شهدت منطقة الشرق الأوسط في أكتوبر 2023 تصعيدًا عسكريًا كبيرًا، تمثل في معركة "طوفان الأقصى" التي نفذتها المقاومة الفلسطينية، وهي المعركة التي أدت إلى أعداد كبيرة من الضحايا في صفوف المدنيين الفلسطينيين نتيجة الهجمات "الإسرائيلية" على قطاع غزة. بعد هذه الحرب، ظهر في المشهد الدولي مطلب متزايد لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة من قبل جنود جيش الاحتلال خلال العمليات العسكرية. بدأت بعض الدول بفتح ملف المحاكمات ضد هؤلاء الجنود المتهمين بارتكاب مجازر بحق المدنيين، وهو ما يثير العديد من الأسئلة حول تبعات هذه المحاكمات على الاحتلال ومستقبله.
بعد الحروب المتكررة في غزة، وخاصة في أعقاب معركة "طوفان الأقصى"، بدأ المجتمع الدولي في تسليط الضوء على الانتهاكات الإنسانية التي ارتكبها جنود جيش الاحتلال ضد المدنيين الفلسطينيين. تزايدت الدعوات إلى تقديم هؤلاء الجنود إلى المحاكمة بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ومن أبرز هذه الدعوات كانت من بعض الدول الأوروبية مثل بلجيكا وفرنسا التي طالبت بفتح تحقيقات ضد هؤلاء الجنود في حال زيارتهم لتلك الدول.
إلى جانب ذلك، دخلت محكمة الجنايات الدولية على الخط، حيث أنها كانت قد فتحت سابقًا تحقيقًا بشأن الجرائم المحتملة التي ارتكبتها "إسرائيل" في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد استندت هذه المحاكمات إلى أدلة وتقارير من منظمات حقوق الإنسان مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، التي أكدت وقوع مجازر وتدمير واسع في غزة، مما أدى إلى استشهاد مئات المدنيين الفلسطينيين في ظل ظروف قاسية، معظمهم من الأطفال والنساء.
لكن ما هو أهم في هذه المحاكمات هو الاعتراف الدولي الضمني بأن الجرائم المرتكبة من قبل الاحتلال هي جرائم إبادة جماعية. إن محاكمة جنود جيش الاحتلال هي بمثابة إقرار عالمي بأن الاحتلال يرتكب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، وهو ما يضع الاحتلال في موقف دولي صعب للغاية.
وفي هذا السياق، يمكن الاستشهاد بما قالته الفيلسوفة السياسية حنا أرنت في محاكمة "أدولف آيخمان" في القدس، حيث أشارت إلى أن "آيخمان لم يكن مجرد أداة في آلة الحرب النازية، بل كان جزءًا من النظام الذي ارتكب إبادة جماعية". وعليه، يمكن أن نرى تشابهًا بين ما فعله آيخمان في الهولوكست وما ارتكبه جنود جيش الاحتلال في غزة من عمليات إبادة ومجازر ضد المدنيين الفلسطينيين. فكما أُدين آيخمان في محكمة القدس التي أقامها اليهود لهُ كونه جزءًا من النظام الذي ارتكب فظائع بحق البشر، يجب محاكمة جنود جيش الاحتلال الذين ارتكبوا جرائم مشابهة في غزة.
لم تقتصر الدعوات إلى المحاكمة على الجنود فقط، بل شملت أيضًا كبار المسؤولين الإسرائيليين، مثل رئيس وزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، الذين قادوا العمليات العسكرية التي أسفرت عن تلك الانتهاكات. في هذا السياق، بدأت بعض دول العالم بتحريك ملفات قانونية ضدهم. على سبيل المثال، كانت هناك دعوات للمطالبة بمحاكمة نتنياهو وغالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، خاصة في ضوء الهجمات على المدنيين وتدمير البنية التحتية في قطاع غزة.
إذا تم تقديم هذه الشخصيات للمحاكمة الدولية، فإن ذلك سيشكل ضربة قوية للهيبة السياسية والعسكرية لإسرائيل. فالمطالبة بمحاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم يشير إلى أن المجتمع الدولي لا ينظر إلى هذه الحروب على أنها عمليات عسكرية فحسب، بل على أنها أفعال مدانة دوليًا من أجل تدمير شعب بأسره.
إن المحاكمات الدولية لجنود جيش الاحتلال قد يكون لها آثار كبيرة على مكانة "إسرائيل" في المجتمع الدولي وعلى استراتيجيتها العسكرية. أولاً، قد تؤدي هذه المحاكمات إلى تصعيد الضغوط الدولية على حكومة الاحتلال، مما قد يشكل عائقًا كبيرًا أمام حرية تحرك قواتها العسكرية في المستقبل. على الرغم من أن "إسرائيل" عادة ما تعارض المحاكمات الدولية، إلا أن تزايد هذه الدعوات قد يؤدي إلى تأثيرات اقتصادية ودبلوماسية.
ثانيًا، قد تؤدي المحاكمات إلى تعزيز حالة من القلق الداخلي بين الجنود والمستويات العسكرية العليا في جيش الاحتلال، مما يمكن أن ينعكس سلبًا على معنوياتهم أثناء المعارك المستقبلية. فقد يشكك بعض الجنود في شرعية أوامر القادة العسكريين إذا شعروا أن هناك احتمالًا كبيرًا أن يتم محاكمتهم دوليًا بعد العودة إلى بلادهم.
ثالثًا، يمكن أن تؤدي هذه المحاكمات إلى تقويض الدعم الدولي "لإسرائيل". الدول التي تدين الانتهاكات "الإسرائيلية" ستشدد من مواقفها ضدها، ما سيزيد من العزلة الدولية لها. من المحتمل أن تلجأ بعض الدول الأوروبية إلى فرض عقوبات دبلوماسية أو اقتصادية على "إسرائيل"، مما قد يؤثر على مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية في المنطقة.
رغم الضغوط المتزايدة، فإن محاكمة جنود جيش الاحتلال لا تزال تواجه تحديات كبيرة على صعيد السياسة الدولية. "إسرائيل" ليست جزءًا من نظام روما الأساسي الذي أسس محكمة الجنايات الدولية، مما يعقد إمكانية تقديمها للمحاكمة أمام المحكمة الدولية. كما أن العديد من الدول، خاصة الولايات المتحدة، تدافع بقوة عن "إسرائيل" وتعارض أي محاكمة دولية لها.
علاوة على ذلك، تعارض "إسرائيل" بشدة محاولات تقديم جنودها للمحاكمة، وتعتبر هذه المحاكمات بمثابة تدخل غير قانوني في شؤونها الداخلية، وبالرغم من هذه المعارضة، فإن المجتمع الدولي عليه أن يسعى جاهدًا لضمان محاسبة أي طرف ارتكب انتهاكات.
في ضوء ما سبق، تبرز المحاكمات الدولية لجنود جيش الاحتلال كأداة ضغط رئيسية تهدف إلى محاسبة "إسرائيل" على الانتهاكات التي ارتكبتها في قطاع غزة. إذا تم تنفيذ هذه المحاكمات، فقد يكون لها تأثير كبير على الاحتلال، وعلى مستقبل استراتيجياته العسكرية، بالإضافة إلى التأثير على مكانتها في المجتمع الدولي.
وبينما تواجه هذه المحاكمات تحديات سياسية وقانونية، فإن الدول والمؤسسات الدولية يجب أن تبقى مستمرة في سعيها لضمان العدالة والمحاسبة، ما قد يساهم في الحد من الانتهاكات المستقبلية ويسهم في إرساء مبادئ القانون الدولي في المنطقة.
وتعد هذه المحاكمات بمثابة إقرار بأن الاحتلال يرتكب أفعالًا تصل حد الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، وهو ما يجب أن يدفع المجتمع الدولي إلى اتخاذ خطوات حاسمة ضد تلك الجرائم وضمان محاسبة المسؤولين عنها.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا