سباق نحو المستقبل.. النقل الآني للمعلومات يعزز جهود بناء “الإنترنت الكمي”

شهد مجال الاتصالات الكمومية تطورًا مهمًا يُبشر بمستقبل واعد للإنترنت الكمي، إذ تمكن باحثون في جامعة (نورث وسترن) Northwestern الأمريكية من إثبات إمكانية إجراء (النقل الكمي الآني) Quantum Teleportation للمعلومات عبر مسافات بعيدة بنجاح دون الحاجة إلى ابتكار تقنيات مستقبلية غير متوفرة حاليًا.

فقد تمكن الباحثون من إيجاد طريقة لجعل (النقل الكمي الآني) ممكنًا من خلال الشبكات الحالية، وخاصة شبكات الألياف الضوئية، التي تشكل العمود الفقري لمعظم أنظمة الاتصالات الحديثة، مع إجراء بعض التعديلات والتطويرات اللازمة.

وتشير الدراسة التي نُشرت في مجلة (Optica) العلمية إلى أن هذا الإنجاز سيفتح آفاقًا جديدة نحو إدماج الاتصالات الكمومية في البنية التحتية الحالية للإنترنت، مما يمهد الطريق لتطوير شبكات اتصال فورية وأكثر كفاءة وأمانًا دون الحاجة إلى إنشاء شبكات مخصصة.

ولكن ما (النقل الكمي الآني)، وكيف تمكن الباحثون من التغلب على التحديات السابقة وتحقيق هذا الإنجاز، وما أهميته وتطبيقاته المستقبلية؟

الحوسبة الكمية:

لقد استحوذت الحوسبة الكمية (Quantum Computing) خلال السنوات الأخيرة على اهتمام الباحثين والشركات التقنية على حد سواء، إذ يُنظر إليها على أنها فرصة واعدة لتحقيق قفزة نوعية في معالجة البيانات المعقدة للغاية، وإنجاز هذه المعالجة في أوقات قياسية.

ويكمن الاختلاف الجوهري بين الحواسيب الكمية والحواسيب التقليدية – الموجودة في المنازل والشركات حاليًا – في طريقة تمثيل البيانات ومعالجتها، إذ تعتمد الحواسيب التقليدية على النظام الرقمي الثنائي، الذي يُقيس البيانات بوحدة تُسمى (البت) Bit، وهي أصغر وحدة لقياس حجم البيانات حاليًا، ويحمل (البت) قيمة واحدة فقط من اثنتين: إما صفر (0) أو واحد (1)، ولا يمكنه حمل القيمتين معًا في الوقت نفسه، ويحد هذا القيد من قدرة الحواسيب التقليدية على معالجة بعض المشكلات المعقدة.

في حين تستخدم الحواسيب الكمية وحدة قياس مختلفة للبيانات تُعرف باسم (الكيوبت) Qubit، ويتميز الكيوبت بقدرته الفريدة على حمل قيمة واحدة (0 أو 1) أو حمل القيمتين معًا في الوقت نفسه، وهذا هو السر وراء قوة الحواسيب الكمية وقدرتها على معالجة كميات ضخمة من البيانات في غضون ساعات قليلة، في حين أن أقوى الحواسيب التقليدية قد يستغرق سنوات طويلة لإنجاز المهمة نفسها.

النقل الكمي الآني:

يعتمد (النقل الكمي الآني) Quantum Teleportation على ظاهرة فيزيائية كمومية تُعرف باسم (التشابك الكمي) Quantum Entanglement، وفي هذه الظاهرة، يرتبط جسيمان أو أكثر ارتباطًا وثيقًا، بحيث تصبح خواصهما الكمومية مترابطة، بغض النظر عن المسافة التي تفصل بينهما.

ويعني هذا أن قياس حالة أحد الجسيمين يؤثّر بشكل فوري في حالة الجسيم الآخر، حتى لو كانا على بُعد ملايين الكيلومترات، وفي سياق النقل الكمي الآني، لا يُنقل الجسيم نفسه فعليًا، بل تُنقل الحالة الكمومية التي يحملها.

وبينما تتكون الاتصالات الكلاسيكية من ملايين جزيئات الضوء، تستخدم الاتصالات الكمومية أزواجًا من الفوتونات الفردية (جزيئات الضوء) المتشابكة. وقد كان الاعتقاد السائد بين الباحثين سابقًا هو أن هذه الفوتونات الفردية ستواجه صعوبة بالغة في المرور عبر قنوات الاتصال الكلاسيكية المزدحمة، التي تنقل ملايين الفوتونات في الوقت نفسه، وقد جرى تشبيه هذا الوضع بدراجة نارية صغيرة تحاول شق طريقها بين شاحنات ضخمة في نفق مزدحم.

ولكن تمكن فريق الباحثين في جامعة نورث وسترن في الولايات المتحدة، وبتمويل من وزارة الطاقة الأمريكية، من إيجاد حل لهذه المشكلة، وقد تمحور عمل الفريق حول دراسة كيفية انتشار الضوء داخل كابلات الألياف الضوئية.

تجربة عملية:

أجرى الفريق البحثي تجربة على كابل ألياف ضوئية يبلغ طوله 30 كيلومتر، إذ أرسلوا معلومات كمومية، باستخدام فوتونات مفردة، بالتزامن مع حركة مرور إنترنت تقليدية تتكون من ملايين جزيئات الضوء.

وكان التحدي الرئيسي هو ضمان عدم تداخل الفوتونات المفردة الحاملة للمعلومات الكمومية مع الكم الضخم من الجزيئات الضوئية في حركة المرور التقليدية، وقد تغلب الباحثون على هذا التحدي من خلال:

  • اختيار الطول الموجي الأمثل: اختار الباحثون طول موجي محدد للضوء يكون فيه التداخل مع حركة المرور التقليدية أقل ما يمكن، مما سهل مرور الفوتونات الكمومية.
  • استخدام مرشحات خاصة: استخدم الباحثون مرشحات خاصة لتقليل الضوضاء والتداخل الناتج عن حركة الإنترنت العادية داخل الكابل، مما حافظ على جودة الإشارة الكمومية.

وقد أظهرت نتائج التجربة نجاحًا مبهرًا، إذ انتقلت المعلومات مع الحفاظ على جودة المعلومات الكمومية بشكل جيد في الطرف المُستقبل، على الرغم من وجود حركة إنترنت مزدحمة تمر عبر الكابل في الوقت نفسه. ويُعدّ هذا الإنجاز خطوة مهمة نحو تطوير شبكات اتصالات كمومية عملية وقابلة للتطبيق على نطاق واسع، إذ يُمكن استخدام البنية التحتية الحالية للشبكات مع إجراء بعض التعديلات.

وقد صرح البروفيسور بريم كومار، من جامعة نورث وسترن في الولايات المتحدة، وقائد الفريق البحثي، قائلًا: “هذا الأمر مثير للغاية لأنه لم يعتقد أحد أنه ممكن”.

وأضاف كومار: “يُظهر عملنا مسارًا نحو شبكات الجيل التالي الكمومية والكلاسيكية التي تتشارك في بنية أساسية موحدة للألياف الضوئية. في الأساس، يفتح الباب لدفع الاتصالات الكمومية إلى المستوى التالي”.

وقد أشار البروفيسور جيم الخليلي، الفيزيائي والكاتب والمذيع  العراقي البريطاني، الذي لم يشارك في الدراسة مباشرة، في حديثه مع مجلة (BBC Science Focus)، إلى أهمية هذه الإنجاز وتزامنه مع إعلان الأمم المتحدة عام 2025 هو العام الدولي لعلوم وتكنولوجيا الكم.

وأوضح البروفيسور الخليلي أن النقل الكمي الآني قد تم إثباته من قبل، ولكن ضمن ظروف مختبرية محكمة ودقيقة للغاية، وتكمن المشكلة الرئيسية في أن الجسيمات المتشابكة كميًا، التي تستخدم لنقل المعلومات من بُعد، تصبح متشابكة بسرعة مع أي شيء آخر على طول مسارها، مما يؤدي إلى فقدان المعلومات الكمومية.

ويُعدّ هذا الإنجاز العلمي بحسب الخليلي، أول عرض توضيحي للنقل الكمي للفوتونات المتشابكة عبر الألياف الضوئية المزدحمة التي تحمل حركة الاتصالات التقليدية.

أهمية الإنجاز وتطبيقاته المستقبلية:

  • الجيل القادم من الشبكات: يمهد هذا الاكتشاف الطريق نحو تطوير شبكات الجيل القادم الكمومية والكلاسيكية التي تشترك في بنية أساسية موحدة، مما يعزز كفاءة الاتصالات وسرعتها.
  • التشفير الكمي: يمكن استخدام النقل الكمي الآني في تطوير أنظمة تشفير فائقة الأمان يصعب اختراقها.
  • تطوير الإنترنت الكمي: قد يساهم هذا الاكتشاف في بناء الإنترنت الكمي هو مفهوم ثوري يهدف إلى استخدام مبادئ ميكانيكا الكم لإنشاء شبكة اتصالات أكثر قوة وأمانًا من الإنترنت الحالي.

الفرق بين الإنترنت الحالي والإنترنت الكمي:

الإنترنت الحالي

الإنترنت الكمي

وحدة المعلومات

البت ( 0 أو واحد).

الكيوبت (0 و 1 في الوقت نفسه).

مبدأ العمل

قوانين الفيزياء الكلاسيكية.

قوانين ميكانيكا الكم (التراكب والتشابك).

الأمان

عرضة للاختراق باستخدام الحواسيب القوية.

أمان فائق بسبب قوانين الفيزياء الكمومية التي تجعل اعتراض المعلومات أمرًا بالغ الصعوبة.

التطبيقات الحالية

تصفح الويب، البريد الإلكتروني، نقل الملفات، وغيرها الكثير.

لا يزال قيد التطوير، تطبيقات محتملة في مجالات الاتصالات الآمنة والحوسبة الكمومية الموزعة.

الخطوات المستقبلية:

يخطط الفريق البحثي في جامعة نورث وسترن بقيادة البروفيسور كومار لاختبار النقل الكمي الآني على مسافات أطول، بالإضافة إلى تجربة استخدام زوجين من الفوتونات المتشابكة بدلًا من زوج واحد، وسيؤدي ذلك إلى تحقيق إنجاز آخر في النقل الكمي الآني يُعرف باسم تبادل التشابك (Entanglement Swapping)، وهي عملية يحدث فيها تشابك جسيمين لم يتفاعلا من قبل، وهو أمر مهم لتحسين جودة الإرسال وأمانه.

وتتمثل الخطوة الأخيرة للفريق في اختبار كل شيء في كابلات أرضية حقيقية، وهي الخطوة النهائية قبل إدماج هذه التقنية بالكامل في شبكات الاتصالات الحالية.

تم نسخ الرابط
تابعنا