Skip to main content

ألمانيا والإبادة الجماعية عبر العالم.. لماذا كل هذا التورط في القتل؟

24 كانون الثاني 2025

ألمانيا والإبادة الجماعية عبر العالم

تحضيرات في هامبورغ عام 1905 للوحدات القيصرية "شوتستروبه" المخصصة للقتال في "جنوب غرب أفريقيا الألمانية" (الأرشيف الاتحادي، فرانس شبينكر)
تحضيرات في هامبورغ عام 1905 للوحدات القيصرية "شوتستروبه" المخصصة للقتال في "جنوب غرب أفريقيا الألمانية" (الأرشيف الاتحادي، فرانس شبينكر)
ناصر جبارة24/1/2025-|آخر تحديث: 24/1/202510:51 ص (توقيت مكة)

عندما وطأت قدما جنرال ألماني يُدعى آدريان ديتريش لوثر فون تروتا يوم 11 يونيو/حزيران 1904 اليابسة الأفريقية، بعد رحلة استمرت 3 أسابيع، لم تكن أحوال المستعمرة الألمانية "جنوب غرب أفريقيا الألمانية" (التي أصبحت ناميبيا اليوم) بخير.

فبعد استيلاء بضعة آلاف من جنود القيصر الألماني فيلهلم الثاني على أراض فاق حجمها مساحة ألمانيا القيصرية مرة ونصف مرة وفرض آلاف المستوطنين البيض السيطرة على "أراض صلداء بطبيعة ميتة"-حسب مذكرات الجنرال فون تروتا- أسس الألمان عام 1884 مستعمرة "جنوب غرب أفريقيا الألمانية" وحكموها بالحديد والنار، إذ استولوا بقوة السلاح على 70% من أراضيها الزراعية، وصادروا أملاك فلاحيها ومواشيهم وأجبروا "عبيدهم" على أعمال السخرة واغتصبوا النساء وجلدوا حتى النزف أو الموت كل من رفض الانصياع لأوامرهم.

أكبر الشعوب في هذه المنطقة، قبيلة هيريرو أو كما يسمّون أنفسهم "أوفاهيريرو" فضّلت الموت في أرض المعركة على هذا الهوان، فدوّن أحد قادتهم عام 1904: "أطلقوا النار على رجالنا وقتلوهم. اغتصبوا نساءنا ورفضوا معاقبة المنفذين. كبارنا تشاوروا وقرروا أن الحرب لن تكون أسوأ من معاناتنا (...) الأفضل أن نموت معا في المعركة، بدل الموت تحت التعذيب". بهذا، تكون انتفاضة شعب الهيريرو ضد المستعمرين البيض قد بدأت فعليا.

أسرى من قومية هيريرو وناما بيد جنود ألمان في مكان ما بناميبيا في الفترة ما بين 1904 و1908 (مواقع التواصل)

ولكن المعركة لم تكن متكافئة، فالجنرال فون تروتا -الذي وصل احتفاء ألمانيا القيصرية بإنجازاته إلى حد طباعة صورته على علب السجائر- كان يعرف ماذا ينتظره في "جنوب غرب أفريقيا الألمانية"، ولكنه كان يعرف أيضا أن القيصر فيلهلم الثاني ألزمه شخصيا بقمع انتفاضة الهيريرو "بجميع الوسائل"، فقام بعد بضعة أشهر من وصوله -وتحديدا في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1904- بإطلاق شرارة الإبادة الجماعية الأولى في القرن العشرين ووجه رسالة إلى شعب الهيريرو، وكانت فعليا أقوى وثيقة أدخلته تاريخ ألمانيا بوصفه مجرم حرب: "أنا جنرال الجنود الألمان العظيم، أرسل هذه الرسالة لشعب الهيريرو لأقول لهم إنهم لم يعودوا من أتباعنا. سنقتل كل واحد منهم نجده داخل الحدود الألمانية. لن نرحم أي هيريرو، سواء أكان مسلحا أو بدون سلاح ولن نساعد أحدا لا النساء ولا الأطفال، بل سنردهم إلى قبيلتهم أو سنطلق عليهم النار".

وهذا ما حدث بالفعل، ففي الأشهر اللاحقة، حاصر جنود فون تروتا المتبقين من شعب الهيريرو في "ووتربرغ" وأجهزوا عليهم بعنف لا يوصف. أما من بقي منهم على قيد الحياة، فقد اقتاده أو دفعه جنود فون تروتا إما إلى صحراء "أوماهيكي"، حيث هلك عطشا أو إلى مثواه الأخير في معسكرات الاعتقال الخمسة، لا سيما في معسكر جزيرة القرش أو "جزيرة الموت" في جنوب غرب المستعمرة.

وتختلف المصادر التاريخية الألمانية حول عدد الضحايا، فبينما تشير بعضها إلى أن أعدادهم من شعب الهيريرو ولاحقا من شعب الناما بلغ 90 ألف شخص، تشير مصادر أخرى إلى أن العدد فاق 130 ألف شخص: 90 ألفا من الهيريرو و40 ألفا من الناما. بهذا تكتمل أركان أول إبادة جماعية في القرن الـ20 الذي يعد قرن الإبادات الجماعية بامتياز.

وبإلقاء نظرة على جميع جرائم الإبادة الجماعية والقتل على أساس العرق التي ارتكبت منذ بداية القرن الـ20 وحتى الوقت الراهن، لا بد من تثبيت التالي:

  • ألمانيا القيصرية نفذت الجريمة الأولى (ناميبيا).
  • وشارك ضباطها في تنفيذ وفي إعطاء بعض أوامر تنفيذ الجريمة الثانية (إبادة الأرمن)، وبررت ذلك بالقول على لسان دبلوماسييها آنذاك إن هذه الجريمة "قاسية ولكنها مفيدة". (هانس هومان، الملحق العسكري الألماني في الدولة العثمانية).
  • ونفذت ألمانيا النازية الجريمة الثالثة (الهولوكوست).
  • واكتفت ألمانيا الاتحادية بدور المتفرج ورفضت التدخل في منع الجريمتين الرابعة (الصراع في باكستان الشرقية) والخامسة (الإبادة الجماعية في كمبوديا).
  • وشاركت شركاتها بشكل فعال في تزويد نظام صدام حسين بالأسلحة الكيميائية التي استخدمت في "حملة الأنفال" وتحديدا في مذبحة حلبجة.
ألمانيا الشرقية منحت أسلحة كيميائية للجيش العراقي في فترة استهداف المناطق الكردية (الجزيرة)
  • وواظبت على تزويد إسرائيل بأسلحة استخدمت في الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين بقطاع غزة وغطت هذه الجرائم سياسيا ودبلوماسيا ودافعت عن إسرائيل أمام المحاكم الدولية.

كل ذلك يطرح سؤالا محقا عن أسباب تورط ألمانيا منذ 120 عاما بشكل أو بآخر في كثير من جرائم الإبادة الجماعية.

رجوعا إلى ناميبيا، لا بد من القول إن الجنرال الذي حمّل نفسه وبلده مسؤولية ارتكاب أول إبادة جماعية في القرن الـ20 لم يكن يعرف أنه سيدخل التاريخ بصفته مجرم حرب. ففي عام 2015، عرّفت وزارة الخارجية الألمانية بخجل هذا الفصل الأسود من تاريخ ألمانيا لأول مرة على أنه "إبادة جماعية" وفي مايو/أيار 2021 توصلت الحكومة الاتحادية -بقيادة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل- مع حكومة ناميبيا إلى اتفاق مصالحة تم بموجبه أولا إقرار ألمانيا لأول مرة رسميا بالذنب، وثانيا دفع مبلغ بقيمة 1,1 مليار يورو.

ولكن النقاش الذي تلا هذا الاتفاق لا يدل فقط على تلكؤ ألمانيا 120 عاما كاملا في الاعتراف بارتكاب هذه الجريمة، بل يدل أيضا على محاولة تهرب الحكومة الألمانية من تحمل المسؤولية الكاملة، فالمبلغ المتفق عليه سيأتي -وفقا للاتفاق- على شكل دعم مشاريع تنموية واجتماعية في مناطق شعبي هيريرو وناما، وذلك في غضون 30 عاما وليس في صورة تعويضات مباشرة لذوي الضحايا.

علاوة على ذلك، ترفض ألمانيا تعريف هذا المبلغ على أنه تعويضات لأنها تعتبر نفسها غير ملزمة من الناحية القانونية بتحمل مسؤولية جريمة تنطبق عليها جميع تعريفات الإبادة الجماعية، عازية ذلك إلى أن معاهدة الأمم المتحدة لتجريم الإبادة الجماعية وقتل الشعوب وُقعت عام 1948 أي بعد 40 عاما من الخراب الذي تركه جيش ألمانيا القيصرية في ناميبيا.

ورغم إقرار الدولة الألمانية بالذنب والنجاحات التي سجلتها بعض المحاولات لتأريخ هذه الجرائم ووصمها رسميا بالإبادة الجماعية، فإن أسباب ذهاب هذا الجنرال إلى أبعد حدود الإبادة وارتكاب أول إبادة جماعية في القرن الـ20 بقيت دون إجابات.

  • فكيف وصلت المعركة بين جنود الجنرال فون تروتا وشعبي الهيريرو والناما إلى مرحلة اللاعودة؟
  • وبما أن هدف ألمانيا القيصرية كان نهب وسلب الأراضي التي احتلوها خلف البحار وليس إبادة سكانها، لماذا اتخذ الجنرال فون تروتا قرار تنفيذ جريمته؟
  • والسؤال الأهم هل يمكن القول إن جريمة الإبادة الجماعية في "جنوب غرب أفريقيا الألمانية" قادت إلى جريمة الإبادة الجماعية الثالثة من ناحية الترتيب والثانية من منظور ألماني، والمقصود هنا طبعا جريمة الهولوكوست التي ارتكبتها ألمانيا النازية بين عامي 1941 و1945 بحق ملايين اليهود وشعبي "سنتي" و"روما" الغجريين وكل من لم يكن يعجب الزعيم النازي أدولف هتلر وحاشيته؟
هتلر وضباط الجيش الألماني خلال مناورات أجريت عام 1938 في أراضي تشيكوسلوفاكيا (أسوشيتد برس)
  • وقبل كل شيء هل المصالحة بين ألمانيا وناميبيا ممكنة؟

الإجابات عن هذه الأسئلة، وتحديدا الثاني والثالث والرابع، بقيت ضبابية واحتاجت لمزيد من التوثيق حتى بداية عام 2024. ففي هذا العام، قررت عائلة فون تروتا الإفراج عن مذكرات الجنرال الذي لم يكن يغفو ويستفيق على رائحة الدم فحسب، بل كان مدونا شغوفا وثّق ذكرياته في 5 أجزاء و800 صفحة.

وتقديم العائلة هذه المذكرات للرأي العام يعود ربما لقرار الحكومة الألمانية الاعتراف بجرائم ألمانيا القيصرية في ناميبيا أو ربما للعبء الثقيل الذي تركه هذا الجنرال على سمعة العائلة، وربما أيضا بفضل أستاذيّ تاريخ عنيدين أصرا على معرفة ما حدث، وهما ماتياس هويسلر وأندرياس إكل من المعهد الوحيد من نوعه في ألمانيا "الشتات وبحوث الإبادة الجماعية" بجامعة بوخوم.

فكلا الأستاذين يعرف مدى صعوبة الحصول على معلومات موثقة حول هذه الحقبة السوداء في التاريخ الألماني، إذ إن الوثائق التي نجت من حربين عالميتين قليلة جدا. والنسخ الأصلية أُتلفت في أثناء الحرب العالمية الأولى في ناميبيا وغير الأصلية لاقت المصير نفسه في ألمانيا في أثناء الحرب العالمية الثانية.

