Skip to main content

"الذهب الرقمي"... هل ينهي هيمنة الدولار؟

13 تشرين الأول 2025

منذ أن خرج الدولار من عباءة الذهب في العام 1971 (صدمة نيكسون)، احتكر موقع "العملة العالمية" من دون منازع. كانت قوّته قائمة على الثقة، وعلى هيمنة الولايات المتحدة في النظام المالي العالميّ، أكثر ممّا كانت قائمة على أيّ غطاء ماديّ. لكن التحوّلات التكنولوجية التي يشهدها العالم اليوم، ومعها عودة الحديث عن "الذهب الرقمي"، قد تكون الشرارة التي ستفتح الباب أمام تفكّك "هيمنة الدولار" وإنما ببطء محسوب. المسألة لم تعد مجرّد ارتفاع أو انخفاض في سعر المعدن النفيس، بل إعادة صياغة العلاقة بين "المال" و "القيمة" في عصر البيانات اللامركزية.

في تقريره الأخير "عصر ذهبي جديد: تخيّل مستقبل الذهب الرقمي" الصادر هذا الشهر، يرسم "مجلس الذهب العالمي" (WGC) سيناريو يذهب أبعد من رقمنة التجارة أو تتبّع السبائك عبر البلوك تشين. الرؤية هنا تتحدّث عن ولادة نظام نقدي موازٍ، يُدار بالذهب ويعمل كشبكة مالية عالمية لا تخضع لسيطرة أي دولة. فحين تصبح كلّ سبيكة موثقة ومتصلة بتقنية الـ "البلوك تشين" من لحظة استخراجها، ويصبح ممكنًا تحويلها إلى رمز رقمي قابل للتداول الفوري، يتحوّل الذهب من سلعة إلى "عملة" فعلية، ولكن خارج النظام الأميركي.

الأرقام التي يسردها المجلس مذهلة. فالقيمة الإجمالية للذهب المحتفظ به عالميًا من قِبل المستثمرين والبنوك المركزية تجاوزت 5.1 تريليونات دولار، وحجم التداول اليومي بلغ 329 مليار دولار في النصف الأول من هذا العام. أي أن الذهب بات ينافس سوق السندات الأميركية. كما سجّل المعدن نفسه قفزة سعرية بلغت 26 % بالدولار الأميركي منذ بداية العام، محققًا عوائد مزدوجة الرقم بكل العملات الرئيسة. لكن المفارقة الكبرى هي إعلان البنك المركزي الأوروبي في حزيران 2025 أن الذهب تجاوز عملة اليورو ليصبح ثاني أكبر أصل احتياطي عالمي بعد الدولار، في لحظة تاريخية تحمل أكثر من إشارة.

في عالمٍ يعاني من انقسام نقديّ وجيوسياسي متزايد، باتت فكرة "الأصل المحايد" أكثر إغراءً من أيّ وقت مضى. مجلس الذهب العالمي لا يقدّم تنظيرًا رومانسيًا عن عودة معيار الذهب، بل مشروعًا متكاملًا لبناء اقتصاد ذهبيّ رقمي.

في إطار برنامجه Gold247 يسعى المجلس إلى دمج الشفافية والسرعة والثقة في تداول الذهب عبر أنظمة رقمية مؤسسية، توفر قاعدة بيانات لتتبّع مصدر كل أونصة من لحظة استخراجها إلى لحظة بيعها. أمّا المبادرة الأكثر جرأة في المشروع هي أنّ "الوحدة الذهبية الرقمية" ستكون قابلة للتداول عالميًا، تمامًا كما يتداول المستثمرون اليوم الدولار في أي سوق. وهكذا، يمكن لمستثمر في طوكيو أن يبيع وحدة ذهب رقمية تمثل غرامًا من ذهب محفوظ في خزائن لندن أو زيورخ، في تسوية لحظية لا تمرّ عبر أيّ بنك أميركي أو نظام دولار... وهذه القابلية العابرة للحدود هي ما يخشاه بعض الاقتصاديين الأميركيين، إذ إنها تخلق نظامًا نقديًا موازيًا غير خاضع للدولار.

من الناحية النظرية، هذا التحوّل يفتح الباب أمام تفكّك تدريجيّ للامتياز الذي يحظى به الدولار الأميركي منذ اتفاقية "بريتون وودز". فالولايات المتحدة تموّل عجزها الداخلي بعملتها الخاصة لأن العالم كلّه يحتاج إلى الدولار للاحتياط والتجارة، ما يجعل طلبه دائمًا مرتفعًا. لكن لو توفر أصل رقمي محايد مدعوم بذهب فعليّ، يتمتع بالسيولة والشفافية نفسها، فإن هذا الطلب قد يتآكل تدريجيًا. كما أن الدول التي تبحث عن تحرّر من هيمنة النظام المالي الأميركي، أو تلك التي تواجه عقوبات، ستجد في الذهب الرقمي وسيلة دفع وتسوية آمنة لا تمر عبر واشنطن أو نظام "سويفت" لتحويل الأموال.

بحسب استطلاعات المجلس، فإن 34 % من المستثمرين الأميركيين يعتبرون إمكانية استرداد الرموز النقدية مقابل الذهب الفعلي، شرطًا للثقة في النظام الجديد، ما يعكس شهية السوق لمفهوم "المال المغطى بالمعدن" من جديد.

لكن السؤال الأهمّ: هل يمكن للذهب الرقميّ أن يتحوّل فعلًا إلى "عملة عالمية" تزاحم الدولار؟ الجواب ليس بسيطًا. فالدولار ليس مجرّد رمز ماليّ بل منظومة اقتصادية وسياسية كاملة، مدعومة بسوق سندات تتجاوز 25 تريليون دولار، ومؤسسات مالية تتعامل به حصرًا، واقتصاد لا يزال الأكبر في العالم. إلّا أن التحدّي الذي يطرحه الذهب الرقمي يتجاوز مسألة الحجم إلى فلسفة المال نفسها: "المال المركزي" مقابل "المال اللامركزي"، "الثقة الحكومية" مقابل "الثقة التكنولوجية"، و "العائد المالي" مقابل "الأمان الحقيقي" للقيمة.

التطوّرات التي يشهدها العالم لا تسير في معزل عن هذه التحوّلات، ودخول مؤسسات استثمارية كبرى في العالم مثل شركة "بلاك روك" الأميركية في مجال الأصول المرمّزة، وصدور تشريعات أوروبية مثل MiCA، والأميركية مثل GENIUS Act، كلّها تعني أن الأصول الواقعية ستتحوّل تباعًا إلى رموز رقمية قابلة للتداول، مع توقعات أن تبلغ قيمة هذه الأصول المرمّزة نحو 19 تريليون دولار بحلول العام 2033، ما يعني أن الذهب الرقمي سيكون في صلب هذا التحوّل، خصوصًا أنه الأصل الوحيد الذي يجمع بين الموثوقية الفيزيائية والمرونة الرقمية... هنا، قد يصبح التحوّط بالدولار أقل جاذبية كلّما زادت كفاءة التداول الرقمي بالذهب.

لكن رغم ذلك، لا يمكن تجاهل العقبات. التحوّل إلى نظام نقدي قائم على الذهب الرقمي يحتاج إلى اعتراف قانونيّ عالميّ، وإلى معايير موحّدة للملكية الرقمية والتسويات العابرة للحدود. كما يحتاج إلى شبكات تخزين مؤمّنة وموزعة عالميًا، وإلى توافق سياسي بين الدول الكبرى. لكن اللافت أن أولى اللبنات بدأت تتشكل: العملات المستقرة المدعومة بالذهب مثل PAX Gold و Tether Gold تجاوزت قيمتها السوقية 1.7 مليار دولار في آب الماضي 2025، وتتيح للمستثمرين تداول الذهب برموز رقمية مرتبطة بأونصات حقيقية محفوظة في خزائن لندن أو سويسرا.

قد يبدو الرقم صغيرًا أمام تريليونات الدولار، لكنه مؤشر رمزي على بداية انتقال الثقة من النقود الورقية إلى الأصول الرقمية المغطاة بالمعدن.

الولايات المتحدة تدرك هذه التحوّلات وتتابعها بقلق، لكنها تراهن على بطء انتشارها. فالدولار محميّ ليس فقط بشبكة الثقة والمؤسّسات، بل أيضًا بسيولة لا يملكها أي أصل آخر. لذلك، فإن السيناريو الأقرب في العقد المقبل هو تآكل تدريجيّ للهيمنة لا انهيار مفاجئ. أي أن الدولار سيبقى العمود الفقري للنظام المالي، لكن إلى جانبه سيولد نظام ذهبي رقمي متنامٍ، تقوده التكنولوجيا والرغبة العالمية في استقلالٍ نقدي أوسع.

وعند تلك اللحظة، لن يكون التحوّل الاقتصادي مجرّد تحوّل تقني، بل حضاري أيضًا: عودة إلى المال الحقيقي بعد قرنٍ من النقود الورقية، ولكن هذه المرة على هيئة بيانات مشفرة تسري في شرايين الاقتصاد العالمي... وذلك هو المعنى العميق الذي قصده "مجلس الذهب العالمي" حين تحدث عن "عصر ذهبي جديد". عصر قد لا يُسقط الدولار دفعة واحدة، وإنما سيبدأ في إزاحته عن عرشه بهدوء.

عماد الشدياق - نداء الوطن

The post "الذهب الرقمي"... هل ينهي هيمنة الدولار؟ appeared first on أخبار الساعة من لبنان والعالم بشكل مباشر | Lebanonfiles | ليبانون فايلز.

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا