الدولة العميقة في سوريا.. حقيقة أم مبالغة؟
- محمود سلطانكاتب وصحفي مصري
في مقابلة مع The Hill أُجريت عام 2017 قبل عدة أسابيع من تنصيب ترامب، وصف زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ـ آنذاك ـ تشاك شومر ترامب بأنه "غبيٌ حقًا" لانتقاده المتكرر لوكالة المخابرات المركزية، قائلًا: "اسمح لي أن أخبرك، عندما تهاجم مجتمع الاستخبارات، لديهم ست طرق للانتقام منك". واعتبر العديد من المعلقين، وكذلك اتحاد الحريات المدنية الأميركية هذا البيان دليلًا على وجود ما يسمّى بـ"دولة عميقة".
ويعتقد على نطاق واسع، أن مصطلح "الدولة العميقة"، صاغته تجربة الصراعات السياسية على السلطة بتركيا، في تسعينيات القرن العشرين، ولكن بدأ استخدامه للإشارة إلى "الحكومة الموازية" في الخبرة الأميركية، بما في ذلك أثناء تجربة أوباما.
بيد أن تقارير صحفية أميركية تواترت على أنّ لهذا المصطلح سوابق تعود إلى خمسينيات القرن العشرين على الأقل، بما في ذلك مفهوم المجمع الصناعي العسكري الذي يفترض وجود عصابة من الجنرالات ومقاولي الدفاع الذين ينتفخون ثراءً من خلال دفع البلاد إلى حروب لا نهاية لها.
وتشير استطلاعات الرأي التي أجرتها أيه بي سي نيوز عام 2017، وشبكة سي إن إن عام 2018 إلى أن ما يقرب من نصف الأميركيين يؤمنون بوجود دولة عميقة في الولايات المتحدة.
إعلانووَفقًا لنظرية المؤامرة السياسية الأميركية، فإن الدولة العميقة هي شبكة سرية من أعضاء الحكومة الفدرالية (خاصة داخل مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة المخابرات المركزية)، يعملون بالاشتراك مع كيانات وزعماء ماليين وصناعيين رفيعي المستوى، لممارسة السلطة جنبًا إلى جنب مع أو داخل حكومة الولايات المتحدة المنتخبة، وذلك بحسب إفادة الصحفي الأميركي أوسنوس إيفان في النيويوركر.
ويصف الناشط الأميركي في مجال حقوق الإنسان جون إيبنر الدولة العميقة بأنها " عالم سفلي غامض حيث تعمل عناصر قوية داخل الدولة، وخاصة الأجهزة العسكرية والأمنية، بالاشتراك مع جماعات متطرفة عنيفة.. فضلًا عن العالم السفلي الإجرامي غير السياسي، للقيام بعمليات خاصة غير قانونية لصالح النخبة الحاكمة في البلاد.
وفي منطقة الشرق الأوسط، ولعقود من الزمن، كان مصطلح "الدولة العميقة" يُطلق على تركيا على وجه التحديد، وكان ذلك إشارة إلى الجيش التركي وجهوده لإبطاء انتشار الديمقراطية هناك، كما استخدم لاحقًا في دول الربيع العربي، إذ يُعتقد أن تحالف القوى الأمنية والمؤسسات الخشنة، استعاد السلطة، بعد أن كادت أقرب ما تكون إلى يد المناضلين السياسيين من أجل الديمقراطية.
في السياق، فإن ثمة مخاوف مشروعة تستدعي، تجارب دول الربيع، كلما تطرق الحديث إلى سوريا بعد هروب الأسد، وما إذا كان "العالم السفلي/الدولة العميقة" التي ظلت العائلة الحاكمة، تؤسس لها وتتضخم مثل الورم في كل مفاصل الدولة الأسدية لما يزيد على خمسة عقود ـ وهي مدة "مخيفة" ـ قد تنتهي بمقاربة تستبعد الاستسلام السهل للواقع السوري الجديد.
عندما نقول إن التجربة السورية تختلف، فإن ذلك ليس من قبيل الادعاء الذي يتكئ إلى العواطف وليس إلى الحقائق على الأرض: فلا توجد بين الدول العربية التي انتصرت فيها ما تسمى بـ"الثورات المضادة"، أية تجربة تعدل الخبرة السورية وعمرها النضالي، ففي الأولى لم يتجاوز عمر الانتفاضات بضعة أيام، وفي الثانية "سوريا" تجاوز اثني عشر عامًا أو يزيد، والفارق في الفواتير المسددة عنفًا ودمًا وخبرة، يضع الأخيرة "السورية" في منزلة أعلى من مراتب "الحكمة" من فنون إدارة التناقضات، وإعادة ترتيب ما تخلفه الفوضى المتوقعة من أزمات.
إعلانلم يكن مفاجئًا، الانهيار السريع لكل مكونات الدولة العميقة المفترضة في سوريا ـ الجيش والأجهزة الأمنية ـ خلال عشرة أيام فقط، فكل تلك العناصر من مؤسسات خشنة، بكل تاريخها من الوحشية والتفسخ وغياب الانضباط، كانت منهكة وفاسدة، وتحولت إلى قوة كسولة واتكالية، تعتمد على البديل الأجنبي: روسيا وإيران وحزب الله والمليشيات الشيعية التي تدفقت إلى سوريا.
ومع الوقت وبالتراكم باتت محض هياكل شكلية خالية من أي معنى رسالي من معاني الدولة. وليس بوسعها بعد انهيار المؤسسات وتبخرها في ساعات، أن تنتظم كقوة خفية موازية تشاغب السلطة الجديدة المنتصرة في دمشق.
في المقابل، فإنه منذ التجميد النسبي للقتال النشط في عام 2020، كان لدى هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري ـ المرتبط بالحكومة السورية المؤقتة وتركيا ـ والقوات التي يقودها الأكراد في شمال شرق سوريا الوقت الكافي للتعلم وتعزيز صفوفهم.
لقد أمضوا السنوات القليلة الماضية في تدريب وإعداد قواتهم المسلحة، كما طوروا أنظمة حكم معقدة قادرة على تلبية احتياجات الملايين من الناس.
وفي مختلف أنحاء شمال سوريا، أقامت هذه الجماعات المعارضة وأجنحتها السياسية دولة في انتظارها، تضم وزارات للاقتصاد والتجارة والتعليم والشؤون الإنسانية، كما أنشأت الجماعات أنظمة تسجيل مدنية وأراضٍ خاصة بها، وهو الأمر الذي يعتبر عادة من اختصاص الدول المعترف بها فقط.
كان يوجد بحوزة قوى الثورة ـ إذن ـ مشروع دولة جاهز، لملء الفراغ المتوقع في المدن التي حُررت تباعًا، فإذا كانت الحاضنة الأمنية والعسكرية الوحشية للأسد قد انهارت بشكل مذل وفاضح ومخزٍ، فإن "سوريا ـ الدولة" لم تسقط لوجود بديل مكتمل وناضج تقريبًا، بكل حمولته الأخلاقية والإنسانية "الحانية"، كما يبدو لنا حتى الآن على الأقل.
كما أن وجود "إسناد إقليمي" له وزنه وهيبته ـ مثل تركيا ـ للنسخة السورية الجديدة، لا يمكن حذفه من أي تنظير يستشرف مستقبل أي وجود محتمل لـ "الدولة العميقة". فتركيا ـ القوة الإقليمية العظمى في المنطقة ـ يقتضي أمنها القومي إنهاء حكم عائلة الأسد بكل تجلياته اللاحقة على انهياره، بشكل لا يقبل الترميم أو إعادة التدوير والتجميل أو العمل من خلال عُلب الليل السرية.
إعلانالدولة العميقة، لها شروطها ـ أن تظل المؤسسات القديمة بكل حمولتها من شبكات الفساد قائمة ـ والثورة السورية، تُعيد هندسة المشهد على نظافة ـ كما يقولون ـ وعلى النحو الذي يضيق المساحات على "الفلول" المشغولة الآن بالبحث عن الخروج الآمن من التصفية، أو الملاحقات القضائية المتوقعة: العفو أو العقاب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.