صورة غلاف النسخة الأصلية لمذكرات الجنرال فون تروتا (مجلة دير شبيغل، ميرا أونكلباخ)

يقول هويسلر -في حديث مع الجزيرة نت- إن العائلة سمحت له منذ سنوات بالاطلاع على المذكرات بغرض البحث العلمي، مضيفا "لأن المسألة تتعلق بوثائق حساسة محفوظة في ملك خاص، لا بد من توفر مستوى كبير من الثقة بيني وبين الزميل أندرياس إكل من جهة والعائلة من جهة أخرى ولهذا، استغرق الأمر طويلا" من أجل الحصول على هذه الوثائق أخيرا وتقديمها في كتاب نقدي للرأي العام.

ولكن كيف وصلت المعركة إلى مرحلة اللاعودة ومن يكون هذا الجنرال الذي لا يزال يلطخ سمعة ألمانيا بالوحل؟ هويسلر يقول إنه كوّن انطباعا عن فون تروتا يسمح له بالقول إنه كان شخصا "مُتعنترا يريد تمييز نفسه عن الآخرين"، مضيفا أن "فون تروتا كان بالتأكيد عنصريا، ولكنه لم يكن مناضلا عرقيا كما يعتقد كثيرون، بل كان جنرالا خطته الرئيسية إخضاع الخصم وليس التصالح معه"، وإن المعركة "وصلت تدريجيا وليس فجأة إلى مرحلة التصعيد".

هنا تختلف نظرة هويسلر إلى تطور المعركة عن نظرة بعض المؤرخين الآخرين الذين يقولون إن وصول المعركة إلى هذه المرحلة المتقدمة من القتل والإبادة يعود إلى عدم قدرة قوات فون تروتا على تحقيق إنجازات تساعده على حسم المعركة بسرعة. بمعنى آخر، الفشل وصلابة العدو كانا وراء ذهاب الجنرال الألماني إلى أبعد حدود الإبادة.

معتقلون من شعبي هيريرو وناما في "جنوب غرب أفريقيا الألمانية" (ناميبيا حاليا) في أثناء الإبادة الجماعية بين عامي 1904 و1908(صحيفة زودويتشه تسايتونغ)

وما رأي من تبقى من شعبي هيريرو وناما في هذا الجنرال وجرائمه؟

البحث في بلد "المنفذين" عن إجابات عن هذا السؤال كان كالبحث عن إبرة في كومة قشّ، فالجالية الناميبية في ألمانيا لا تتجاوز بضع مئات. رغم ذلك، فإن الصدفة قادتنا إلى سليل أحد الضحايا، إسرائيل كاوناشيكي، حفيد إحدى نساء الهيريرو اللاتي تعرضن للاغتصاب من قِبل أحد ملاك الأراضي الألمان.

وعندما عرف إسرائيل بأنني أريد التحدث معه حول إبادة شعبه الهيريرو، اشترط إجراء المقابلة بالتثبيت في هذا التقرير أن اسمه إسرائيل نسبة للنبي يعقوب عليه السلام، وليس لإسرائيل التي "ترتكب الآن إبادة جماعية بحق الفلسطينيين"، فزاد حماسي للمقابلة ووافقت.

قال: "كل طفل في ناميبيا يعرف الاسم لوثر فون تروتا، فاسم هذا الجنرال الذي حدد مصيرنا بطلب من القيصر فيلهلم الثاني يتردد في كل مكان وسُمعته في ناميبيا كسمعة هتلر عند اليهود وعند الشعبين الغجريين (سينتي) و(روما)؛ فون تروتا وحش بقلب بارد".

وعندما وصل الحديث إلى قصة إسرائيل الشخصية وعجز في التحايل على نطق كلمة اغتصاب لتوصيف ما حدث لجدته، تردد خجلا وتلعثم وذرفت عيناه بالدمع، فصمت كلانا. قال: "انظُر إليّ. أنا لست أسودَ خالصا. أنا نتجت عن علاقة غير شرعية بين أحد ملاك الأراضي الألمان وجدتي. أمي ربتني على هذه القصة لغاية وصولي إلى قرار ترك ناميبيا في سن الـ17 عاما، بحثا عن دلائل تدين المنفذين في عقر دارهم".

إسرائيل كاوناشيكي حفيد إحدى ضحايا الإبادة الجماعية ضد شعبي هيريرو وناما ( الجزيرة)

اتفاق المصالحة

وما رأي المؤرخ هويسلر في اتفاق المصالحة الذي وُقع عام 2021 بين حكومتي ألمانيا وناميبيا؟ هنا يستخدم أستاذ التاريخ مثلا ألمانيا شائعا ويقول إن "النغمة هي التي تصنع الموسيقى؛ لهذا أعتقد أن الحكومة الألمانية ومفاوضيها لم يعزفوا النغمة المناسبة، لأن النقطة الشائكة التي حالت دون إقناع اتحادات الضحايا بقبول هذا الاتفاق ليست المبالغ المطروحة في حد ذاتها".

ويضيف أن ما يقلل من أهمية اعتراضات اتحادات الضحايا هو قبل كل شيء التعامل مع هذه القضية وفق معادلة تجريم الإبادة الجماعية بحسب النظام القانوني المعمول به في الوقت الراهن، أي بعد عام 1948 مضيفا: "أيضا جرائم النازيين ارتكبت قبل استحداث مصطلح الإبادة الجماعية ولكن هذا لم يمنع تطبيق القانون على هذه الجرائم وهذا الظرف يثير شكوكا فورية حول كيل الحكومة الألمانية بمكيالين"، وذلك كله في إشارة من المؤرخ إلى بطلان حجة الحكومة الألمانية عندما تعزو رفضها دفع تعويضات لذوي ضحايا هيريرو وناما بالقول إن اتفاقية الأمم المتحدة التي تجرم الإبادة الجماعية وُقعت عام 1948 أي بعد 40 عاما من ارتكاب الجريمة في ناميبيا.

الجنرال فون تروتا مع ضباطه في "جنوب غرب أفريقيا الألمانية" بين عامي 1904 و1908 (الأرشيف الاتحادي)
الجنرال فون تروتا مع ضباطه في "جنوب غرب أفريقيا الألمانية" بين عامي 1904 و1908 (الأرشيف الاتحادي)

وهذا هو سبب الشكوك في مصداقية طرح الحكومة، لأن جرائم النازيين بحق اليهود وغيرهم في الحرب العالمية الثانية ارتكبها النازيون الألمان بين عامي 1941 و1945 أي قبل سنوات من توقيع اتفاقية الأمم المتحدة لتجريم الإبادة الجماعية. فلماذا لا ينطبق على الجرائم التي ارتكبت في ناميبيا ما ينطبق على الجرائم التي ارتكبها النازيون ضد اليهود وغيرهم في الحرب العالمية الثانية؟

ويتفق كاوناشيكي مع هويسلر بخصوص كيل ألمانيا بمكيالين، ولكنه يضيف أن "المفاوضات بين الطرفين الألماني والناميبي خطأ، لأنها استبعدت منذ البداية ممثلي شعبي هيريرو وناما، أي الشعبيين المعنيين. علاوة على ذلك، اتفاقيات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان تنص بوضوح على ضرورة إجراء المفاوضات مباشرة بين الشعوب المعنية أو الأصلية -حسب نص الاتفاقيات- التي تعرضت للاضطهاد من جهة والحكومات التي ارتكبت الجرائم من جهة أخرى، وهذا لم يحدث، علما أن البرلمان الناميبي خوّلنا أن نجري المفاوضات بشكل مباشر مع ألمانيا، وهذا هو سبب رفضنا لما تسمى اتفاقية المصالحة".

جرائم النازيين بحق اليهود والغجر ارتكبت قبل توقيع الحكومة الألمانية اتفاقية تجريم الإبادة(رويترز)

الهولوكوست

بعد 37 عاما من إعطاء فون تروتا أوامر الإبادة الجماعية الأولى في القرن الـ20، شرعن "جنرال" ألماني آخر يدعى أدولف هتلر الجريمة الثانية من منظور ألماني: "في الشرق فقط، أحضّر في الوقت الراهن وحدات الجماجم (Totenkopfverbände-SS) وأوصيهم بأن يكونوا بلا شفقة ولا رحمة في إرسال كل رجل وامرأة وطفل بولندي النشأة واللغة إلى الموت. هكذا فقط يمكننا كسب المجال الحيوي الذي نحتاجه. من يتحدث اليوم عن إبادة الأرمن؟" يسأل مستغربا.

بهذه الساديَة حضّر الزعيم النازي هتلر قواته -قبل أسبوع من بدء هجومها على بولندا- لتصوراته عن سياسته السكانية في شرق أوروبا التي نتج عنها الإبادة الجماعية الثانية في القرن الـ20 من منظور ألماني والثالثة من الناحية التراتبية.

صحيح أن عمليات الاضطهاد وتجريم اليهود وبالتالي التحضيرات لهذه الجريمة بدأت فور وصول هتلر إلى السلطة يوم 30 يناير/كانون الثاني 1933، ولكن المصادر التاريخية الألمانية تُجمع على بدئها فعليا بعد هجوم ألمانيا النازية على الاتحاد السوفياتي عام 1941. "يجب اتخاذ جميع التحضيرات المطلوبة للحل النهائي للمسألة اليهودية في جميع مناطق تأثير ألمانيا في أوروبا"، هذه الأوامر التي أرسلها مارشال الرايخ هرمان غورينغ للوزير راينهارد هايدريش أسست فعليا لهذه الإبادة التي نتج عنها قتل 6 ملايين شخص من اليهود وأتباع ديانات أخرى والغجر والمعارضين والمعاقين والشواذ الجنسيين. أما العدد الإجمالي لضحايا حرب ألمانيا النازية في أوروبا، فيقدر بحوالي 40 مليون شخص.

الجنرال البنغالي علي إحسان في أثناء نقله للمحكمة عام 2013 بتهمة ارتكاب جرائم إبادة عام 1971 (الأوروبية)

حملة الأنفال

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 واستسلام ألمانيا النازية، استراح العالم قليلا من هذا النوع من الجرائم حتى عام 1971، وهو العام الذي شهد ما تعرف بـ"حرب استقلال بنغلاديش" التي راح ضحيتها في باكستان الشرقية (بنغلاديش لاحقا) 3 ملايين شخص. جريمة إبادة جماعية أخرى حدثت عام 1975 في كمبوديا، حيث قتلت منظمة الخمير الحمر 1.7 مليون شخص. وفي هذين الصراعين، وقفت ألمانيا موقف المتفرج ورفضت التدخل ولو دبلوماسيا من أجل وقف الجريمة.

وبينما تحفظت الدبلوماسية الألمانية بخصوص الجريمتين الرابعة والخامسة من ناحية الترتيب، تساهلت وتكتمت على شركات ألمانية زودت منفذ الجريمة السادسة "حملة الأنفال" التي توّجها النظام العراقي السابق بتنفيذ جريمة حلبجة ضد الأكراد. هذا الهجوم الكيميائي، الذي راح ضحيته 5 آلاف كردي عراقي، كان سببا في مناقشة البرلمان الألماني (بوندستاغ) دور الحكومة الألمانية والشركات الألمانية في هذه الجريمة، وتحديدا بعد رد إحاطة قدمته حكومة بون في مايو/أيار 1988 لحزب الخضر وظهرت فيه إشارات إلى ضلوع شركات ألمانية بشكل مباشر وغير مباشر في الحملة التي تقدر منظمة العفو الدولية أعداد ضحاياها بين 50-100 ألف شخص.

وفي المناقشات التي شهدتها السلطة التشريعية الأولى (بوندستاغ)، حمّلت المعارضة -التي تكونت حينها من الاشتراكيين الديمقراطيين والخضر- الحكومة الألمانية جزءا من مسؤولية هذه الحملة وفي جلسة برلمانية عقدت في سبتمبر/أيلول 1988، وصف برلماني من الحزب الاشتراكي الديمقراطي ما حدث في العراق بأنه "إبادة جماعية".

هنا ثار الإعلام الألماني وعنونت الصحيفة الألمانية النخبوية "دي تسايت" يوم 13 يناير/كانون الثاني 1989 مقالا ربط بين مجزرة حلبجة والتاريخ الألماني بالقول: "تذكروا استخدام ألمانيا لغاز الأعصاب في الحرب العالمية الأولى! تذكروا بِلزيك! تذكروا تريبليتكا وأوسشفيتس!" في إشارة إلى معسكرات اعتقال ألمانية في الحرب العالمية الثانية.

وفي أثناء إعادة توحيد الألمانيتين في بداية التسعينيات، ظهرت تقارير إعلامية عن تورط ألمانيا الديمقراطية (الشرقية سابقا) في تدريب جنود عراقيين على استخدام الأسلحة الكيميائية وأخرى عن دور الشركات الألمانية في تعزيز ترسانة الأسلحة العراقية وتجاهل حكومة جمهورية ألمانيا الاتحادية (الغربية) ذلك.

وفي مايو/أيار 1991 أصدرت الحكومة الألمانية تقريرا عن دور الأسلحة الألمانية في "حملة الأنفال". وحسب التقرير، اعتبرت ألمانيا مشاركة شركات ألمانية في إنتاج الأسلحة في العراق "غير قانونية"، ولكنها تغافلت السؤال المتعلق بسهولة التحايل على قوانين تصدير الأسلحة الألمانية.

وبعد قول تقرير للصحيفة الألمانية "زود دويتشه تسايتونغ" عام 1997 إن 70% من منشآت الغازات السامة في العراق جاءت من ألمانيا، عادت القضية من جديد إلى الاستحواذ على اهتمام الرأي العام. ورغم ذلك، فإن الحكومة الألمانية رفضت 3 مرات تحمّل أي مسؤولية عما حدث، ولكنها قبل كل شيء رفضت اعتبار "حملة الأنفال" وواقعة حلبجة إبادة الجماعية، علما أن عدة دول أوروبية تعتبرها كذلك.

غزة

ناميبيا لا تكتفي بمواجهة ألمانيا بخصوص جرائم ارتكبتها ألمانيا القيصرية قبل 120 عاما. ففور إعلان حكومة برلين في أبريل/نيسان العام الماضي تدخلها إلى جانب إسرائيل كطرف ثالث ورفضها الاتهامات التي ساقتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بارتكاب إبادة جماعية في غزة، أصدرت الرئاسة الناميبية بيانا قالت فيه إن ألمانيا ارتكبت على الأراضي الناميبية أول عملية إبادة جماعية في القرن الـ20، ورغم ذلك، فإنها لم تستخلص العبر من تاريخها المروع وتدعم إسرائيل في الإبادة الجماعية التي ترتكبها ضد المدنيين الأبرياء في قطاع غزة.

ووبخ البيان الحكومة الألمانية بالقول إنها لا تستطيع أن تعبر عن التزامها الأخلاقي باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة الإبادة الجماعية، وفي الوقت ذاته تدعم إسرائيل في تنفيذ جريمة إبادة جماعية جديدة في غزة.

أولاف شولتس والمسؤولون الألمان يصنفون جرائم إسرائيل بغزة ضمن حق "الدفاع عن النفس" (وكالة الأنباء الأوروبية)

ورغم ذلك، فلا يزال رئيس الحكومة الألمانية المستشار أولاف شولتس وجميع المسؤولين الألمان المؤثرين في هذا الملف يعتبرون الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة "دفاعا عن النفس"؛ الأمر الذي يدفع إلى القول إن حكومة برلين ما زالت لغاية اليوم تمد إسرائيل بالأسلحة التي يستخدم بعضها في غزة، كما تغطي جرائم إسرائيل سياسيا ودبلوماسيا.

المصدر : الجزيرة

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا