
وخلال السنوات التي تلت هذه الحادثة، التي لا تزال تونس تدفع فواتيرها حتى اليوم، بقي المشيشي صامتا تماما حتى إنه لم يخرج مرة واحدة للرد على الأخبار الكثيرة التي جرى تداولها بشأن عملية تنازله عن منصبه، والتي قيل إنها تمت تحت تهديد السلاح.
لكن "المسار الجنوني" وحالة "التردي والهذيان" التي وصلت لها البلاد دفعا المشيشي للخروج عن صمته الذي يقول إنه لم يكن خوفا بقدر ما كان تحفظا مهنيا التزم به من باب المسؤولية التي يفرضها عليه مساره المهني الطويل، والحفاظ على صورة الدولة.
فقد وصلت تونس كما يقول رئيس وزرائها الأسبق إلى مرحلة لم يعد ممكنا السكوت معها أو عليها "حتى لا يحتكر من يمارسون السياسية بشكل مشوه كتابة التاريخ على طريقتهم ووفق روايتهم".
ولا ينفي المشيشي أنه واحد من أبناء الدولة العميقة لكنه يقول إن هذا المصطلح من وجهة نظره يعني الدولة الوطنية التي تلت الاستقلال والتي منحت فرصا ولو منقوصة لبعض أبناء الطبقة المتوسطة لصعود السلم الاجتماعي استنادا لقدراتهم العملية.
ولم يكن المشيشي معارضا لزين العابدين بن علي، الذي ثار عليه التونسيون في 2011، ولا يزعم أنه كان ثوريا، ولكنه كان مسؤولا وأكاديميا التزم بمقتضيات هذا المسار المهني الذي يفرض عليه الاحتفاظ بكثير من المواقف لنفسه وعدم الاصطدام بالنظام.
وولد المشيشي لعائلة متوسطة في مدينة بوسالم بولاية جندوبة التي يقول إنها واحدة من المناطق التي لم يمر عليها قطار التنمية، ودرس القانون في تونس ثم التحلق بالمدرسة الوطنية للإدارة.
وكانت هذه المدرسة مسؤولة عن إعداد النخب التي ستشارك في الهيكل المؤسسي للدولة، وهي نخبوية جدا من الناحية العلمية وكانت تفتح أبوابها لمن يبقون الباب مواربا مع الدولة ولا يدخلون معها في صدامات مفتوحة، كما يقول.
وبعد سنوات من العمل في دولاب مجلس الوزراء، اختير المشيشي للالتحاق بالمدرسة الوطنية الفرنسية في ستراسبورغ، وهي المؤسسة التي خرجت كافة الرؤساء الفرنسيين تقريبا باستثناء نيكولا ساركوزي.
إعلانويصف المشيشي ما يجري في تونس حاليا بالهذيان والإجرام ويقول إن السجناء السياسيين القابعين في سجون قيس سعيد ليسوا سوى مجموعة من الرهائن المحتجزين لحين إغلاق قوس الانقلاب.
فلا أحد يمكنه القول إنه هو من صنع الثورة التونسية التي جاءت على يد الشباب فأطلقت أجنحة كل من لم يكونوا قادرين على التحليق في فضاء العمل الاجتماعي والتعبير عن آرائهم، بمن فيهم المشيشي نفسه، كما يقول.
لذلك، يعتقد رئيس الوزراء التونسي الأسبق أنه لم يعد ممكنا السكوت أو التحفظ على الحديث عن الخروقات الكبيرة التي تقع بحق الدستور، والظلم الذي يقع على التونسيين وخصوصا السياسيين والصحفيين، والذي أعاد البلاد من طريق الديمقراطية إلى دولة الاستبداد.
ولم تكن ديمقراطية تونس مزدهرة بعد الثوة، بل إنها كانت متعفنة وكان يمكنها أن تكون أفضل من ذلك بكثير، لكنها على الأقل وفرت مسارا ربما كان سينتهي بدولة حرة لا يُحكم شعبها بالعصا، كما يقول.
فعلى سبيل المثال، كان المشيشي عضوا في اللجنة التي تشكلت بعد الثورة لفهم آلية الفساد المؤسسي ووضع قواعد جديدة لحوكمة البلاد ومنع الفساد ومأسسة العمل الحكومي كجزء من دولة القانون التي ثار الناس من أجلها.
ووفرت هذه اللجنة فرصة لفهم آليات الفساد والمحسوبية الحكومية بحيث يمكن تفاديها مستقبلا عبر وضع نظام قانوني وإداري يحول دون استشرائها على النحو الذي كان في عهد بن علي، والذي يقول المشيشي إنه أدى إلى سقوطه.
ولم تكن تونس بعيدة عن مثل هذه المؤسسات الرقابية في عهد بن علي، لكن التقارير الصادرة عن هذه المؤسسات والتي طالت أحيانا قمة هرم النفوذ بالدولة كانت تموت عند المستوى السياسي.
بيد أن هذه الطريقة التي حالت دون تفعيل هذه التقارير، بقيت معمولا بها بعد الثورة حيث أصبحت هذه الخلاصات سلاحا سياسيا، وأصبح الفساد تهمة جاهزة لكل معارض حتى فقدت معناها، ولم يتوقف العمل بهذه الآلية بعد انقلاب قيس سعيد، حتى وصل الأمر إلى تحويل القضاء مطرقة بيد الدولة تضرب بها من تشاء، كما يقول المشيشي.
ويرى المسؤول السابق أن قيس سعيد كان صنيعة الإعلام الذي أصبح لاحقا أحد ضحايا انحرافاته، ويقول إنه كان دائم الانتقاد لتعثر المسار الديمقراطي وكان يتحدث بلسان الخبير الدستوري، حتى ظن الناس أنه سيكون مدافعا عتيدا عن الدستور الذي لم يلبث أن اغتاله فور وصوله إلى السلطة.
وبدأ المشيشي عمله مستشارا قانونيا أول لقيس سعيد، وبعد شهر واحد أصبح وزيرا للداخلية في حكومة إلياس الفخفاخ، التي كانت تستهدف تحييد وزارات الداخلية والعدل عن العمل السياسي.
ونفى المشيشي تعرض قيس سعيد لأي محاولة اغتيال، وقال إنه مجرد ادعاء كان هدفه تعزيز المشروعية من خلال تصوير نفسه كشخص مهدد بسبب محاربته للفساد، "حتى إن رؤساء الدول لم يعودوا يتواصلون معه بعد حديثه عن أي محاولة اغتيال لأنهم عرفوا طبيعة هذه الإعلانات".
وفي سبتمبر/أيلول 2020، تولى المشيشي رئاسة الحكومة عندما ارتأى سعيد تعيين شخصية بعيدة عن التمثيل البرلماني، لفض حالة الشد والجذب التي أسقطت حكومة إلياس الفخفاخ التي كانت تضم عناصر كلها مختلفة الانتماء السياسي.
إعلانويعتبر المشيشي وصفه برجل قيس سعيد نوعا من المكايدات السياسية، بدليل أن الثقة بينه وبين الرئيس لم تعد قائمة صباح اليوم التالي لتشكيل حكومته التي يقول إنها كانت تحاول تجاوز لحظة الاضطراب السياسي حتى السياسي التقليدي.
بيد أن المشاورات التي أجراها سعيد مع قادة الأحزاب خلال فترة تشكيل هذه الوزارة كانت تستهدف تفجير الحكومة قبل تشكيلها، وفق المشيشي الذي يقول إن رئيس الجمهورية وعد حركة النهضة الإسلامية بأنه لن يحل البرلمان.
وتمسك سعيد بفرض أسماء بعينها على حكومة المشيشي، دون أي اعتبار للكفاءة، كما فعل مع سلفه إلياس الفخفاخ "لأنه كما ظهر جليا لا يؤمن باستقلالية المؤسسات"، وقد كانت هذه الأسماء ومنها وزيرا الثقافة والصحة سببا أساسيا في كثير من المشكلات الداخلية للوزارة.
كما تمسك بتعيين وزير البيئة مصطفى العلوي، الذي اتضح لاحقا أنه قريب له، والذي جرت ملاحقته قضائيا وهو في منصبه وصدر أمر قضائي بإيقافه، وقد حاول سعيد منع القاضي من إصدار القرار، وغضب من المشيشي لأنه استبقه وأعفى الوزير من منصبه.
ويصف المشيشي طريقة حكم قيس سعيد بحكم "جهاز البث" الذي يصدر تعليمات ولا يريد تلقي ردود عليها ويعتبر أي مخالفة لرؤيته أو قراراته "خيانة وخروجا على الاتفاق السياسي، ويرد عليها بشن حملة تخوين شعواء على الطرف الآخر، لأنه يصر على ترسيخ فكرة أنه النزيه الوحيد وسط مجتمع من الفاسدين أو مشاريع الفاسدين".
وهكذا، أمضى المشيشي عاما على رأس حكومة كانت تخرج من أزمة لتدخل في أخرى حتى وصل إلى اللحظة التي قرر فيها سعيد الانقلاب على الدستور الذي يصفه بالتوافقي، رغم أنه وزع الصلاحيات بطريقة خلقت تجاذبا بين الحكومة والرئيس والبرلمان.
في 25 يوليو/أيلول 2021، وصل سعيد إلى ما قال المشيشي إنه كان يسميها -خلال مرحلة الحشد والتعبئة- باللحظة، التي لم تكن بقية الأطراف تعتقد أنها ستصل إليها لأنها عاشت وهم عدم إعادة تونس إلى مرحلة ما قبل الثورة مرة أخرى.
ففي تلك الليلة، عرف المشيشي -الذي كان وزيرا للداخلية إلى جانب كونه رئيسا للحكومة- من بعض القيادات الأمنية والعسكرية أن سعيّد دعاهم لاجتماع في قصر قرطاج، فتواصل مع الرئيس لمعرفة السبب وكان رده أنه يحاول فقط الوقوف على الأوضاع، وأبلغه بأنه يمكنه الحضور للمشاركة.
وعندما وصل، كان قادة الأمن والجيش الكبار متواجدين بالقصر في مشهد يقول إنه "غير اعتيادي" لكنه لم يكن يتوقع أنه سينتهي بما انتهى إليه، لأنه "كان يفكر بعقلية رجل الدولة"، وتم إبلاغه بأن الرئيس ينتظره في مكتبه لعقد اجتماع مغلق.
وكان سعيد غاضبا ويتحدث عن دماء ستسيل في الشوارع وحرب أهلية على وشك الاندلاع، وشرع في الحديث عن تجميد البرلمان وأنه سيواجه كل طلقة بوابل من الرصاص، فرد عليه المشيشي بأنه "يتحدث عن انقلاب على الدستور"، فزادت حدة غضبه وقال إنه اتخذ قراره وإن الأمر انتهى.
عند هذه النقطة انتهى الحديث وخرج المشيشي من مكتب سعيد واستقل سيارته بالفعل لكن فريق الحراسة الخاص به تلقى اتصالا بالعودة مجددا إلى القصر الرئاسي، وعندما رفض السماح لهم، أبلغوه بأنهم "تلقوا أمرا" فعادوا.
وجلس المشيشي في إحدى الصالات بالقصر وأغلق عليه الباب وعندما منع من الخروج أبلغهم بأنه في حالة احتجاز غير قانونية لكن حرس الرئاسة رفض السماح له بالخروج إلا بعد أن أعلن سعيد قراراته للتونسيين.
وبعد خروجه، حاول المشيشي العودة لمكتبه في رئاسة الحكومة أو وزارة الداخلية لكن الحراسة أبلغته بأنه ليس مسموحا له إلا بالذهاب إلى منزله فقط، وهو ما حدث.
ونفى المشيشي تعرضه لأي اعتداء خلال تواجده بقصر الرئاسة وقال إنه تعرض لعنف مؤسساتي أدخل الدولة في مسار انقلابي، لأنه احتجز بالقوة ولم يكن حرا في المغادرة ولا في التواصل مع أي أحد.
إعلانوسبق هذه الخطوات بعض الإجراءات التمهيدية كما يقول المشيشي ومنها انتشار صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي الممولة من دول أخرى، والتي تبنت عملية تشويه خصوم سعيد.
وكان هناك أيضا "لقاءات أجراها مقربون من الرئيس مع مسؤولين آخرين في عواصم عربية تشبه أنظمتها نظام سعيد، والتي كانت أول من بارك انقلابه".
وفي مارس/آذار 2022، غادر المشيشي تونس لمواصلة مساره المهني العادي، بعد توقيفه في المطار ساعات حتى وصلتهم تعليمات بالسماح له بالسفر، وهو ما اعتبره رسالة بأن التوجه إلى المطار قد لا يعني القدرة على السفر، بعدما تم الزج به في العديد من القضايا من باب الانتقام، كما يقول.
ولا يعتقد المشيشي أن تونس ستحصد خيرا من هذا المسار، ويقول إن التونسيين الذين ابتهجوا بما فعله سعيد لم يعودوا كذلك اليوم، مؤكدا أنه لا يعيب عليهم ولكنه يعيب على بعض السياسيين الذين دعموا هذا الانقلاب نكاية في خصوم سياسيين على رأسهم حركة النهضة وليس دفاعا عن الدولة.
ورغم قتامة الصورة، يعتقد رئيس الوزراء التونسي الأسبق أن الانقلاب سينتهي وأن التونسيين سيتعلمون منه درسا تاريخيا يجمعهم لاحقا مهما اختلفوا، لأن "الشعبوية لا تبني دولا"، ولذلك، فهو يدعو كافة التيارات للجلوس معا لاستعادة عقلانية الدولة قبل أن تصل الأمور إلى تغيير خارج الأطر الدستورية بعدما أصبح سعيد عبئا على البلاد.
حفظ
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا