
منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، وجد لبنان نفسه أمام أكبر موجة من النزوح في تاريخه الحديث، إذ عبر حدوده أكثر من مليون سوري، معظمهم من أبناء الأغلبية السنية، وفقا لتقديرات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين UNHCR))، ومع مرور السنوات، أُدرج هذا النزوح في برامج دعم أممية ضخمة، فتدفقت المساعدات المالية واللوجستية، بينما تكبد لبنان أعباء سياسية واقتصادية واجتماعية ثقيلة.
وبحسب الحكومة اللبنانية، بلغ عدد النازحين السوريين نحو 1.8 مليون، مقابل 880 ألفًا فقط لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وفي تموز 2025، أعلنت الحكومة اللبنانية، بالتعاون مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والمنظمة الدولية للهجرة، عن خطة عودة طوعية لعام 2025، بهدف مساعدة 200 إلى 400 ألف نازح على العودة طوعا إلى سوريا، يحصل كل نازح على 100 دولار عند المغادرة، فيما تمنح العائلات 400 دولار عند الوصول، مع عفو عن مخالفات الإقامة، وقد أكدت كيلي كليمنتس، نائب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أن أكثر من 168 ألف نازح عادوا منذ مطلع العام، مع ارتفاع أعداد الراغبين بالعودة.
لكن المشهد تغير مؤخراً وأعاد خلط الأوراق، فمع التطورات الميدانية والسياسية في سوريا، ولا سيما بعد سقوط النظام السابق، وما رافقها من تصاعد للعنف الطائفي والضغوط الأمنية، فتح باب النزوح من جديد بطابع مختلف، فهذه المرة لم يكن النازحون من الأغلبية بل من أبناء الأقليات "مسيحيون، علويون، دروز وشيعة"، حيث وجد هؤلاء أنفسهم في مواجهة تهديدات وجودية في معظم مناطقهم مما دفعهم إلى الفرار نحو لبنان وتحديدا إلى مناطق البقاع وبعلبك-الهرمل، بالإضافة إلى الشمال وعكار، لتشكل موجة نزوح جديدة تختلف في طبيعتها وهواجسها عن الموجة الأولى.
ووفق تقارير ميدانية، تخطى عدد النازحين الجدد إلى لبنان 100 ألف نازح منذ كانون الأول 2024، عبروا الحدود إلى شمال لبنان ، واشارت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن نحو 390 عائلة لبنانية أدرجت ضمن أعداد الوافدين الجدد، ورغم أن الأعداد تتزايد، إلا أن الاستجابة الإنسانية ما تزال شبه غائبة، فلا مراكز استقبال منظمة، ولا خطة طوارئ واضحة، فاضطر مئات النازحين إلى الاحتماء في كراجات ومراكز بلدية ومحال تجارية مهجورة.
النزوح السوري الجديد إلى لبنان يشكل تحديا متعدد الأبعاد في ظل أزمة مالية خانقة، ما يزيد تعقيد التعاطي معها على صعيد الدولة والمجتمع، فالنازحون السوريون الجدد، ومعظمهم من الأقليات المسيحية والعلوية والشيعية، يجدون أنفسهم في مواجهة أزمة اقتصادية مركبة، إذ تزامن نزوحهم مع أسوأ انهيار مالي يشهده لبنان في تاريخه الحديث، حيث روت مريم، وهي نازحة مسيحية من ريف حمص معاناتها التي تشبه آلاف القصص " تركنا كل ما نملك ونزحنا، وفي لبنان نحن غير مرئيين بالنسبة للمساعدات، على عكس ما كنا نسمع عن نازحي 2011"، وتضيف " "نعيش 17 فردا في غرفتين صغيرتين، ومحاولات الحصول على عمل ليست سهلة أبدا، هي المرة الثانية الذي نختبر فيها مرارة النزوح بعد نزوحنا الأول من حمص عام 2012، والآن عدنا إلى مرحلة الصفر"، فيما يضيف علي وهو علوي من ريف دمشق " وصلنا إلى لبنان منذ أشهر لكن لا مساعدات ولا تسجيل رسمي، نحن نعيش في الخفاء"، أما هيام، نازحة درزية من السويداء، فتختصر المأساة بقولها: "نخشى العودة كما نخشى البقاء هنا، نحن عالقون بين موتين."
مصدر أمني أكد أن " مفوضية اللاجئين لا تقوم بأي دور في مجال إحصاء الوافدين حديثا إلى لبنان أو تقديم المساعدات لهم"، مضيفا أن "احتمالات الصدامات الأهلية ضئيلة، وإن لم يمنع ذلك من بعض التوترات القابلة للاحتواء، فالجيش قادر على بسط سلطته بسهولة"، بدوره وصف رئيس لجنة الأشغال النيابية النائب سجيع عطية الإجراءات الرسمية بالخجولة "لا يوجد تدبير عملي لمساعدة الناس وفي مواجهة هذا العجز، نعمل بالتنسيق مع الصليب الأحمر الدولي واللبناني لتأمين الحد الأدنى من المساعدات".
هذا الواقع جعل رحلة البحث عن الأمان محفوفة بضغوط المعيشة القاسية وانعدام شبكات الدعم الرسمية، إذ إن غياب الإقامات الشرعية يصعب على معظم النازحين الجدد دخول سوق العمل اللبناني، وفي حال توافرت لهم وظائف فهي غالبا غير رسمية، ضعيفة الأجر، وتنافسية بشدة مع اليد العاملة السورية الموجودة منذ 2011، والتي ما زالت تتلقى مساعدات نقدية شهرية (بين 100 و125 دولارا للأسرة) وقسائم غذائية عبر برنامج الأغذية العالمي، في المقابل، يجد النازحون الجدد أنفسهم خارج مظلة الدعم الأممي، معتمدين فقط على مبادرات فردية ومحدودة المصدر من الكنائس والجمعيات الأهلية وبعض القوى السياسية.
إضافة إلى الارتفاع الحاد في أسعار السكن والمواد الغذائية الذي يفرض ضغوطا إضافية، ويدفع بعض الأسر إلى تقاسم المساكن في ظروف غير صحية أو التفكير بالعودة إلى مناطق حدودية خطرة في سوريا، لغياب أي بدائل واقعية أمامهم.
هذا التمييز في الحصول على الدعم يعمق شعور النازحين الجدد بالتهميش، ويضعهم في مرتبة ثانية حتى داخل مجتمع النازحين نفسه، ما يزيد من هشاشتهم الاقتصادية والاجتماعية، ويضعهم في موقع أضعف على المستويين القانوني والاجتماعي، ففي وقت تمكن القدامى من نسج شبكات اجتماعية واقتصادية نسبية خلال أكثر من عقد، ما زال الجدد يفتقدون لأي أرضية للاستقرار أو فرص للاندماج.
المشهد الراهن يثير تساؤلات حول مصير النازحين الجدد، فالأقليات، التي هجرت في مناطق عديدة من سوريا، تجد نفسها اليوم بلا حماية دولية فعلية، فيما لبنان المنهك لا يملك الأدوات اللازمة لرعايتهم أو دمجهم، فعند مقارنة الوضع اليوم بما جرى في 2011، يظهر تفاوت لافت في التعاطي الدولي، ففي حين سارعت الأمم المتحدة حينها إلى فتح مراكز إيواء، برامج غذائية، ومشاريع دعم للمجتمعات المضيفة، نجدها تلتزم حتى الساعة صمتا نسبيا إزاء الموجة الجديدة، حيث لم تعلن عن آليات خاصة لتسجيل أو حماية أبناء الأقليات النازحين حديثا، وهذا الغياب يطرح علامات استفهام حول المعايير التي تعتمدها الأمم المتحدة ومدى التزام المجتمع الدولي بمبدأ المساواة في الاستجابة الإنسانية، وحول ما إذا كان ثمة "تمييز غير معلن" بين نازح وآخر، يترك عشرات آلاف العائلات من دون أي حماية أو دعم.
من جهة أخرى، نجد أن الحكومة اللبنانية لم تعلن أي خطة رسمية لتنظيم وجودهم أو لحمايتهم، وما يظهر حتى اللحظة هو أنها اكتفت بالتصريحات واللجان، فيما تغيب عن وضع خطة وطنية متكاملة، بتسجل النازحين الجدد بشكل منظم، وتأمين حقوقهم الأساسية في التعليم والعمل والرعاية الصحية والاجتماعية، هذا التراخي لا يعكس فقط قصورا إداريا، بل يعكس استهتارا سياسيا بأزمة إنسانية متفاقمة، فالسلطات التي طالبت مراراً بعودة النازحين السوريين إلى بلادهم تجد نفسها اليوم في قلب معادلة جديدة، نازح "بسمنة" يحظى بالاعتراف والتمويل والدعم الدولي، ونازح "بزيت" يتخبط وحيدا في العراء بلا مظلة حماية، وسط انقسام داخلي بين من يعتبرها "حالة إنسانية طارئة تستوجب الحماية"، ومن يرى فيها "تهديدا جديدا للتوازنات الديموغرافية الهشة".
وتشير تقارير داخلية إلى تراجع التمويل الدولي للبنان بنسبة تفوق 40% منذ 2021، وقد أكدت كيلي كليمنتس، نائب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أن التخفيضات في التمويل الدولي قد أثرت في قدرة المفوضية على الاستجابة للاحتياجات العاجلة وتوفير الدعم اللازم لتحقيق حلول مستدامة للاجئين، ومع ذلك، شددت على استمرار الجهود الإنسانية لتلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمعات الأكثر ضعفاً في لبنان.
هذه الموجة كشفت عجز الحكومة اللبنانية واجزهزتها الامنية المعنية عن استباق الأزمة أو وضع خطة استيعاب، كما وضعت الأمم المتحدة أمام اختبار جدي، بعدما انصرفت جهودها منذ 2011 إلى النازحين المسجلين فقط، تاركة هؤلاء الجدد من دون أي غطاء إغاثي فعلي، فالأقليات النازحة، تعيش اليوم بين مطرقة العوز وسندان التوترات الطائفية، فهي أكثر من يدفع ثمن هذا الإهمال المزدوج، وحمايتهم من التمييز والعنف ليست ترفا بل واجبا، وعلى الدولة اللبنانية أن تتحمل مسؤولياتها السيادية، فيما على الأمم المتحدة أن توفر آليات مراقبة وضمانات فعلية، وفق خطة وطنية تشمل تسجيلهم وضمان حقوقهم وتوفير المساعدات والرقابة والشفافية، لإنقاذ ما تبقى من إنسانية ومنع المخاطر الاجتماعية والتوترات الطائفية في مناطق النزوح الجديدة.
في ظل هذه المعطيات، تواجه موجة النزوح الجديدة من أبناء الأقليات فراغًا قانونيا واقتصاديا قاتلا، فلا ضمانات لعودة آمنة إلى سوريا، ولا حماية فعلية في لبنان، ولا مساواة في الدعم الأممي، وتشير تقارير أممية بوضوح إلى أن العودة يجب أن تكون آمنة، كريمة، وطوعية بالكامل، غير أن النازحين الجدد يجدون أنفسهم اليوم رهائن بين خطر الموت في سوريا وقسوة الجوع في لبنان، في ظل غياب حماية فعلية، وهنا تبرز المسؤولية المباشرة للمجتمع الدولي والدولة اللبنانية وأجهزتها الأمنية المعنية في توفير آليات إنسانية شاملة، تضمن الحماية والدعم لجميع النازحين، بعيدا عن أي اعتبارات طائفية أو تمييزية.
هذا الواقع يكشف قصور الدولة اللبنانية التي ما زالت أسيرة الإنكار والتردد، ويعري المجتمع الدولي الذي يلتزم صمتا إزاء أزمة إنسانية متفاقمة، فترك هؤلاء النازحين في فراغ قاتل بلا حماية ولا حلول، يرسخ التمييز ويعمق هشاشتهم، ويفتح الباب أمام توترات اجتماعية وطائفية جديدة، فحمايتهم ليست خيارا سياسيا ولا ترفا إنسانيا، بل واجب أخلاقي وضرورة لحماية استقرار لبنان ومنع انزلاقه نحو أزمات أعمق، بانتظار ترتيب وانجاز ملف العودة.
The post في لبنان بلد النازحين… نازح "بسمنة" ونازح "بزيت" appeared first on أخبار الساعة من لبنان والعالم بشكل مباشر | Lebanonfiles | ليبانون فايلز.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا