
خاص قدس الإخبارية: في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 انكشف في "إسرائيل" فشل منظومي شامل هزّ أسس العقد بين المجتمع والدولة. لم يكن الحدث مجرد خرق أمني عابر، بل انهيار متزامن في الإنذار والجاهزية والاستجابة، أعقبه تفكك في الثقة، ارتباك في القيادة، وتآكل في السيطرة على الأدوات المؤسسية التي يُفترض أنها عماد الحكم. ما يلي سرد تفصيلي لمظاهر الأزمة والفشل كما بدت خلال العام التالي، دون تزيين أو تعزية أو آمال بإصلاح، بل كتشريح بارد لواقع مأزوم.
أول مظاهر الفشل كان استخبارياً بحتاً. فشبكات الرصد والإنذار التي بُنيت على مدى سنوات، واعتُبرت قادرة على قراءة نيات العدو، أخفقت في التقاط الإشارات المتراكمة. تقييمات الثقة المبالغ فيها بالوسائل التقنية، والتمسك بنماذج ذهنية جامدة حول قدرات الخصم ودوافعه، ولّدت عمىً مؤسسياً أدى إلى شلل في لحظة القرار. تم تجاهل تحذيرات قادمة من الميدان، واعتمدت غرف العمليات على فرضيات مسبقة تؤكد أن الخصم مردوع وغير معني بمغامرة واسعة. النتيجة كانت انهيار مظلة الردع على نحو فوري، وترك مناطق حدودية بلا غطاء فعلي في الساعات الأولى التي كان يفترض فيها أن تعمل منظومات الإنذار المبكر بحدها الأقصى.
المظهر الثاني تمثل في الإخفاق العملياتي. فحتى بعد انكشاف الهجوم، بدت آليات الاستجابة بطيئة ومجزأة. اتضح أن السلسلة القيادية غير قادرة على تموضع سريع للقوات، وأن منظومات الاتصال بين الوحدات والشرطة والدفاع المدني معرضة للانقطاع وسوء التنسيق. أظهرت وحدات الحماية المحلية نقصاً في العتاد، وبرزت فجوات في خطط الإخلاء، وتبين أن الموارد المخصصة للطوارئ لا تتناسب مع سيناريو شامل. هذا البطء سمح للمهاجمين بتوسيع مدى الأذى خلال نافذة زمنية كانت كفيلة، نظرياً، بالحدّ من النتائج لو توفرت إدارة عملياتية متماسكة.
ثالثاً، تبيّن قصور بنيوي في توزيع القوات والمهام. فالتفضيل السياسي الطويل لمهام في ساحات أخرى، وتحت تقديرات بأن الجبهة الجنوبية مستقرة، خلق اختلالاً في الانتشار. تمركزت وحدات احترافية بعيداً عن نقطة الاشتعال، فيما تُركت مواقع حساسة تحت مسؤوليات خفيفة وطاقم قليل الخبرة. تراكمت في السنوات السابقة اختلالات في تخصيص الميزانيات لصالح قدرات بعيدة المدى على حساب الدفاع القريب وحماية التجمعات المدنية. في يوم الاختبار، انعكست تلك الخيارات في مشاهد فراغ أمني ممتد.
رابعاً، تكرّس فشل قيادي على المستويين السياسي والعسكري. على المستوى السياسي ساد تردد واضح في الاعتراف بطبيعة الحدث وحجمه، ما أدى إلى رسائل متضاربة، وتأخر في اتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بإعلان حالات الطوارئ وتعبئة الاحتياط وإعادة توزيع المسؤوليات. وعلى المستوى العسكري ظهر تنازع داخلي بين مراكز تخطيط متوازية، وتردد في المبادرة إلى تحقيقات فورية خشية المساءلة. التشظي القيادي جعل كل ساعة تضيع أثمن من التي قبلها، ورسّخ الانطباع بأن القمة غير قادرة على الإمساك بالمشهد.
خامساً، أظهرت مؤسسات الحكم ضعفاً في إدارة المعلومات للجمهور. غابت الشفافية في الساعات والأيام الأولى، وتدفقت روايات غير مدققة، وتراوحت النبرة الرسمية بين الطمأنة العاطفية والتهويل السياسي. هذا الاضطراب زاد الذعر، وأوجد سوق شائعات مفتوحاً، وساهم في انهيار الثقة بالبيانات الرسمية. لاحقاً، ومع توالي التحديثات المتناقضة، ترسخ شعور واسع بأن السلطات لا تملك صورة موحدة للوقائع، أو أنها تمارس إدارة خطابية بدلاً من إدارة أزمة.
سادساً، تآكلت الثقة بالمؤسسات المنتخبة. أظهرت استطلاعات متتابعة انحداراً كبيراً في الثقة بالحكومة والكنيست والأحزاب، مقابل تمسك نسبي بالثقة بالجيش رغم تحميله قسطاً من المسؤولية. هذا الانقسام يعكس وعياً جمعياً بأن المستوى السياسي أخفق في الإشراف والحوكمة، وأنه لجأ إلى تبرير تقصيره بتحميل الأجهزة المهنية الوزر. تحويل المسؤولية استراتيجياً نحو الأمنيين كشف آلية هروب متكررة: نفي، ثم تلميح بتقصير الآخرين، ثم تأجيل المساءلة إلى أجل غير مسمى.
سابعاً، برز خلل حاد في العلاقة المدنية–العسكرية. استُخدمت المنابر الرسمية والحزبية لانتقاد قادة في الجيش والاستخبارات علناً، في ذروة مواجهة مستمرة. هذا السلوك أضعف مبدأ المسؤولية المشتركة، وأدخل الشك في نيات القيادة المدنية، وأوحى بأن الهدف ليس التصحيح بل النجاة السياسية. في المقابل، جاءت تصريحات مهنية تعترف بالإخفاق من جانب قادة الأجهزة لتخلق مفارقة إضافية: المنفذون يعترفون، بينما من يفترض أن يوجّههم يتهرّب، ما عزز صورة انعدام التناسق في الهرم الحاكم.
ثامناً، غابت آلية المساءلة المؤسسية. فحتى مع تراكم المؤشرات على تقصير متعدد الأوجه، لم تُنشأ لجنة تحقيق رسمية مستقلة تملك صلاحيات استدعاء الشهادات والاطلاع على الوثائق وإصدار توصيات ملزمة. بدل ذلك، فُضلت لجان داخلية في الأجهزة، وتدابير موضعية غير شفافة، وتسريبات انتقائية تخدم حسابات آنية. غياب الإطار الرسمي للمساءلة أبقى الوقائع رهينة السرديات، ومنح المتسببين هامش مناورة واسعاً لإعادة كتابة الأدوار.
تاسعاً، أنتجت الحرب اللاحقة إدارة مترددة ومتناقضة. تغيّرت الأهداف المعلنة أكثر من مرة، وتبدلت الأولويات بين ضربات واسعة، وعمليات محدودة، ومفاوضات متقطعة على تبادل أسرى، دون خط خروج واضح. هذا التذبذب أنهك الوحدات، وعمّق شعور الجمهور بأن القيادة تتحرك بلا بوصلة استراتيجية ثابتة، وأن التكتيك يحكم الاستراتيجية بدلاً من العكس. كما أدت المساومات داخل الائتلاف إلى تعطيل قرارات حاسمة أو تفريغها، ما رسّخ انطباع العجز.
عاشراً، ظهرت تكاليف اقتصادية مباشرة وغير مباشرة عميقة، بلا إدارة متماسكة للمخاطر. تعبئة الاحتياط على نطاق واسع عطّلت قطاعات مفصلية، وأصابت سلاسل الإنتاج والابتكار بالشلل، فيما جاءت شبكات التعويض بطيئة، متضاربة المعايير، ومثقلة بالبيروقراطية. ضعف القدرة على التقدير المسبق للأثر، وغياب أولويات صريحة لحماية الأعمال الصغيرة والمتوسطة، كشفا هشاشة التخطيط الاقتصادي للطوارئ، واتكاله على حلول لاحقة بدل تحضير مسبق.
حادي عشر، انفجرت مسألة "تقاسم العبء" لتتحول من خلاف سياسي مزمن إلى عامل تآكل أخلاقي للنظام. استمرار إعفاء كتل اجتماعية كاملة من الخدمة العسكرية، مع تحميل كتل أخرى الجزء الأكبر من المخاطر، خلق شعوراً متنامياً بعدم شرعية الترتيب القائم. تحوّل النقاش من سياسات إلى اتهامات متبادلة، وتحوّل البرلمان إلى ساحة تعطيل، ما قاد إلى انسداد تشريعي وتفاقم الاستقطاب. فشل المؤسسة في صياغة تسوية قابلة للتطبيق أكد محدودية قدرتها على معالجة التصدعات البنيوية.
ثاني عشر، انحرفت البيئة الإعلامية إلى اصطفاف شبه كامل مع خطاب السلطة خلال المراحل الأولى، ما عطّل وظيفة الرقابة. أُعطيت الأولوية لبث رسائل قومية موحّدة على حساب التحقيق المستقل، وتم تهميش الأسئلة الحرجة حول الإنذار والقرار والجاهزية. لاحقاً، ومع تراجع الزخم، لم يجرِ إصلاح يُذكر للبنية المهنية التي تسمح بالتحقق المستقل ومواجهة المعلومات الرسمية. النتيجة كانت تراجعاً حاداً في الثقة بالإعلام كمصدر موضوعي، وزيادة الاعتماد على قنوات حزبية ومنصات غير مهنية.
ثالث عشر، تمددت أدوات الضبط الداخلي على حساب الحقوق السياسية والمدنية. توسع فتح الملفات الجنائية على خلفيات منشورات ومواقف، وارتفعت وتيرة الملاحقات بتهمة التحريض أو دعم الإرهاب، وتعرض طلاب وموظفون لإجراءات إدارية قاسية. غابت معايير متسقة، وتم توظيف بيئة الخطر لنزع الشرعية عن معارضين مختلفي الرأي. هذا التوسع في التجريم ضيّق المجال العام، وأنتج برودة سياسية، وأعاد تعريف المعارضة باعتبارها مخاطرة شخصية.
رابع عشر، طفت على السطح أنماط تحريض متبادل بين مكونات المجتمع، ووقعت اعتداءات ذات طابع انتقامي ونداءات مقاطعة داخلية. العجز الرسمي عن فرض معايير موحدة للخطاب ومنع الاعتداءات كرّس الإحساس بأن الدولة فقدت احتكارها لفرض النظام الرمزي والقانوني. ومع الوقت، عاد قاموس «العدو الداخلي» إلى التداول، ما زاد هشاشة النسيج المواطني وأشاع مناخ الاشتباه الدائم.
خامس عشر، كشفت البنية القانونية والتنظيمية للطوارئ قصوراً واضحاً. تداخلت الصلاحيات بين مجالس الأمن والوزارات والسلطات المحلية، وتضاربت أوامر الإخلاء والعودة، وتعددت أنظمة التعويض دون إطار موحد شفاف. لم تُحدّث خطط الدفاع المدني وفق سيناريوهات مركبة، وبدا أن الدروس المستخلصة من أزمات سابقة لم تُترجم إلى بروتوكولات ملزمة. نتج عن ذلك خسارات إضافية وتضارب توقعات وانكشاف مواطنين لضرر كان بالإمكان تجنبه.
سادس عشر، تعثرت منظومات الاتصالات الحرجة. عانت شبكات الطوارئ من اختناقات، وتعرضت مراكز الاستقبال لانهيارات متكررة، ولم تتوفر حلول بديلة تضمن استمرارية الخدمة في ذروة الضغط. فشل التمرين الدوري على سيناريو انقطاع واسع، وغياب بنية احتياطية موزعة، أفقد السلطات القدرة على التوجيه في وقت الحاجة، وترك بلدات بأكملها في عتمة معلوماتية.
سابع عشر، أظهرت منظومات التعليم والرعاية الصحية ارتباكاً تنظيمياً. التأخر في قرارات الإغلاق والفتح، تفاوت بروتوكولات الحماية بين مناطق متشابهة المخاطر، نقص في الآليات النفسية–الاجتماعية لمعالجة الصدمة الكبرى، وتآكل في قدرة المستشفيات على إدارة موجات متتالية من الإصابات، كل ذلك أبرز حدود التخطيط المتكامل لقطاعيْن يفترض استمرارهما في الكوارث.
ثامن عشر، اتسع الفارق بين الخطاب الرسمي والنتائج الفعلية. إعلان أهداف قصوى دون موارد ملائمة، ووعود زمنية لا تتحقق، واستدعاء لغة إنجاز لا تؤيدها المؤشرات، جميعها راكمت فجوة مصداقية. كل تعهد غير مُلبّى غذّى إدراكاً عاماً بأن الإدارة السياسية تشتري الوقت بالشعارات، وأن اللغة غدت بديلاً عن الأداء.
تاسع عشر، تعمقت أزمة الحوكمة إلى مستوى الانسداد. توظيف حالة الطوارئ لتحييد الرقابة البرلمانية والقضائية، وتمييع أدوات الفحص، وتعديل إجراءات على عجل دون مراجعة، قاد إلى منظومة تتخذ قرارات كبيرة بأدوات ضعيفة. داخل الائتلاف نفسه، فرضت الحسابات الفئوية إيقاعاً يُعطّل كل صيغة توافق، فباتت القرارات إما مؤجلة، أو مُنتِجة لأزمات أكبر من تلك التي جاءت لمعالجتها.
عشرون، تراكمت الاستقالات والاعتزالات في المستويات المهنية دون أثر إصلاحي بنيوي. ذهاب مسؤولين أمنيين أو إداريين لم يُقابل بخطة واضحة لبناء القدرات أو بإعادة هيكلة تُزيل أسباب الفشل. تحولت الاستقالات إلى صمامات تنفيس رمزية، بينما بقيت البنية التي ولّدت التعطيل على حالها، تنتظر فشلاً تالياً لتعيد إنتاج الدورة.
واحد وعشرون، انكشف ضعف منهجي في إدارة المخاطر بعيدة المدى. لم تُحدّث مصفوفات الاحتمال–الأثر وفق الوقائع الجديدة، ولم تُدرج سيناريوهات التدهور المتسلسل في جداول الأولويات. تم التعامل مع الحدث كطارئ منفصل، لا كبوابة لأزمات مركبة تشمل الجبهة الداخلية، والاقتصاد، والشرعية، والعلاقات بين المكونات. هذا التجزيء منع توحيد الجهد، وأبقى كل ذراع تعمل بمنطقها الخاص.
اثنان وعشرون، برزت فجوات في أمن البنى التحتية الحيوية. الحماية من التعطيل السيبراني، سلاسل الإمداد للطاقة والمياه، إدارة المخزون الدوائي، واستمرارية الخدمات المالية، جميعها واجهت اختبارات أظهرت اعتماداً خطراً على مورد واحد أو على إجراءات طوارئ مرتجلة. لم تُجر اختبارات ضغط كافية، ولم تُبْن طبقات حماية متعددة تضمن الصمود.
ثلاثة وعشرون، فشلت آليات التعلم المؤسسية في تحويل الدروس إلى تغيير مُلزم. تكررت تقارير "استخلاص عبر" بلا جداول زمنية، وانعقدت حلقات تقييم مغلقة بلا نشر، وغابت آلية متابعة مستقلة. وهكذا بقيت المعرفة حبيسة الورق، ولم تتحول إلى تدريب، أو تحديث عقيدة، أو تعديل تشريعات، أو إعادة توزيع موارد.
أربعة وعشرون، تمددت ثقافة التبرير على حساب ثقافة النتائج. بات السؤال: "من يلام؟" يسبق سؤال: "كيف نصلح؟"، ثم غاب كلاهما خلف طاحونة سياسية وإعلامية تستثمر الحدث لاستخلاص مكاسب فئوية. ومع الوقت، صار الاعتياد على الفشل جزءاً من المعيار الجديد؛ تُخفّض التوقعات، وتُقاس النجاحات بالنجاة من الأسوأ، لا بتحقيق الأفضل.
هذه الصورة الكاملة لا تحتوي فسح عزاء، لأنها ليست معنية بإيجاد مخارج افتراضية، بل بإثبات حقيقة الانهيار. لقد دلّ السابع من تشرين الأول/أكتوبر وما تلاه على منظومة أمنية لم تعرف، أو لم ترد، أن ترى، وعلى قيادة سياسية عجزت عن القرار والمسؤولية، وعلى حوكمة فقدت صرامتها، وإعلام تخلّى عن أدواته، واقتصاد عُطّل دون حماية كافية، وقانون عام ضاق على المعترضين واتسع على المتسلطين. إن التسمية الدقيقة لما جرى ليست أزمة عابرة، بل اختلال بنيوي ممتد، تتراكم عناصره وتغذي بعضها بعضاً، وتعيد إنتاج الشلل عند كل منعطف.
خمسة وعشرون، تفككت القدرة على التخطيط متعدد السيناريوهات في الإدارة العليا. لم تُطرح جداول بدائل واضحة بمستويات كلفة ومخاطر، بل دارت مناقشات على خطوط شعارية، وتم إخفاء الخلافات تحت مظلة كلمات عامة عن "الحسم" و"الإنجاز". في التطبيق، أُنفقت موارد على مسارات متوازية ومتنافسة، وجرى فتح جبهات إعلامية تعيق تركيز الأجهزة على مهام محددة قابلة للقياس. حين تغيب الأولويات، تتحول كل مهمة إلى أولوية، فتضيع جميعها معاً.
ستة وعشرون، أظهرت منظومات المشتريات والدعم اللوجستي ثغرات خطيرة. تأخر التعاقد، وتعدد الوسطاء، وتناقض المواصفات، وأحياناً اعتماد قوائم توريد غير مدققة، كلها قادت إلى فجوات في المعدات الحيوية، وإلى هدر في الأموال العامة من دون مساءلة آنية. استندت قرارات حساسة إلى علاقات شخصية أكثر من استنادها إلى قواعد تنافسية شفافة، ما كرّس انطباع الفساد الوظيفي المحمي بغطاء الطوارئ.
سبعة وعشرون، انهارت قنوات التنسيق بين المركز والسلطات المحلية عند الامتحان. تلقت البلديات أوامر عامة من دون أدوات تنفيذ، وحُمّلت مهام إيواء وتغذية وحماية بلا ميزانيات مسبقة. تفاوت الأداء بين بلدة وأخرى وفق قدرات فردية لا وفق سياسة وطنية، فصار مكان السكن محدداً لمستوى الأمان، لا سياسة الدولة. هذا التفاوت كشف مركزية شكلية تخفي لامركزية مُرتجلة في الواقع.
ثمانية وعشرون، تصاعدت الحرب الكلامية بين السلطات ومعارضيها إلى ملاحقات قانونية وإدارية واسعة. أُغلقت منصات، وفُرضت غرامات، وتعرض موظفون عموميون للعقاب بسبب مواقف خارج العمل. أُعيد تعريف الولاء السياسي شرطاً للثقة الوظيفية، وتآكلت معايير الخدمة المدنية القائمة على الكفاءة والحياد. بذلك، دخلت الإدارة العامة في دوامة تطييف حزبي تُقصي الخبرة وتستبقي الطاعة.
تسعة وعشرون، تراجعت قيمة المؤشرات المعيارية في قياس التقدم. لم تعد هناك خطوط أساس متفق عليها لقياس النجاح أو الفشل لكل مبادرة. اختفت التقارير المرحلية ذات المعايير والأرقام، وحل محلها خطاب وصفي متغير. في غياب مؤشرات، يصبح من المستحيل إدارة الأداء، وتتحول الإدارة إلى تراكم قرارات بلا ذاكرة مؤسسية.
ثلاثون، انفصلت الذاكرة التاريخية عن الممارسة العملية. عبر نصف قرن، راكمت "إسرائيل" تجارب في إدارة الحروب والأزمات، غير أن استحضار تلك الذاكرة تحوّل إلى شعارات مناسبة، لا إلى بروتوكولات مُلزِمة. بُنيت ثقافة على الاستثناء الدائم، لا على النظام، ومع كل استثناء جديد تضعف القواعد أكثر، حتى لم تعد القواعد إلا اسماً يُستحضر لتبرير تجاوزها.
في الحصيلة، لم يعد ممكناً وصف ما جرى بأنه إخفاق موضعي في حقل محدد. إن ما تكشف هو طبقات متراكبة من الفشل: استخبارية لا ترى، عملياتية لا تبلغ، سياسية لا تقرر، قانونية لا توازن، إعلامية لا تسأل، اقتصادية لا تحمي، اجتماعية لا توحّد معيار العدالة. هذه الطبقات لا تعمل منفردة، بل تُولّد دائرة تغذية راجعة تُضعف كل محاولة لوقف الانحدار، لأن كل ذراع تحتاج الأخرى كي تستقيم، وكل ذراع عاجزة عن إسناد غيرها حين تنهار كلها معاً.
ذلك هو توصيف الأزمة، كما هي: بنية حكم تُدار بالشعار وتتهرب من الحساب؛ جهاز أمني تَستُره الهيبة حين تنعدم العيون؛ منظومة قانونية تُستخدم كأداة ظرفية لا كمرجعية ثابتة؛ وفضاء عام يُعاد تشكيله على مقاس السلطة المتقلبة. إن الكلمات التي أُطلقت يوم الحدث عن "الزمن قبل" و"الزمن بعد" تجد معناها هنا: ليس في تبدل المشهد الخارجي، بل في تحوّل الداخل إلى مسرح دائم للأعذار والوعود المؤجلة ونقل المسؤولية من منصة إلى أخرى. ذلك هو الفشل؛ وهذه هي أزمته المستمرة.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا