
منذ اندلاع الأزمة السورية، احتضن لبنان أعداداً كبيرة من اللاجئين الذين أقاموا على أراضيه بحثاً عن الأمان، حتى بات يُعدّ من أكثر الدول استضافة لهم نسبة إلى حجمه وعدد سكانه.
ومع مرور أكثر من عقد على وجودهم، أصبح اللاجئون جزءاً من الحياة اليومية في لبنان، حيث تتداخل ظروفهم الإنسانية مع شؤون المجتمعات المحلية. وقد ترافق ذلك مع جهود إنسانية وإغاثية مستمرّة، عملت على تأمين الحدّ الأدنى من الدّعم والخدمات لهم.
وفي الآونة الأخيرة، برز ملف العودة إلى الواجهة من جديد، من خلال برامج مُنظّمة بالتعاون بين السلطات اللبنانية والمفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين. تهدف هذه المبادرات إلى تسهيل العودة الطوعية، بما يتيح للاجئين الراغبين فرصة الانتقال مجدداً إلى وطنهم عبر قنوات رسمية وآمنة.
في هذا السياق، عاد أخيراً نحو 50 ألف نازح سوري من لبنان إلى بلدهم (وفق معطيات رسمية) في إطار برنامج العودة الطوعية المنظّم بين السلطات اللبنانية والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، مستفيدين من منحة مالية لمرّة واحدة عبر المعابر الرسمية.
بحسب التقديرات، يمكن أن يصل إجمالي العائدين بحلول نهاية العام إلى 500 ألف.
تداعيات سلبية على الاقتصاد اللبناني؟
في حديث خاص لـ"النهار"، يؤكد الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان أن "عودة 500 ألف لاجئ سوري قد تُحدث أثراً سلبياً قصير الأجل، خصوصاً على القطاعات التي تعتمد بشكل كبير على اليد العاملة السورية منخفضة الأجر، وفي مقدّمها الزراعة والبناء، إضافةً إلى خدمات النظافة والبلديات".
وبحسب بيانات تقييم الفقر والضعف للاجئين السوريين "VASYR"، فإن الزراعة تشكّل نحو 22% من مصادر الدخل الرئيسة للأسر اللاجئة العاملة، والبناء نحو 15% في عام 2023.
ومع معدل تشغيل يُقارب الـ 41% للسوريين عام 2024، يقول أبو سليمان إنَّ "عودة 500 ألف شخص قد تعني خروج نحو 200 ألف عامل من سوق العمل اللبنانية، بينهم ما يقارب الـ 44 ألفاً في الزراعة، والـ 30 ألفاً في البناء، ما يضغط على الكلف ويرفع الأجور، ويؤخر تنفيذ المشاريع الزراعية والإنشائية، خصوصاً في البقاع والشمال".
كذلك، تطرق إلى كلفة إضافية على المنتجين، لافتاً إلى أنَّ "نقص اليد العاملة الرخيصة يرفع كلفة الحصاد والخدمات الزراعية والمقاولات الصغيرة، وقد ينعكس على أسعار بعض السلع والخدمات أو على هامش أرباح المزارعين والمقاولين. وهذا يتوافق مع تمركز العمالة السورية في الأعمال الموقتة وغير النظامية ضمن هذه القطاعات".
ويلفت الخبير الاقتصادي إلى عامل ماكروي مهم، قائلاً: "تقدّر منظمة العمل الدولية (ILO) حجم القوة العاملة السورية في لبنان بنحو 400 ألف عامل، معظمهم غير نظاميين، ما يبرز وزنها النسبي في سوق العمل"، موضحاً أنَّ "خروج نسبة كبيرة منهم بسرعة يزيد اختناقات العرض في القطاعات اليدوية".
أما على صعيد الطلب المحلي، فيشير أبو سليمان إلى أنَّ "رحيل عدد كبير من الأسر يعني هبوطاً في الاستهلاك المحلي (غذاء، إيجارات منخفضة الكلفة، نقل...)، وهو ما يضغط على مداخيل متاجر الأحياء والإيجارات في مناطق الاستضافة، ويضعف دور القطاعات غير الحكومية/المساعدات المرتبطة بحجم وجود اللاجئين، كما أن جزءاً من تمويل خطة الاستجابة للأزمة اللبنانية (LCRP) والبرامج الإنسانية مرتبط مباشرة بحجم الفئات المستهدفة، ما قد ينكمش مع تراجع الأعداد".
ويُشدّد على أنَّ "الأثر الصافي قصير الأجل سلبيّ على العرض في الزراعة والبناء (ارتفاع الكلف/تأخير الأعمال)، وسلبي على الطلب في الأحياء الفقيرة (تراجع الاستهلاك)، مع اختلاف شدّته بحسب المناطق".
وقد أعلنت المديرية العامة للأمن العام اللبناني عن تسهيلات إدارية للراغبين في العودة خلال الفترة من 1 تموز/ يوليو حتى 30 أيلول/ سبتمبر 2025، حيث سجّل أكثر من 80 ألف طلب إضافي للعودة. ومن المتوقع أن يرتفع عدد العائدين إلى نحو 130 ألفاً مع نهاية الشهر الحالي، وهو ما يمثل نحو 10% من إجمالي اللاجئين السوريين المسجّلين في لبنان.
يُذكر أنه يوجد أكثر من 200 ألف سوري غير مسجلين، عادوا بطرق فردية منذ بداية 2025، وفق أرقام رسمية.
إيجابيات محتملة...
في مقابل السلبيات، هناك أيضاً إيجابيات محتملة على الاقتصاد. يوضح أبو سليمان لـ"النهار" أنَّ "ذلك قد يتيح انفراجاً محدوداً في المنافسة على الوظائف متدنية المهارة بين اللبنانيين، ولا سيما في الأشغال اليدوية، بما قد ينعكس تحسّناً في فرص العمل للّبنانيين غير المهرة، وارتفاعاً في الأجور الأدنى. وهذا ينسجم مع الأدلة التي تُظهر تركّز عمل السوريين في قطاعات الزراعة والبناء وخدمات النظافة".
كما يشير إلى أنَّ الأمر "يساهم في تخفيف الضغط على الخدمات العامة والبنى التحتية المحلية (مثل المدارس الرسمية، وجمع النفايات، والطرق المحلية)، ما يخفض النفقات التشغيلية للبلديات على المدى المتوسط، شرط ألّا يتراجع التمويل المخصص لها في المقابل".
ويضيف أبو سليمان أنَّ من النتائج المحتملة أيضاً "انحسار بعض التوترات الاجتماعية في مناطق الاستضافة الكثيفة، إضافة إلى تأثير على سوق الإيجارات المنخفضة الكلفة، حيث يُحتمل أن تشهد تراجعاً طفيفاً في أسعار الوحدات الهامشية، استناداً إلى انخفاض الطلب المحلي مع خروج عدد كبير من الأسر".
"شرط لإعادة تنظيم سوق العمل"...
على مقلبٍ آخر، تعاني سوق العمل في لبنان من ضعف التنظيم وغياب السياسات الواضحة التي تضمن حقوق العمال. هذا الواقع يفتح المجال لانتشار العمالة غير النظامية ويحدّ من فرص الاستقرار المهني.
في هذا الإطار، ورداً على سؤال "هل تساهم عودة اللاجئين في إعادة تنظيم سوق العمل؟"، يوضح الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان: "نعم، بشرط إدارة مرحلة الانتقال بشكل جيد".
ويشير إلى أنَّ "الخروج الكبير والمفاجئ لليد العاملة منخفضة المهارة قد يؤدي إلى:
- زيادة المكننة في الزراعة وبعض الأشغال، وإعادة هيكلة سلاسل التوريد الموسمية.
- تحسين شروط العمل واستقطاب لبنانيين من خلال أجر أعلى وتنظيم أفضل (لجهة الساعات والسلامة)، خصوصاً إذا ترافق ذلك مع تفعيل التفتيش وتقييد صارم للعمل غير النظامي المتبقي.
- لكن من دون سياسة انتقالية واضحة (تشمل تسويات أوضاع، تصاريح عمل للفئات التي تبقى، دعم موسمي للزراعة، وبرامج تدريب سريعة للبنانيين)، قد نشهد فجوات إنتاجية وارتفاعاً في الكلف وتعثر مؤسسات صغيرة، أي "فوضى تنظيمية" بدلاً من تنظيم فعلي".
ويوضح أنَّ "مراجع مثل الـILO وVASyR تؤكد أن نحو 95% من عمل السوريين غير نظامي، ما يجعل هدف التنظيم واقعياً إذا جرى اعتماد أدوات انتقائية وموقتة لتصاريح العمل".
هل ستتغير أجرة العامل؟
في معرض الرد على سؤال حول كيفية تغيّر أجرة العامل اليومي في لبنان، يوضح أبو سليمان أنَّ "الأجور اليومية غير النظامية (20- 30 دولاراً) تقع ضمن نطاقات رُصدت ميدانياً في برامج العمل كثيف العمالة، حيث سُجلت أجور تراوحت بين 13 و17 دولاراً في بعض المناطق والمشاريع خلال عامَي 2023- 2024، مع تفاوت كبير بحسب المنطقة والموسم".
ويضيف: "النقص المتوقع في المعروض في قطاعَي الزراعة والبناء سيرفع الأجور فيهما أكثر من غيرهما. فالتقديرات العملية المستندة إلى أحجام الخروج القطاعية تشير إلى:
- الزراعة والبناء: احتمال ارتفاع يتراوح بين 10 و25% خلال ذروة المواسم والورشات، خصوصاً في المحافظات الأكثر اعتماداً على العمالة السورية (البقاع، الشمال، وأجزاء من جبل لبنان). أي أن نطاق 20–30 دولاراً قد يتحرك إلى نحو 25- 35 دولاراً في الفترات الذروية، مع استمرار التفاوت المناطقي.
- الخدمات والقطاعات الأقل اعتماداً على العمالة السورية: أثر محدود على الأجور".
ويختم أبو سليمان حديثه بالتأكيد أنَّ "هذه التغيّرات تبقى مرهونة بسرعة ووتيرة العودة، وكذلك ببدائل أصحاب العمل، مثل التوجه إلى المكننة، أو إعادة توزيع اليد العاملة، أو حتى تقليص النشاط".
رغم تعدد السيناريوات، يبقى تأثير عودة اللاجئين على سوق العمل في لبنان مرتبطاً بقدرة الدولة على إدارة المرحلة بمرونة وحكمة، ليس فقط لموازنة العرض والطلب في القطاعات المختلفة، بل لترسيخ سياسات تنموية طويلة الأمد تدعم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
بذلك، يمكن تحويل الأزمة إلى فرصة لإعادة هيكلة سوق العمل بطريقة شاملة تعزز العدالة وتتيح للاقتصاد التكيف مع التغيرات المستقبلية والاستفادة القصوى من الموارد البشرية المتاحة.
"النهار"
The post عودة اللاجئين السوريين: اختبار للاقتصاد اللبناني وسوق العمل appeared first on أخبار الساعة من لبنان والعالم بشكل مباشر | Lebanonfiles | ليبانون فايلز.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا