Skip to main content
14 تشرين الأول 2025
سياسة

أسئلة "الحكاية"؟

Published On 14/10/202514/10/2025|آخر تحديث: 19:09 (توقيت مكة)آخر تحديث: 19:09 (توقيت مكة)

حفظ

حكواتي من غرب أفريقيا، 1904 (غيتي)

(1)

هل تتذكر أول حكاية سردتها أنت لأحد؟

لا أظن، ولا أنا أذكر، فمنذ أن أدركنا النطق ونحن نحكي، كل بطريقته، كطبيعة إنسانية خلقها الله فينا، فالحكاية وسيلتنا البدائية والأساسية لفهم العالم، ولحفظ ذاكرتنا من النسيان.

لكن ما وقع مؤخرا، غيّر المعادلة قليلا أو ربما كثيرا، ففي عصر المنصات والذكاء الاصطناعي أصبح كل شيء يتغير، حتى الحكاية.

(2)

من يملك الحكاية على منصات التواصل؟

في ظاهر الأمر فإن كل منا يملك أن يحكي حكايته، لكن في الواقع هناك الخوارزميات، وهناك الجمهور، وهناك الرعاة، أي أن الحكاية اليوم تخضع لنظام ملكية هجين ومعقد، يبدو فيه ظاهريا أن كل مستخدم يملك حكايته الشخصية، لكن الواقع ليس كذلك.

الخوارزميات تمتلك القدرة على تحديد مصير كل حكاية، من يراها، متى تظهر، وكيف تنتشر. هذا يعني أن المنصات تملك "مفاتيح الرؤية"، وهي قوة أساسية في عالم السرد، ثم هناك الجمهور الذي يشارك في تشكيل الحكاية عبر التفاعل والتعليق والمشاركة، مما يجعل كل حكاية عملا تشاركيا بشكل لا واعٍ، والمعلنون أيضا يملكون تأثيرا غير مباشر من خلال تمويل المحتوى الذي يخدم أهدافهم التجارية.

في النهاية، نحن أمام وهم الملكية الفردية، بينما الحكاية تخضع لشبكة من المصالح والقوى التي تتجاوز الراوي الأصلي، هذا التوزيع للسلطة يخلق نوعا جديدا من الرقابة اللامرئية، حيث تُشذب الحكايات وتُعدل وفقا لمعايير الانتشار والربحية.

(3)

هل طورت المنصات الحكاية أم هزمتها؟

تتعرض الحكاية في زماننا لضغوط تجبرها على إعادة تعريف مكوناتها الأساسية، البداية والوسط والنهاية، فالبداية صار لزاما أن تكون خاطفة ومثيرة في الثواني الأولى، وإلا فقدت المشاهد. أما الوسط فقد تحول إلى لحظة ذروة مكثفة، فيما النهاية صارت نقطة تأثير سريعة أو twist مفاجئ. هذا التطور خلق أشكالا سردية جديدة مثل القصة المصورة (stories)، الحكاية المتسلسلة عبر عدة منشورات، والسرد التفاعلي، حيث الجمهور يشارك في تحديد مسار القصة.

إعلان

الحكاية بالتأكيد لم تختفِ، لكنها تفككت إلى وحدات صغيرة قابلة للاستهلاك السريع، وفي ظل ذلك فقدت الحكاية التعقيد النفسي، والتطور التدريجي للشخصيات، والعمق الفلسفي، بعد أن أصبحت تعتمد على الإيحاء والرمز أكثر من التفصيل، وعلى الصدمة أكثر من التأمل. إنها رواية البرق، تضيء لحظة ثم تتركنا في عتمة أطول.

(4)

هل ضاع الصوت الفردي؟

في الماضي، كان الصوت الفردي يتطور عبر سنوات من التجربة والكتابة، لكنه اليوم يمكن أن يتشكل ويتغير في أسابيع، والمشكلة الكبرى أن هذا الصوت صار يتأثر بشدة بردود الأفعال الفورية والخوارزميات.

الصوت الفردي اليوم يواجه تحديات جديدة، مثل الحاجة للتكيف مع منصات متعددة، كل منها له قواعده وجمهوره. هذا يعني أن نفس الشخص قد يطور "أصواتا" مختلفة: صوتا على "إكس"، آخر على "إنستغرام"، وثالثا على "تيك توك".

لكن هناك أيضا ديمقراطية جديدة في الصوت، حيث يمكن لأصوات كانت مهمشة أن تجد منابرها. المشكلة في التشابه المتزايد بين الأصوات؛ بسبب الخوارزميات التي تكافئ أنماطا معينة من المحتوى، مما يدفع الجميع نحو المحاكاة. الصوت الفردي موجود، لكنه يصارع للحفاظ على تفرده وسط ضغط التوحيد الخوارزمي.

(5)

ما الفرق بين من يحكي ومن يوثق؟

الحكاية تتطلب تدخلا واعيا في المادة الخام، إعادة ترتيب الأحداث، اختيار زاوية نظر معينة، وإضافة طبقات من المعنى. الحكاية تسعى لتحويل الواقع إلى تجربة قابلة للنقل والفهم، وهي تتضمن قدرا من الخيال والتأويل.

التوثيق، من ناحية أخرى، يسعى للحفاظ على الأحداث كما وقعت، مع أقل قدر من التدخل. الموثق يحاول أن يكون شاهدا أمينا، بينما "الحكواتي" يسعى لأن يكون مفسرا ومُعيدا تشكيل التجربة.

لكن الحدود تتداخل بشكل معقد على المنصات الاجتماعية. كل منشور يحمل طابع التوثيق (هذا ما حدث لي)، والحكاية (هكذا أريدكم أن تروا ما حدث). الفلاتر والزوايا والاقتصاص كلها أدوات حكاية، حتى لو ادعى صاحبها أنه يوثق.

الفرق الحقيقي يكمن في الوعي والنية، فـ"الحكواتي" يعترف بتدخله ويستخدمه كأداة فنية، بينما الموثق يسعى لإخفاء هذا التدخل. لكن في عالم وسائل التواصل، الحدود أصبحت أكثر ضبابية، وربما هذا جزء من سحر وخطورة هذه المنصات.

(6)

هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن "يشعر" بالنهاية؟

الذكاء الاصطناعي يُحاكي النهايات بناء على أنماط تعلمها من آلاف النصوص، لكنه لا يملك "المشاعر" التي تحرك الإنسان. النهاية في الحكاية الإنسانية تحمل معنى الموت والولادة والتطهير، وهي تأتي من فهم عميق لدورة الحياة والمعنى.

الذكاء الاصطناعي يُنتج نهايات "تقنية" تُرضي المنطق السردي، لكنها تفتقر للرعشة الإنسانية. يمكنه أن يحدد أن القصة تحتاج لنهاية مفتوحة أو مغلقة، حادة أو ناعمة، لكنه لا يشعر بالحاجة الروحية للوصول لتلك النهاية.

هذا لا يعني أن نهايات الذكاء الاصطناعي سيئة، بل إنها تأتي من مكان مختلف. إنها نهايات حسابية، مبنية على احتمالات وأنماط، بينما النهايات الإنسانية تأتي من مكان أعمق، من الخوف والأمل والحاجة للمعنى.

المثير أن الذكاء الاصطناعي قد يساعد البشر في اكتشاف نهايات لم يفكروا بها، لكنه لن يستطيع أن يحل محل الحدس الإنساني في معرفة متى تكون النهاية "صحيحة" على المستوى الروحي والعاطفي.

(7)

كيف يرى الراوي الكلاسيكي نفسه في عالم الذكاء الاصطناعي؟

ذاك الراوي يواجه أزمة هوية حقيقية وتحديا وجوديا. هو يملك عمق التجربة الإنسانية، والحدس المُكتسب من سنوات العيش والملاحظة، والقدرة على التقاط الفروقات الدقيقة في المشاعر والمواقف. لكنه يفتقر لسرعة الإنتاج والقدرة على التكيف مع الأشكال الجديدة.

إعلان

قد يرى نفسه كحارس للذاكرة في مواجهة آلة النسيان، أو كحرفي ماهر في عالم الإنتاج المُصنّع. هناك شعور بالفخر والقلق في آن واحد، فخر بامتلاك شيء لا يمكن تكراره آليا، وقلق من أن هذا الشيء قد يفقد قيمته في السوق.

بعض الرواة الكلاسيكيين يتبنون موقفا دفاعيا، مؤكدين على تفوق الإبداع الإنساني، بينما آخرون يسعون للتعاون مع الذكاء الاصطناعي كأداة تساعدهم. هناك أيضا من يرى في هذا التحدي فرصة لإعادة تعريف دور الراوي، من مُنتج للمحتوى إلى مُرشد ومُفسر ومُعطي معنى.

التحدي الأكبر أن الراوي الكلاسيكي يجب أن يُبرر وجوده بطرق جديدة، أن يُظهر قيمة مضافة لا يمكن للآلة توفيرها. هذا يدفعه للتعمق أكثر في الجوانب الإنسانية للحكاية، وربما يجعله راويا أفضل.

(8)

ما الذي بدأ في الاندثار في زمن التوليد؟

على مستوى القصص الإخبارية التلفزيونية القصيرة التي كنت أقدمها، كنت أعيش مع كل واحدة تجربة إنسانية لذيذة، أفكر كيف يمكن أن أحكي الحكاية، ومن أين أبدأ، وأين أنتهي، إلى آخر شروط الحكاية، لذلك فإن المدهش الآن هو أن ما يندثر ليس الإبداع نفسه، بل الطقوس والظروف التي تُولد الإبداع. نحن نفقد الصمت الذي يسبق الكلام، والفراغ الذي يُولد الحكاية، والألم الذي يُعطي للسرد معناه وضرورته.

البطء يندثر، ذلك البطء الضروري للتأمل والهضم والتخمير. الحاجة للحكي تتراجع لأن الحكاية صارت متاحة بلا جهد، وبذلك نفقد قدسية الحكاية ووظيفتها العلاجية والتطهيرية.

الخطأ والمحاولة يندثران أيضا، فالذكاء الاصطناعي يُنتج نصوصا "صحيحة" من المحاولة الأولى، بينما الإبداع الإنساني يحتاج للتجريب والفشل والتعلم. هذا يعني أننا نفقد المسار، والمسار جزء من القيمة.

الصدفة والمفاجأة تتراجعان أيضا، فالخوارزميات تعتمد على الأنماط والتوقعات، بينما الإبداع الحقيقي يأتي من اللامتوقع. نحن نفقد "الحوادث السعيدة" في الكتابة، تلك اللحظات التي تأتي فيها الفكرة من مكان لم نتوقعه.

نحن نفقد الحاجة للمعنى، فالإنتاج الغزير للمحتوى يخلق وهما بأن كل شيء قد قيل، وأن لا حاجة للبحث عن معانٍ جديدة. الكثرة تقتل الندرة، والندرة جزء من قيمة الحكاية.

(9)

في النهاية، فإن الحكاية لا تموت، لكنها تتبدل وجوهها، قد تكتبها الخوارزميات، وتختصرها المنصات، وتجمّلها الفلاتر، لكنها تظل بحاجة إلى إنسان يسأل: لماذا نحكي أصلا؟

فربما لا تُنقذ الحكاية العالم، لكنها- كما قال والتر بنيامين- تجعل العالم قابلا لأن يُروى، وهذه وحدها بداية النجاة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا