
خاص قدس الإخبارية: لم يكن تأسيس الشيخ أحمد ياسين لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) حدثًا عابرًا أو هشًّا، بل كان مشروعًا عقائديًا متجذرًا يقوم على الدم والتضحية والفداء في مواجهة المحتل الصهيوني. ومنذ البداية لم يكن مشروع المقاومة مرحليًا، رغم كل التسويات السياسية والمراحل العصيبة التي مرت بها القضية الفلسطينية.
ففي مرحلة التسعينات، التي أعقبت انتفاضة الحجارة وما تبعها من تسوية سياسية عُرفت بـ"اتفاق أوسلو"، بقيت حركة المقاومة التي أسسها الشيخ أحمد ياسين ثابتة في الميدان، تواجه الاحتلال بمختلف الميادين. ولم تكن منطقة شرق القدس بمعزل عن النضال والمواجهة؛ فقد أسس محمود عيسى من بلدة عناتا شرق القدس أول خلية عسكرية حملت اسم الوحدة الخاصة – 101، وهي وحدة تابعة للجناح العسكري لكتائب عز الدين القسام في منطقة القدس، هدفها أسر الجنود الصهاينة لتحرير الأسرى الفلسطينيين، ومواصلة العمل المقاوم الميداني رغم المسار السلمي الذي قررت منظمة التحرير من خلاله المساومة على البندقية مقابل السلام مع المحتل.
ففي الوقت الذي تنازلت فيه المنظمة عن البندقية، حافظت حماس على خطها النضالي بمعزل عن التسويات المذلة، عبر أبنائها المجاهدين في الميدان.
مسار النضال من الفكرة حتى التطبيق: الوحدة الخاصة 101 تمارس تكليفها الميداني
سار القائد محمود عيسى (أبو البراء) عقب انضمامه إلى صفوف حركة المقاومة الإسلامية – حماس – نحو تأسيس الوحدة الخاصة 101 التابعة لكتائب عز الدين القسام في منطقة شرق القدس.
وفي 13 كانون الأول/ديسمبر 1992 نفذت الوحدة، ضمن خلية أسسها محمود عيسى، عملية اختطاف الجندي نسيم توليدانو قرب مدينة اللد. كان توليدانو رقيبًا أول في جيش الاحتلال، وطالبت الوحدة بالإفراج عن الشيخ أحمد ياسين مقابل إطلاق سراحه. سميت العملية بـ عملية الوفاء للشيخ أحمد ياسين. لكن بعد رفض الاحتلال الإفراج عنه، قامت الوحدة بتصفية الجندي، وبدأ أفرادها رحلة المطاردة، بالتزامن مع استمرار العمل الميداني في مواقع أخرى.
وفي 17 آذار/مارس 1993 نفذت الوحدة عملية عسكرية في مدينة الخضيرة تمثلت بدهس جندي. وبعد أيام قليلة، قتلت شرطيين آخرين في الخضيرة. وبالسلاح الذي استولت عليه من هذه العمليات، صفت الوحدة جنديًا على مفرق "بيلو" في مدينة الرملة بتاريخ 6 أيار/مايو من العام نفسه.
استمرت المطاردة ضد الخلية ستة أشهر كاملة. وفي 3 حزيران/يونيو 1993، اعتُقل القائد القسامي محمود عيسى من منزله في بلدة عناتا، واعتُقل معه رفاقه: ماجد قطيش، موسى العكاري، ومحمود عطون.
عقب الاعتقال بدأت مرحلة جديدة من النضال. خضع محمود عيسى للتحقيق العسكري في "المسكوبية"، ثم نُقل بين سجون الاحتلال المختلفة، إذ صُنف كأحد أخطر الأسرى، ولم يُسمح باستقراره في سجن واحد. وفي النهاية صدر بحقه حكم قاسٍ: ثلاثة مؤبدات و46 عامًا إضافية.
مساره داخل السجن: اعتقال لجسده لا لعزيمته
في حياته داخل الأسر والتنقل بين السجون، لم يتوقف يومًا محمود عيسى عن ممارسة حياته بالعمل النضالي، أو الكف عن التفكير بالحرية مستسلمًا لقرار حكمه المؤبد. بل عمل داخل السجن في صفوف الحركة الأسيرة، وخاض تجربة محاولة التحرير عبر الهروب من سجن عسقلان عام 1996، عبر حفر نفق بطول 10 أمتار أسفل السجن، إلا أن المحاولة لم يُكتب لها النجاح.
فكان ثمن صيرورة تعليمه وإصراره على الحياة والنشاط داخل السجن، العقاب والحرمان من الزيارات العائلية والرقابة المستمرة، بالإضافة إلى سنين من العزل وصلت لمدة 13 عامًا في العزل الانفرادي، عقابًا على نشاطه مع الأسرى وعدم خضوعه لظروف السجن وقوانينه.
وأبرز المعارك التي خاضها كانت الإضراب عن الطعام عام 2012، لمدة 28 يومًا، استطاع من خلالها تحقيق عدة مطالب للأسرى، منها خروجه والأسرى المعزولين من الزنازين الانفرادية.
ورغم كل محاولات العقاب من قبل الاحتلال، إلا أن الثمن لم يكن فقط عقابًا جسديًا بالقمع والتنكيل المستمر والعزل، بل حرمان من الحرية المستحقة. فقد رُفض الإفراج عنه في صفقة شاليط، وكذلك في صفقة تحرير الأسرى عام 2013، ليبقى في سجنه مدة 33 عامًا متواصلات.
الجسد مُعتقل ومقيد ولكن الروح حُرة تبدع رغم السجان
رغم كل السنين والآلام التي مرّ بها القائد القسامي، إلا أنه لم يفقد من عزيمته وحرية روحه شيئًا. فخلال سنوات أسره، ومع كل التقييدات التي فُرضت عليه وحملات التنكيل التي لاحقته، استطاع أن يمارس حرية روحه الوطنية عبر جسده المعتقل قسرًا.
تمكّن من استكمال مراحل دراسته، والانغماس في المجال الثقافي والأكاديمي الذي لم يُتمه كشاب جامعي قبل اعتقاله بسبب انضمامه إلى صفوف كتائب عز الدين القسام. وخلال فترات أسره، دأب على الكتابة والإنتاج، فكانت له إسهامات غنية تعكس شخصيته الصابرة الوفية لفكرة المقاومة من أجل التحرير والكرامة.
فألف كتاب المقاومة بين النظرية والتطبيق الذي صدر عام 2000، ثم رواية حكاية صابر التي اعتُبرت بمثابة سيرته الذاتية وصدرت عام 2012، كما ألّف كتاب عِبر لمن يعتبر.. أقاصيص من التاريخ في العام نفسه. وفي عام 2013 أصدر مجموعة قصصية بعنوان وفاء وغدر، ثم تأملات قرآنية عام 2014، ونظرية المؤامرة في القرآن الكريم عام 2015. وبعدها كتب دراسة نقدية لكتاب الأمير لمكيافيلي بعنوان السياسة بين الواقعية والشرعية التي صدرت عام 2016، وأخيرًا أصدر رسالة الوسطية في الجهاد والفكر والتربية عام 2018.
طوفان الأقصى والحرية الحتمية بعد سنين انتظار
بتاريخ 7 تشرين الأول عام 2023 نفذت المقاومة الفلسطينية، متمثلة بحركة المقاومة الإسلامية (حماس) العبور العظيم عبر اجتياز حدود المستوطنات المحيطة بقطاع غزة، بعملية وطنية تهدف إلى تحرير الأرض وتحرير الأسرى. كانت العملية جزءًا من الصيرورة الفكرية والتطبيقية لمشروع المقاومة المسلحة، باعتبارها الهدف الأساسي لتحرير فلسطين من الاحتلال.
وجاءت العملية في أكثر الظروف التي شهدت فيها القضية الفلسطينية محاولات محو وتطبيع لوجود الاحتلال، فكانت عملية طوفان الأقصى المتمثلة بالعبور المقاوم، مرحلة زمنية انتشلت القضية الفلسطينية من حضيض الانهيار إلى سلم أولويات الضمير الإنساني من أجل تحرير فلسطين. وخلالها تم أسر العديد من المستوطنين والجنود، في خطوة كان هدفها الأول تحرير الأسرى، وخاصة أصحاب الأحكام المؤبدة؛ أي حرية تُنتزع بشروط المقاومة وفاءً لأبنائها ومقاتليها الذين بذلوا أعمارهم فداءً لفكرة التحرير.
وعقب عامين متواصلين من حرب الإبادة التي شنها الاحتلال ردًا على الطوفان، استطاعت المقاومة أن تنتزع حرية أكبر عدد من الأسرى المحكومين بالمؤبد مدى الحياة. كانت تلك ملحمة خاضها قطاع غزة بشعبه ومقاومته، وقدّم خلالها التضحيات في سبيل الفكرة الأساسية التي تؤكدها أبجديات النصر: أن الحرية لا تأتي بلا ثمن.
وفي صفقة الطوفان الثالثة كان محمود عيسى ممن انتزعوا حريتهم بعد سنين الأسر، بفضل نضالات وتضحيات أبناء الياسين الذين أسسوا فكرة المقاومة، والتي ظل محمود وفيًا لها دون اعتراض. فجاءت حريته بتاريخ 13-10-2025 جزءًا من صيرورة مشروع المقاومة العقائدي الذي أسسه الشيخ أحمد ياسين، وهو ذات المشروع الذي قاد اليوم إلى الوفاء للأسرى المحررين.
فهكذا تتجسد أبجديات النصر في سيرة أبناء الياسين، حيث يلتقي الوفاء بالعقيدة، والصبر بالعطاء. لم تكن حرية محمود عيسى منحة، بل انتزاعًا بدماء الشهداء وتضحيات المجاهدين، لتؤكد أن الحرية لا تُهدى بل تُنتزع. وتبقى قصته شاهدًا على أن روح المقاومة لا تُكسر، وأن أبناء الياسين يوفون دائمًا دين الحرية.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا