
خاص - شبكة قدس: لم يكن ليَسمع بانعقاد المؤتمر الوطني الفلسطيني في الدوحة، جمهور واسع من الشعب الفلسطيني، لولا حركة فتح والسلطة الفلسطينية والمنصات الإعلامية الرسمية وغير الرسمية المحسوبة عليها، والناطقين الإعلاميين، والقيادات التي انخرطت في حملة تشويه للمؤتمر والقائمين عليه. كانت التهمة الرئيسية التي وجهها هؤلاء للمؤتمر هي أنه يحاول الالتفاف على تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية لصالح جهات إقليمية ودولية وغيرها.
ورغم أن المؤتمر دعا في بيانه إلى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أساس وحدوي، بحيث تشمل جميع القوى السياسية والهيئات الأهلية والمدنية والاقتصادية الفاعلة، واعتبر أن هذه مهمة مصيرية وملحة لا تحتمل التأجيل، إلا أن الدعاية المضادة التي رافقته اتهمته بأنه يحاول إنهاء المنظمة. وهنا يمكن للمرء أن يتساءل: هل إعادة بناء المنظمة على أساس وحدوي هي وصفة لإنهائها؟.
وعودة إلى النقطة التي أُشير إليها سابقًا فيما يتعلق بدور مناهضي المؤتمر من حركة فتح والسلطة في إثارة الاهتمام فيه، فإن هذا لا يعني تقليلاً من شأنه أو شأن القائمين عليه، لكن في ظل توالي الأحداث المتعلقة بصفقة التبادل واتفاق وقف إطلاق النار، فإن أجندة الفلسطينيين مزدحمة في التفاصيل اليومية والأحداث التكتيكية. المؤتمر، بوصفه يطرح رؤية استراتيجية، لم يكن على سلم أولويات الاهتمام العام، لكن حساسية فتح وتحديدًا قيادتها المتنفذة من إثارة مسألة إصلاح المنظمة، دفعها لفرضه ضمن أولويات اهتمام الفلسطينيين من خلال دعاية، ساهمت لصالح المؤتمر أكثر من مساهمتها لصالح أصحابها.
هذه الحساسية مصدرها الأساسي هو عدم وجود مشروع حقيقي للمنظمة المسيطر عليها من دائرة صغيرة جدا في حركة فتح (عباس ومن حوله)، وتهميشها في معظم الملفات الساخنة في المرحلة الحالية. بالإضافة إلى عدم وجود مشروع سياسي حقيقي لديها لإنقاذ الحالة الفلسطينية، وانسداد الأفق أمام مشروعها السياسي في ظل تراجع الاحتلال عن الالتزام بكل ما تم الاتفاق عليه مع المنظمة في أوسلو، ولم يبق من هذا الاتفاق إلا الشق الأمني (التنسيق الأمني) حيًا.
وليس ذلك فحسب، بل إن المنظمة بطبيعتها الحالية مفيدة جدًا لقيادة السلطة الفلسطينية، التي تتعامل معها كميتٍ تخرجه من ثلاجة الموتى متى تشاء، تلقي ببصمات يده المتراخية على ما تشاء من الأوراق والقرارات. مثال واضح على ذلك ما يجري حاليًا بخصوص هيئة شؤون الأسرى والمحررين، وهي إحدى مؤسسات منظمة التحرير، والتي جرى إقالة رئيسها قدورة فارس لأنه خالف قيادة السلطة. إقالة باسم المنظمة، سيبدأ مرسوم إقالته بالإشارة إلى أن القرار صادر عن "رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير". أما الهيئة نفسها، فيبدو أن مصيرها الاندثار أيضًا بمرسوم يبدأ بالنص ذاته.
في الأدبيات السياسية العامة، يُشار إلى السلطة الفلسطينية بوصفها المشروع الذي احتوى المنظمة. لكن نظرة لما يجري الآن، يتبين أن هذه الأدبيات بحاجة إلى الإضافة، فحتى السلطة نفسها جرى احتواء مشروعها في رؤية وقرارات مجموعة أفراد. فعليًا، يسيطر هؤلاء على السلطة، وتسيطر السلطة على المنظمة. وبينما تقدم السلطة دورًا لوجستيًا وإداريًا وتنفيذيًا لصالح رؤية هؤلاء، فإن دور المنظمة هو منح الشرعية.
المثال الخاص بهيئة شؤون الأسرى وقدورة، يصف حالة المنظمة، ويقدّم سيرة مختصرة لواقعها الحالي. شخص واحد يتعامل معها كختم من حبر؛ يقيل ويعين ويلغي مؤسسات وينشئ أخرى، ويقدّم القضايا الوطنية الحساسة، مثل قضية الأسرى، قرابين للأمريكيين والإسرائيليين، وكل ذلك باسم المنظمة. هذا امتياز نادر يدرك أصحابه أن إصلاح المنظمة يعني فقدانه، ولذلك فإن أي دعوة للإصلاح مهما كانت صغيرة أو كبيرة تؤرقهم، فما بالك بمؤتمر يشارك فيه مئات الشخصيات المهنية والسياسية.
ضمن هذه السياقات، ينظر مسؤولو السلطة وعلى رأسهم عباس لمنظمة التحرير. يستخدمون إرثها وتاريخها واعتراف النظام الدولي فيها، لتمرير كل ما يناقض أهدافها التي أنشئت من أجلها، ويحاربون كل من يحاول أن يثير ضرورة إشراك كل أطياف الشعب الفلسطيني فيها، ثم يدعون تمثيلها لكل أطياف الشعب الفلسطيني، ويتهمون كل من ينتقدها بالتساوق مع الاحتلال الإسرائيلي، رغم أن الاحتلال لم يعترف إلا بها في يوم من الأيام بينما يصف باقي الأطراف الفلسطينية بالإرهابية.
إن المؤتمر الذي يعقد في الدوحة، وبعيدا عن ما قد يخرج عنه أو ما قد يحقق على أرض الواقع، إلا أنه كشف كما كان متوقعًا عن هشاشة متأصلة في الشعور بالشرعية عند القيادات التي تسيطر على منظمة التحرير، والتي وظفت الإعلام وأجهزة الأمن (منع بعض المشاركين من المغادرة إلى الدوحة) لتشويه وإحباط هذه الخطوة. لكنه قد يكون خطوة ضمن جهد تراكمي متنوع مترابط وغير مترابط على طريق تفنيد هذا الاحتكار للمنظمة، وصولًا في مرحلة ما إلى كسر الاحتكار بشكل فعلي.
قد لا تبدو مهمة كسر الاحتكار سهلة، لكنها ممكنة إذا ما نفضت بعض الفصائل المنضوية في إطار المنظمة، والتي لا تشكل رؤيتها ومواقفها مدخلًا في قراراتها ولو بنسبة 1 بالألف بالمئة، عن نفسها غبار النظريات القديمة وأصنام الأدبيات التقليدية، وتجرأت على الوقوف وقفة حازمة ونهائية من هذا المشروع الذي تمت السيطرة عليه وتحويله من حي إلى ميت يقفز من ثلاجة الموتى فجأة في المناسبات الإشكالية.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا