Skip to main content

أزمة العقل السياسي الليبي المعاصر.. التاريخ والجذور

22 كانون الأول 2024
سياسة

أزمة العقل السياسي الليبي المعاصر

22/12/2024-|آخر تحديث: 22/12/202403:36 ص (بتوقيت مكة المكرمة)
محمد إدريس السنوسي آخر ملوك ليبيا (مواقع التواصل الاجتماعي)

يمكن التأريخ للعقل السياسي الليبي في التاريخ المعاصر مع قيام الدولة القرمانلية سنة 1711، على يد مؤسسها أحمد باشا القرمانلي، الذي ينحدر من أصول عثمانية (قرمان)، وهي كلمة تشير إلى سلاح الفرسان، وهو اللقب الذي يعود إلى جده الثالث، الذي كان يعمل جنديًا في البحرية العثمانية.

عاش أحمد القرمانلي كضابط كبير في الحامية العثمانية، وتميز بالقوة والشجاعة، إلى جانب شخصية عسكرية قيادية نالت احترام القيادة العثمانية. في الوقت نفسه، أثار الخشية من قِبل الضباط الكبار المتصارعين على السلطة في الولاية (ولاية طرابلس الغرب).

صراع الباشوات في ولاية طرابلس

كان الصراع السياسي محتدمًا بين الباشوات العثمانيين في طرابلس، مما أدى إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي انعكست سلبًا على الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وأثرت في شعور السكان المحليين من تجار وشيوخ قبائل ووجهاء وعلماء الدين. دفعهم ذلك إلى الانخراط في المعترك السياسي والمشاركة بصورة أو بأخرى لتحسين الوضع السياسي في الولاية، لتسود حالة من الهدوء والاستقرار في بلاد تعيش مرحلة فوضى كبيرة أثرت على الحياة العامة في كل مجالاتها.

قام أهالي المنشية والساحل، من الموالين لأحمد باشا، بالدعوة إلى تنصيبه حاكمًا على الولاية. وساعدوه على محاصرة المدينة التي كان له فيها مؤيدون ومناصرون، ما مكّنه من دخول قلعة المدينة. بعد ذلك، عقد الديوان اجتماعًا قرر فيه الطرابلسيون عدم قبول الباشا الموفد من السلطان العثماني، وأبلغوا السلطان رغبتهم في تنصيب أحمد باشا حاكمًا، ورفضهم ولاية خليل باشا عليهم.

إعلان

وهذا التحرك السياسي، الذي قام به أهالي طرابلس بدعم من الديوان والأعيان، يعد الخطوة السياسية الأولى في تاريخ الفكر والعمل السياسي في ليبيا الحديثة، وأول لبنات تكوين العقل السياسي الليبي.

تمخض ذلك عن اختيار حاكم وفرضه على الحكومة المركزية في إسطنبول، التي استسلمت للأمر الواقع واضطرت في وقت لاحق إلى الاعتراف باختيار الساسة الليبيين لحاكم البلاد، وإن كان على غير رغبة منها. وبذلك فرض الليبيون إرادتهم السياسية على السلطة العثمانية، وهو ما يُعدّ نجاحًا سياسيًا وتقدمًا كبيرًا بمعايير السياسة والسلطة في ذلك الوقت (1711)، استمر حكم ولاية طرابلس الغرب وراثيًا في سلالة أحمد باشا إلى سنة (1835)، بعودة الحكم العثماني المباشر للولاية.

الدستور العثماني ومجلس (المبعوثان)

بعد صدور الدستور العثماني سنة 1876، مُنحت طرابلس حق التمثيل النيابي الذي عرف بمجلس (المبعوثان). ونظرًا لضيق الوقت وعدم القدرة على إقامة الانتخابات، جرى تعيين نائبين عن طرابلس من قِبل الوالي ومجلس إدارة الولاية في الدورة الأولى.

وفي الدورة الثانية سنة 1877، تم استبدال أحد النائبين وبقي الآخر. وجرى الطعن في هذا الإجراء وقُبل الطعن من الأستانة، مع الموافقة على إجراء الانتخابات، التي أيدها المواطنون بعريضة موقعة من ألفي شخص تحت إشراف المجلس البلدي. وعلق الكاتب الإيطالي إتوري روسي في كتابه ليبيا منذ الفتح العربي حتى سنة 1911: "وتستحق هذه الواقعة أن نقف عندها، لأنها تدل على الحرية التي كانت تُجرى بها الانتخابات".

أول جمعية سياسية سرية

في أواخر العهد العثماني وقبيل الغزو الإيطالي لليبيا، ومع احتلال فرنسا لتونس، تصاعدت مشاعر القلق في ولاية طرابلس. أنشأ مجموعة من الشباب، يزيد عددهم عن عشرة أفراد من شرق الولاية وغربها (طرابلس وبرقة) جمعية سياسية سرية.

كان لهذه الجمعية برنامج عمل واضح حمل اسم "فوائد ونصائح"، شرح أهداف الجمعية، ومنها:

إعلان
  • إصلاح أوضاع الولاية من خلال تطوير نظام التعليم.
  • توعية الأهالي بمخاطر الاستعمار الأوروبي، وخاصة الأطماع الفرنسية والإيطالية في الاستيلاء على الولاية.
  • دعوة القبائل في ربوع البلاد إلى التصالح ونبذ الفرقة.
  • تجنب الصدام مع الدولة العثمانية للاتحاد في مواجهة الخطر المحدق بالبلاد.

استخدم أعضاء الجمعية كل الوسائل المتاحة في ذلك الوقت من مساجد وصحافة وتجمعات ثقافية للتعريف بأهدافها ونشر الوعي لدى الأهالي. وهذا ما سهَّل على الحكومة اكتشاف نشاط الجمعية السياسي، واقتياد أعضائها إلى المحكمة بتهمة تشكيل "جمعية فساد في البلاد وتعريض نظامها للخطر". وصُدرت في حقهم أحكام تتفاوت بين النفي من البلاد والسجن، وأُفرج عن بعضهم.

يُعدّ نشاط هذه الجمعية أول تجربة للعمل السياسي السلمي في تاريخ ليبيا الحديث، وقد أخذ الطابع السري نتيجة لطبيعة النظام وما يفرضه من قيود على العمل السياسي، وما يتعرض له من يمارسه من سجن ونفي وتضييق. وقد ساهمت هذه التجربة في تكوين العقل السياسي الليبي، سواء من الحكام أو من النخب الثقافية التي اعتنت بالسياسة وسعت للإصلاح والتغيير، وقد أصبح القمع والتضييق سمة بارزة للتعامل مع العقل السياسي الليبي، وهو المنهج الذي استمر بصورة متفاوتة نسبيًا وأثر في مسارات تطور العقل السياسي الليبي.

العمل السياسي ومقاومة الغزو الإيطالي

ظهرت بوادر العمل الذي تفتق عنه العقل السياسي الليبي الجمعي من خلال بروز قادة سياسيين في ولاية طرابلس، الذين تفطنوا مبكرًا للأطماع الإيطالية في طرابلس. تمثلت تلك الأطماع في التمهيد لغزوها مع بدايات العقد الأول من القرن العشرين، من خلال البعثات الاستكشافية والإرساليات الاستخباراتية تحت غطاء الجمعيات الاستكشافية، ومن خلال مشاريع اقتصادية، مثل فروع بنك روما في طرابلس وبنغازي.

كانت ردة فعل الساسة في ولاية طرابلس من خلال تقديم عرائض تحذير وتنبيه لوالي طرابلس العثماني، وعقد اجتماعات مكثفة في بعض المدن للتحذير من نشاط البنك ودوره في الاستحواذ على الأراضي. كان البنك يقدم القروض بشروط مجحفة تؤدي إلى عجز المقترض المحلي عن السداد، فتقع الأرض المرهونة تحت ملكية البنك الإيطالي.

إعلان

كما نشط الساسة الليبيون في مقاومة التغلغل الإيطالي من خلال الكتابة في الصحف المحلية والعربية للتحذير من مغبته، وإعداد المواطنين وإدارة الولاية للاستعداد لمقاومة الغزو العسكري الوشيك الذي كانت تُعد له الحكومة الإيطالية، والذي بدأ بإعلان الحرب على الدولة العثمانية في سبتمبر/ أيلول 1911، ثم غزو طرابلس في أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه.

تحول نمط العمل في العقل السياسي الليبي إلى مرحلة جديدة، تمثلت في مقاومة الاستعمار وفق سياسة الجمع بين خطين متوازيين ومتلازمين، هما: المقاومة العسكرية، والعمل السياسي المستفيد من نتائج العمل العسكري، خلال فترة الاحتلال الإيطالي التي امتدت من عام 1911 إلى فترة الحرب العالمية الثانية، وخروج الطليان من ليبيا، ودخول قوات الحلفاء عام 1942، برفقة جيش التحرير المصاحب لهم من أبناء المهجرين الليبيين في مصر، تحت قيادة الأمير محمد إدريس السنوسي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا