الطريق إلى تحرير "منظمة التحرير" من خاطفيها
- عريب الرنتاويكاتب ومحلل سياسي أردني
ليس كل ما سندلي به من أفكار وتساؤلات، يقع بالضرورة "خارج الصندوق". بعضها من داخله وبعضها الآخر من خارجه، هذا ليس مهمًا، فالأهم منه، أن حالة "الاستعصاء" المتحكّمة بالمشهد الفلسطيني الداخلي الراهن، والممتدة لما يقرب من عقدين من الزمان، باتت تملي اعتماد مقاربات مغايرة، فليس من الحكمة أن تمضي القوى الفلسطينية الفاعلة، فصائل وشخصيات ومجاميع ومؤسسات، في الرهان على "استخراج الزبدة من الماء"، وليس من الفطنة، سلوك الطريق ذاته مرارًا وتكرارًا، وانتظار الوصول إلى نهايات مختلفة.
وضع حدٍ للدوران العبثي في الحلقة المفرغة ذاتها، بات شرطًا ومتطلبًا، للتصدي بكفاءة، لاستحقاقات المرحلة الإستراتيجية الجديدة، التي يبدو أن الفلسطينيين، شعبًا وقضية ومقاومة وحقوقًا، على وشك ولوجها.
لا حصر للموضوعات والعناوين التي يتعين التفكير، وإعادة التفكير بها. في هذه المقالة، سننتقي اثنين منها، نعتقد أنهما "الأكثر أهمية" من بينها، وبصيغة يؤمل معها إثارة نقاش حول مضامينهما، بعيدًا عن المواقف المسبقة، والاتهامات المعلّبة، و"روح القبيلة وعصبياتها القاتلة".
مصالحة أم "تجارة وهم"؟
ونبدأ بمسألة الدعوات التي لا تكل ولا تمل، للحوار والمصالحة بين الأفرقاء المنقسمين على أنفسهم، و"ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي"، والتي كلما شددت على وجوب الحوار وإلحاحية المصالحة، اتسعت الشقة بين المتخاصمين.
إعلانأكثر من "دزينة" من المشاريع والمبادرات، صدرت في قرابة "دزينة" من المدن والعواصم، ذهبت جميعها أدراج الرياح. "سياحة المصالحة" وصور الأيادي المتشابكة لفرسان الحوار في خواتيم اجتماعاتهم، باتت تثير ضجر الفلسطينيين، دع عنك التصريحات الطافحة بالتكاذب التي لا تساوي الحبر الذي كتبت به، وسرعان ما يغيب أثرها، قبل شروق شمس اليوم التالي.
أكثر التطورات خطورة، التي شهدتها القضية الفلسطينية خلال العقدين الأخيرين، لم تكن سببًا كافيًا ومقنعًا لإنهاء الانقسام. لا الحروب المتعاقبة على غزة، ولا الضم الزاحف للضفة الغربية، ولا الانتهاكات المتمادية لحرمة المقدسات والأقصى. لا صفقة القرن والاعتراف الأميركي بسيادة إسرائيل عليها، ولا حرب التطويق والتطهير والإبادة التي تشن على الشعب الفلسطيني، كانت سببًا مقنعًا لنبذ الانقسام أو حتى لرفع شعار "الوحدة في الميدان".
لم تبقَ دولة عربية أو صديقة، إلا وأدلت بدلائها في "المجهود الحربي" الرامي لإقناع الأطراف بتنحية خلافاتها، والالتقاء على "كلمة سواء"، بعد أن سلّمت هذه الأطراف بعجز "قوة الدفع المحلية" الشعبية والفصائلية، عن إنجاز هذه المهمة. حتى الدول العظمى، التي لم تشتهر بدور الوسيط النزيه، دخلت على الخط، فكانت حوارات موسكو وإعلان بكين. ومرة تلو المرة، بقي الانقسام، وغابت المصالحة، وخاب ظن الوسطاء.
اليوم، وبعد أكثر من خمسة عشر شهرًا من "الطوفان" و"حرب الإبادة"، لم تعد الوسائل والأدوات القديمة في التعامل مع ملف الانقسام، ملائمة أبدًا. اليوم وغدًا، وبعد ما جرى ويجري في جنين ومخيمها، لم يعد جائزًا ولا مستساغًا، الاستمرار في اجترار الشعارات والمناشدات ذاتها، لا سيما في ضوء اتضاح معالم طريق التكيف مع مخرجات الحل الإسرائيلي للقضية الفلسطينية، والسعي المحموم لتقديم "أوراق اعتماد" لإدارة ترامب، ومحاولة اجتياز امتحان الجدارة للتأهل لليوم التالي لغزة، بدءًا من مخيم جنين.
إعلاناليوم، يبدو حديث المصالحة وحواراتها، أقرب إلى "بيع الأوهام"، وفعل من أفعال التضليل والتعمية على خطورة ما جرى ويجري، عن قصد حينًا، وعن غير قصد في أغلب الأحيان.
اليوم، لم يعد جائزًا "توزيع دم المصالحة على القبائل الفلسطينية"، فمن يتحمل وزر الانقسام واستمراره وتعمقه، هو القيادة الفلسطينية في رام الله، لا سيما بعد أن أظهرت فصائل المقاومة، "استماتة" في الدعوة والاستجابة لنداءات الوحدة والوفاق الوطني، في إطار المنظمة، وتحت مظلة السلطة. اليوم يتعين تسمية المسؤولين عن تأبيد الانقسام بأسمائهم.
بخلاف ذلك، نكون قد وقعنا في المحظور، عن حسن نيّة أو لانتهازية طافحة، أو ربما، طلبًا للسلامة، لا فرق.
صحيح أن حماس في محطات سابقة، بالذات في ذروة الربيع العربي، تحملت قسطًا من وزر الانقسام، حين انصرفت رهاناتها إلى تطورات وتحولات إقليمية مواتية، وغالبًا من ضمن مقاربة لحركات الإسلام السياسي لا تقيم وزنًا جديًا لفكرة المشاركة. لكن الصحيح أيضًا، أن القيادة المتنفذة في المنظمة والسلطة وفتح، سدّت بإحكام سبل الشراكة وأغلقت أبوابها في وجه حماس والجهاد وفصائل المنظمة، بل وحتى في وجه قيادات فتحاوية وازنة، لا ذنب لها، سوى أنها تعتد بنفسها وإرثها ووجهات نظرها.
واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يتغذى تعنت "المقاطعة" بالتطورات الأخيرة المتسارعة في الإقليم، وتراجع مكانة ما كان يعرف بمحور المقاومة، والذي عُدّت المقاومة الفلسطينية، حلقة مركزية في سلسلته التي كانت ممتدة من قزوين إلى شرق المتوسط.
وبالرغم من حسن النوايا (أو سوئها)، فإن الدوران في حلقة الرهانات المفرغة، على إنجاز المصالحة، أفضى إلى نتيجتين ضارَّتين:
- الأولى: انصراف الجهد الوطني الفردي والجماعي، الذي بذل في غير مكانه، عن هدف التأسيس لحركة وطنية وشعبية فلسطينية جديدة، بديلة وناهضة، بعد أن جرى تضخيم أثر المصالحة ومفاعيلها، بل والتعامل معها، برومانسية فائقة، لا تحتمل الأصوات الخادشة للذائقة التصالحية العامة.
- والثانية: تمكين القيادة المتنفذة في السلطة وفتح والمنظمة، من "فترة سماح" ممتدة، يحاذر الجميع خلالها من تحميلها وزر الانقسام، أو الخروج عليها، أو البحث عن بدائل لها، من داخلها أو من خارجها.
ولم يكن بمقدور هذه القيادة أن تذهب بعيدًا في مشوار الهبوط بسقف التوقعات الفلسطينية، وبمسار التنسيق الأمني مع الاحتلال، وكبح جماح "غضب الضفة الغربية" بدءًا بالحرب على جنين ومخيمها، لولا المضي في إشاعة الوهم عن مصالحة وطنية إنقاذية ستحصل ذات يوم، ينشطر معها التاريخ الفلسطيني إلى ما قبلها وما بعدها.
"بقرة مقدسة"
أما القضية الثانية، التي باتت "بقرة الفلسطينيين المقدسة"، فتتجلى في حكاية "الممثل الشرعي الوحيد"، ومنظمة التحرير التي قيل عنها إنها "وطن الفلسطينيين إلى أن يتحرر وطنهم".
تلك القضية التي ما إن تشرع في الحديث فيها أو عنها، حتى تنهال عليك الاتهامات بتبديد وحدة الشعب والكفاح والقضية والتمثيل، مع أن القاصي قبل الداني، يدرك أن المنظمة لم يبقَ منها سوى "خاتمها"، بعد أن تحولت إلى دائرة من دوائر السلطة، أو قل: أقل دوائرها أهمية، وأنها في قطيعة، مع شعبها في مختلف أماكن تواجده، قبل أوسلو، وبالأخص بعد قيام السلطة، وسط تواطؤ شاركت فيه أطراف قيادية في المنظمة وحكومات عربية ومراكز دولية، استمرأت حكاية إحلال السلطة محل المنظمة، واختزال الشعب الفلسطيني بسكان الضفة والقطاع، وإسقاط الشتات وأصحاب الأرض الأصليين خلف الخط الأخضر، من النصاب السياسي والكفاحي والقانوني للشعب الفلسطيني.
لسنا بحاجة لمن يذكرنا بأن المنظمة، كممثل شرعي وحيد، كانت مكسبًا بارزًا للشعب الفلسطيني، ولا بكون عشرات الدول تعترف بها بصفتها هذه، لا بكونها تجسيدًا لوحدة الشعب والأرض والقضية.
فلطالما نافحنا وقاتلنا دفاعًا عن المكتسب الذي لم يترك القائمون عليه مناسبة طيلة السنوات العشرين الماضية، أو أزيد من ذلك، لتفريغه من محتواه الكفاحي والتمثيلي، إلى أن وصلنا إلى الحالة التي لا تستدعى فيها المنظمة، إلا للتوقيع على أكثر القرارات والاتفاقات خطورة وإضرارًا بالأرض والشعب والقضية، لم تكن أوسلو أولها، ولن تكون الخطوات والسياسات الكارثية للسلطة، آخرها. لقد أخذ "المكسب الأهم لشعبٍ فلسطيني، بالتحول إلى عبء عليه ومصدر تهديد لمشروعه الوطني"، هذه النتيجة التي لا تخطئها العين، إن لم يجرِ استدراك ما يمكن تداركه.
إعلانلا حاجة للدخول في "تنازع" مع المنظمة على وحدانية التمثيل وشرعيته، فهي معركة في غير معترك، لكن ذلك لا يمنع، بل يوجب، التوجه بثبات وعزيمة، لمنازعة المنظمة على ما كان يومًا قواعد ومنظمات شعبية واجتماعية، كانت الركيزة والحاضنة والرافعة، لـ "الممثل الشرعي الوحيد".
لا حاجة لمزاحمة المنظمة في المحافل الدولية والإقليمية، بقدر ما تشتد الحاجة للبرهنة على أن السلطة والمنظمة في وضعيتيهما الحاليتين، لا تمثلان شعب فلسطين وأشواقه وطموحاته، وأن "الشرعية" في وادٍ، وشعبها في وادٍ آخر.
لا حاجة لتقديم طلبات الاعتراف بأي جسم فلسطيني جديد، بل بخلق مركز جذب وتمثيل، يرغم العالم على عدم الاكتفاء بزيارة "المقاطعة" عند الحديث في الشأن الفلسطيني.
هذا يحدث الآن على أية حال، فكل ما يجري من مفاوضات عن غزة وحولها، تكاد رام الله أن تكون خارجه، والدوحة شاهد على ذلك، إذ تحوّلت إلى وجهة للزائرين، ممن يريدون التحدث مع المقاومة، مباشرة أو عبر طرف ثالث، وسط قناعة تامة، بأن مركز ثقل القرار الفلسطيني، الآن وحول غزة، ليس في رام الله ولا في مقاطعتها.
وضع كهذا، قد يحمل سمة "الاستثناء" و"التأقيت"، وقد يتحول إلى وضع دائم. وفي الحالتين، يتعين العمل على بلورة مركز ثقل وطني فلسطيني، لا يقتصر على المقاومة، ولا على غزة وجدل الحرب والتهدئة فيها وعليها.
يجب أن تتبلور جبهة وطنية فلسطينية عريضة، من الفصائل والمنظمات والشخصيات والجماعات والجمعيات، تشكل مركزًا ثانيًا، إن لم نقل أولًا، لصنع القرار الوطني الفلسطيني. وأن يشرع في مزاحمة القيادة المتنفذة على الحضور والتمثيل، واقعيًا، إلى أن تحين ساعة "تحرير منظمة التحرير" من أيدي خاطفيها، وبث روح ودماء جديدة في عروقها المتيبسة.
"ليس باسمنا"، شعار يجب أن ترفعه كتلة فلسطينية وازنة، في كل مرة يصدر فيها عن رام الله قرار أو إجراء، مواقف أو سياسات، يُشتمّ منها، رائحة تفريط أو تنازل. ويتعين ممارسة "التعرض الخشن" للسلطة والمنظمة، من دون دم أو سلاح، في كل مرة يفهم، أنها تقوم بأدوارٍ نيابة عن الاحتلال، في جنين أو غيرها، أو توطئة للتكيف مع مسارات مذّلة، أو التأهل لإدوار مشبوهة لا تصب في مصلحة الشعب وقضيته وكفاحه الوطني العادل والمشروع.
إعلانيتعين على طلائع الشعب الفلسطيني، الوطنية والكفاحية، أن تتصدى لسيوف الابتزاز التي تشهر في وجهها وتسلط على أعناقها، في كل مرة، تقرر فيها، توحيد الصفوف وتجميع القوى، لاستنقاذ مشروعها الوطني، أو تنظيم شعبها وتأطيره، أو مزاحمة "شرعية لا شعبية لها"، والسعي من دون تردد أو استحياء، لـ"شرعنة" ثقلها الشعبي، المحصن بفواتير الشهادة والتضحيات.
يجب أن تخرج هذه القوى والطلائع، من شرنقة الأدوات القديمة في التعامل مع "شرعية مختطفة"، لأن تحريرها واستردادها، بات مقدمة ضرورية للتحرر الوطني العام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.