حرب الخليج التي نتجت عن دخول القوات العراقية الكويت واحتلالها في 2/8/1990 في عهد الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين، وقد شهدت منطقة الخليج والمنطقة العربية كلها تداعيات وتمزقات لم تعهدها نتيجة هذه المغامرة، وهيأت للتدخل الأجنبي متشعب المصالح وأدت إلى نتائج وخيمة لم تخرج منها المنطقة حتى اليوم.
عكست الرواية بدايات هذه التأثيرات والاضطرابات، من بواية هامشية، تتمثل في غياب والد الفتى محمد سائق ناقلة الجند، ملتحقا بعمل جديد مرتبط بتلك الحرب: "سافر إلى السعودية للمشاركة في حرب تحرير الكويت لقد وعدوه بعلاوة في الراتب وإجازة بعد عودته. وبأنه لن يغيب أكثر من شهرين إلى ثلاثة" (ص17).
ومن خلال تناول بعض الشخصيات لسبب غيابه، ومن خلال أخبار راديو الحاج درويش مراد، تتردد أصداء الحرب ومواقف الناس منها بحسب ثقافتهم ومقدرتهم على الفهم وتكوين المواقف. فعلى سبيل المثال انعكس ذلك في حوارالعم صالح والفتى محمد مع المعلم سعيد مقرئ القرآن عندما التحق بكتّابه أو حلقته، بعدما عرف أن الأب مفتاح مسافر إلى السعودية:
رايح يعتمر؟ الحمد لله الذي هداه. عمرة مقبولة بإذن الله. لا يا عمي، مسافر للحرب ما للعمرة. إيش تقول؟
صاح العم بأعلى صوته:
الحرب. مفتاح راح يحارب.
فصاح الشيخ بدوره:
يحارب من؟ يحارب العراق.. صدام. سود الله وجهه. يحارب المسلمين! ما أعرف يا عمي ما أعرف، هذا شغل الحكومة. الحكومة! طيب يا ولدي.
ارتخى صوت الشيخ فجأة فكأنه اختنق فجأة" (ص50).
ولمحة أخرى جاءت في حديث المضمد عبد الله مع محمد استطرادا من تذكر سفر والده للمشاركة في الحرب وتحرير الكويت: "مرة زرت عمي إلّي يعيش ويشتغل في الكويت. وبعد فترة نصحني بدخول دورة تدريبية في التضميد فعشت معه ستة أشهر. كان زملائي كويتيين وأساتذتي عراقيين. كلهم كانوا طيبين… ليش الحرب إذا؟" (ص138).
وتنعكس بعض أخبار الحرب من خلال المذياع لتنقل أصداء أخرى وتومئ إلى خفايا وأدوار أجنبية تتعدى تحرير الكويت: "الرئيس الأمريكي يأمر بإرسال سفن حربية إضافية إلى المنطقة" (ص160). وفي النهاية يعود مفتاح سالما غانما من الحرب بسيارة جديدة، ويفاجأ بما طرأ في غيابه على بيت الجد من تغيير، وكأن سلسلة من التغييرات قد أصابت القرية والمنطقة بأسرها في ظلال الحرب وأصدائها وتفاعلاتها.
وختاما، فقد برز دور الراوي العليم في رواية (بوصلة السراب) في تقديم المادة السردية وتحليلها والتعقيب عليها، وبدا وجود هذا الراوي خيارا ملائما لكي لا تضيق الرؤية لو هيمن عليها الراوي المتكلم (الفتى محمد) ذلك أن الراوي المتكلم بالرغم من إغراءاته السيرية راو ضيق بالمعنى السردي يحدد المادة السردية وفق قدراته وحدود وعيه، يوفر القرب والحميمية من جهة ولكنه في الوقت نفسه يضيق العالم الروائي، ويبقيه في حدود إمكانات الشخصية المتكلمة وخبرتها.
ولذلك ففي الرواية المثقفة ذات الطابع الدرامي غير الغنائي يبدو اللجوء للراوي العليم نوعا من فتح الأفق أمام الروائي وروايته لتحليل العالم الذي تعيشه الشخصيات، وليكون رابطا بين سائر الشخصيات وعوالم الرواية الثرية. هذا الاختيار الفني منح الرواية اتساعا تحتاجه الرواية المعنية بثقافة المكان وحياته وتحولاته من مثل هذه الرواية المتعددة في وجوه جمالها وبلاغتها السردية.
وقدمت الرواية التفاتة إلى الماضي غير البعيد في سلطنة عمان (بداية تسعينيات القرن الماضي) عبر سيرة قرية مجازية، وعنيت بالتركيز على الثقافة المحلية بوصفها أحد منابع الخصوصية والهوية، من دون التخلي عن وظيفة الرواية وإمكاناتها في نقد البنية المجتمعية القروية.
كما كشفت الرواية عن أهمية بنية العائلة/الأسرة في البيئة القروية، والعلاقة بين الأجيال (الأجداد-الآباء-الأحفاد) فقد أبرزت أكثر من جيل، وعنيت بصورة المرأة وتنوع مجتمع النساء وتعدد أدوارهن بين القوة والضعف، وإبراز صورة من صور الظلم والتنكيل خصوصا ما ياتي من جهة بعض الأقارب (وظلم ذوي القربى أشد مضاضة) -كما يقول الشاعر القديم-.
وقد جاء هذا النسيج السردي متقنا ينم عن خبرة الكاتب وقدراته وإمكاناته المتشعبة، سواء في استعمال اللغة والوعي بطبيعة اللغة الروائية الأميل إلى التنوع والتعدد، أو في انفتاح الرواية على عالم ثري من التناصات والاقتباسات التي تجعل منها ميدانا خصبا للدراسات اللغوية والثقافية.