Skip to main content

من المقاومة إلى إيران.. من المسؤول عن خراب مشرقنا العربي؟!

29 تشرين الأول 2024
https://qudsn.co/WhatsApp Image 2024-10-29 at 8.19.16 PM

يعود بعض المثقفين العرب الذين لديهم موقف نقدي، معلن أو ضمني، من عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وأحيانا من المقاومة المسلّحة برمّتها، لاستدعاء إيران بنحو لا يبدو مفهوم الأسباب بالقدر الكافي، وذلك في إطار مناقشة حرب الإبادة الجماعية على الفلسطينيين في قطاع غزّة. ويتركّز هذا النقد في مسألتين أساسيتين؛ الأولى: الاتهام المتجدد لإيران بتخريب دول المشرق العربي، وبعضهم ممّن لديه نوستالجيا خاصّة تجاه "الربيع العربي" يزيد في ذلك الاتهام بتحميلها مسؤولية الانقلاب على ذلك "الربيع"، وأمّا الثانية: فهي التنويه إلى كون التدخل الإيراني في مواجهة الحرب الإسرائيلية، أقلّ بكثير من سقف الخطاب الإيراني المعلن طوال السنوات الماضية.
ليست المشكلة هنا في التوجّه النقدي نحو إيران ومراجعة سياساتها تجاه المنطقة العربية، ولكن المشكلة في اختيار إيران مدخلا لمراجعة عملية السابع من أكتوبر، في إفلاس نقديّ واضح، حينما يملّ الأخ المثقف من تناول الحدث من جهة حسابات المقاومة، أو من جهة موقفه التأسيسي الرافض للمقاومة المسلحة، فيلتفت إلى زاوية نقدية أخرى لا تبدو بعيدة عن دوافعه تلك، فهو منحصر في نقد أعداء "إسرائيل" أو المشتبكين معها، بقطع النظر عن مستويات الاشتباك، وبالضرورة فإنّنا لا نستبطن مناقشة هؤلاء الذين يعدّون جولة القصف المتبادل بين إيران و"إسرائيل" مسرحية، فهم خارج هذا النقاش تماما.

تركيز النقد على المعتدَى عليهم لا يخلو في ظاهره من اختلال أخلاقيّ واضح، قد يُغطَّى بالقول إنّ "إسرائيل" عدوّ مجرم ليس ثمّة إضافة تُقدّم بتكرار إدانتها الحاضرة دائما، ومن ثمّ فالمساهمة الوحيدة الممكنة بلسان حال هؤلاء، وأحيانا مقالهم، هو النقد المستمرّ للطرف الواقع عليه العدوان الإسرائيلي، وهذه الإضافة تأخذ قيمتها، بحسبهم، بمعرفة أين أخطأنا. هذه الحجة هي الإفلاس عينه، لأنّ اقتصار المساهمة في التعاطي مع الحدث على نقد الضعيف والمعتدَى عليه؛ تنتهي إلى إشاعة الوهن واليأس والندم، والتغافل عن كلّ ما ينبغي فهمه ويمكن قوله بخصوص العدوّ المعتدِي، وهو ما قد ينتهي بدوره كذلك إلى نوع من التبرئة للعدوّ، فحينما تكون المساهمة الثقافية منحصرة في نقد الضعيف المعتدَى عليه، فذلك يعني أنّ المشكلة جوهريّا تكمن فيه، وذلك كلّه دون أن يقول هؤلاء شيئا مفيدا فيما هو راهن وكيفية الخروج منه.

يقود ذلك إلى العوامل الموضوعية التي مكّنت "إسرائيل" من إطالة حرب الإبادة الجماعية على الفلسطينيين، إذ ينبغي، والحالة هذه، النظر في الموقف العربي، الذي يمكن معرفة حقيقته ليس فقط من كون جميع الدول العربية، لا سيما تلك الكبيرة والمتعافية، أو الأكثر تداخلا مع القضية الفلسطينية، أو التي تقيم علاقات علنية مع "إسرائيل"؛ لم تفعل أدنى شيء لمحاولة وقف المذبحة، بل إنّها تنظّم صراحة الحملات الإعلامية الضخمة المنحازة لـ"إسرائيل"، والقنوات والصحف والمواقع والشخصيات ومجموعات "الذباب الإلكتروني" التي تتولّى ذلك معروفة، وأكثرها مملوك لدول خليجية أو مموّل منها.

لسنا، والحالة هذه، في كبير حاجة إلى ما نقله بوب وودوارد في كتابه "war" (وقد رجعت للكتاب للتأكد من صحة ما نقلته عنه المصادر الإخبارية) عن دعم عدد من الحكام والوزراء العرب لبنيامين نتنياهو في حربه على حماس، وحرصهم على هزيمة الحركة، وذلك في محادثاتهم مع وزير الخارجية الأمريكي بلينكن بعد السابع من أكتوبر. ومن نافلة القول إنّ الطريق لهزيمة حماس هي الإبادة الجماعية والتدمير الممنهج لقطاع غزّة، الأمر الذي يؤكّد باستمرار أنّ مشكلة الحكومات العربية ليست مع حماس بوصفها حركة مقاومة أو حركة "إسلام سياسي"، وإنّما هي الرغبة التاريخية العارمة في الخلاص من القضية الفلسطينية، لأنّ تلك الحكومات تعلم تماما أنّ ثمن هزيمة حماس هو تكريس المشروع الصهيوني، وطمس القضية الفلسطينية؛ في السياق نفسه الذي كانت تسير فيه حكومات "التطبيع الإبراهيمي" منذ سنوات قبل السابع من أكتوبر.
ماذا يعني أن يُخلا من النقد؛ العربي الأقرب إلى فلسطين، والذي يتحمّل مسؤولية سياسية لا تسقط بالتقادم عن القضية الفلسطينية، للحديث حصرا عن انخفاض فعل إيران بالنسبة لخطابها طوال السنوات الماضية؟! والغريب أن يتخذ البعض من انعدام الخطاب العربي تجاه "إسرائيل" حجة لدفع النقد عن الحكومات العربية، وكأنّ انعدام هذا الخطاب أو رداءته؛ ليس ممّا يستحق الإدانة. فالقول، في محاولة تسويغ انصراف النقد عن الحكومات العربية، إنّها ليست لديها دعاوى عريضة بخصوص الصراع مع "إسرائيل" تُحاسب على أساسها؛ أمر يتطابق مع انحطاط المواقف التأسيسية لتلك الحكومات، لأنّ المشكلة أصلا إمّا في مواقفها المنحازة لـ"إسرائيل"، أو في سقفها الواطئ تجاه القضية الفلسطينية، وهو ما سمح باستمرار حرب الإبادة الجماعية، فانحطاط خطابها دليل انحطاط مواقفها الحقيقية الداعمة للحرب الإسرائيلية، ومن ثمّ فهذا المثقف وتلك الحكومات بالدرجة نفسها من الرداءة أو الانحطاط، ولكنّ هذا المثقف يبيع موقفا مجّانيّا لأنظمة طغيانية وجودها واستمرارها مرهون بشرط الرضا الأمريكي!

تبقى حكاية أنّ إيران دمّرت بلاد المشرق العربي. هذه الحكاية قفزة تاريخيّة واسعة، لا يقدر عليها إلا خيال مخروق، فالخراب العربي بدأ مع غزو صدام حسين للكويت، والذي هو فعل عربيّ خالص، ثم تبع ذلك تواطؤ الحكومات العربية مع النظام الغربي الاستعماري؛ لتدمير مقدّرات العراق في حرب العام 1991، وهو ما استُكمل في حرب العام 2003، لتنفذ إيران إلى العراق من هامش الحرب العربية/ الأمريكية على العراق.
بعد ذلك، وفي حين أنّ البعض يقصد بتدمير إيران لبلاد المشرق العربي، نفوذها إلى بلاد عربية عبر جماعات محلّية في تلك البلاد، وتحديدا في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، فإنّ أحدا من هؤلاء المثقفين لا يتحدث عن تدمير السودان وتحطيم مجتمعه الأهلي بتمويل من دولة خليجية معروفة، وهو ما يمكن قوله بشأن ليبيا، ويُضاف إلى ذلك تمويل عدد من الدول الخليجية لانقلاب الجيش في مصر، الأمر الذي تأسّس عليه لاحقا القضاء على حالة "الربيع العربي"، وإدخال منطقتنا في هذه الحقبة شديدة البؤس والسواد.
وبما أنّ هؤلاء المثقفين لديهم عاطفة خاصّة تجاه الثورة السورية، فإنّهم بدورهم لا يذكرون كلمة واحدة عن الدور الخليجي، سواء في تخريب الثورة في حينها، أو في العودة للتطبيع مع النظام السوري راهنا، والطريف أنّهم يقترفون مثل هذه الألاعيب المعيبة وهم يكتبون في صحف مموّلة من الدول إياها الأكثر تخريبا لبلادنا العربية، والأكثر رعاية للاستبداد، والأكثر تواطأ مع "إسرائيل" في حربها على الفلسطينيين.
وما يمكن قوله في سوريا والعراق حول الدور التخريبي لأنظمة تلك الدول وحكوماتها يمكن قوله في اليمن بنحو واضح، وكذلك في لبنان، وهذه الأنظمة موّلت وسلّحت مليشيات في العديد من البلاد العربية، فبأيّ معنى تقتصر تهمة تخريب البلاد العربية ومجتمعاتها الأهلية على إيران، بينما حكوماتنا وأنظمتنا العربية هي الأولى بذلك، من كلّ وجه، بما في ذلك الوجه المُحَبّب لهؤلاء المثقفين وهو الوقوف على أخطائنا الذاتية؟! أم أنّ الوقوف على الأخطاء الذاتية يكون فقط حينما تكون "إسرائيل" هي الطرف المقابل؟!
لا تخرج مثل هذه الممارسة إلا من خلل مركّب من عطب في التصوّرات العقلية، وآخر في الكفاءة الأخلاقية.

 

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا