Skip to main content

رجل الظل في كتيبة جنين: الوجه الذي رآه محمود العارضة أثناء عملية نفق الحرية

20 آذار 2025
https://qudsn.co/رجل الظل في كتيبة جنين: الوجه الذي رآه محمود العارضة أثناء عملية نفق الحرية

جنين - خاص قدس الإخبارية: الشهيد المقاوم عمر طارق السعدي، 25 عاماً، أحد مؤسسي كتيبة جنين ورجل الظل فيها، أسير محرر أمضى أربع سنوات ونصف في سجون الاحتلال، وأُصيب ثلاث مرات برصاص جيش الاحتلال، وارتقى في اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال على أرض مخيم جنين.

كان عمر يسير من اشتباك إلى اشتباك بقلبٍ من حديد وزند لا يرحم، يشيع الأخلّاء وهو يُخبّئ وجهه الباكي خلف السلاح، وأيام شوق فؤاده لهم يبكيهم، ويُخبّئ قلبه الدامي وعينيه النازفتين تحت اللحاف، ويبكي نفسه التوّاقة للجنان.

عمر، الهادئ الخجول، صاحب الضحكة التي لا تغيب، تصفه والدته قائلة: كان بشوشاً دائم البسمة، حنوناً مع أهله ومع أهالي مخيمه. أينما يتواجد، يبدأ الجميع بالضحك، إذ كان عمر صاحب روح مرحة، ويكثر من المزاح وإدخال البهجة والسرور في قلوب الناس. كان أديب الطبع، قوي الشخصية، لا يتأخر عن المبادرة في المساعدة، ويستمر في تفقّد أحوال الناس ومدّ يد العون للفقراء. كان يحمل شخصية مميزة، وتقول والدته: "عمر كان سبع".

كان دائماً يحدثها عن الشهادة قائلاً: "انو أحسن أموت موت عادي وإلا استشهد؟"، يحب المخيم مثل روحه ويحب الدفاع عنه. وكانت والدته كلما ذهبت إلى بيت أجرٍ ورأت أم شهيد، تتخيل نفسها مكانها، وفي قرارة نفسها كانت على يقين أن عمر شهيد وما استشهاد إلا مسألة وقت.

رغم عدم علمها بانتمائه للكتيبة وقتاله فيها، لكن أكثر ما جعلها تشعر بالخوف عليه هو حاله بعد ارتقاء صديقه وخليله عبدالله الحصري، وكيف انقلب حاله، وكيف كان غضبه وألمه بادياً على وجهه وفي حديثه، وليس لمن يحمل هذا الألم إلا أن يثأر للدم.

كان عمر وعبدالله رفيقيّ طفولة، ثم أصبح كل واحد منهما فتى يضرب الحجارة، وبعمر الفتية أصبحا رجال الاشتباكات، ترافقا في الأسر، ثم مجدداً خرجا إلى أزقّة المخيم، جنباً إلى جنب، يسيران من اشتباك إلى اشتباك، في مخيم جنين، في برقين، في قباطية، في السيلة الحارثية، ثم يشيعان الشهداء، من المخيّم إلى اليامون إلى برقين، أينما سال الدّم تجدهما.

يحرص كلٌّ منهما على الآخر، ويفدي أحدهما الآخر، في إحدى المرات سأل عبدالله: "وين رايحين يا عُمري؟" فأجاب عمر: "رايحين نستشهد يا وِلِد" فرد عبدالله: "يلا يا وِلِد"، ثم ارتقى عبدالله في اشتباك مسلح في الأول من آذار 2022، وبعدها دون أن يسأله أحد، ظلَّ عمر يردد: "رايحين نستشهد يا وِلِد" ترافقها ابتسامة اليقين.

ويروي "أبو يوسف" أحد مقاتلي كتيبة جنين في سرايا القدس : كان عمر من أعز رفاقي منذ طفولتنا، نشأنا في المخيم سوياً، كان يلبّي كل من يقصده، لا يرد الناس أبدا، كان مرح الشخصية، بسيط الطباع، طيب القلب، يحبّه الناس ويألفون وجوده.

أمّا عن عمر المقاوم فيقول أبو يوسف: كان من أشرس المقاتلين، ويذكر موقفا لهما عام 2019 حين اقتحمت قوات الاحتلال مخيم جنين، فسارع أبو يوسف للحاق بهم نحو شارع الناصرة، وفوراً، أتى شاب ملثم على دراجة نارية، ترجّل وبدأ بإطلاق الرصاص عليهم من مسدسه، حين توقف جنود الاحتلال للحاق به، وأثناء انسحابه من المكان، سقط على الأرض وجُرح وجهه، تقدّم أبو يوسف للمساعدة دون معرفة من هو الشاب، وعندما اقترب عرف أنه عمر. قال له أن يصعد معه على دراجته النارية، لكن عمر رفض ذلك وغادر مسرعاً.

في اليوم التالي تلاقيا في المخيم، احتفظ أبو يوسف بالأمر لنفسه ولم يُبدِ له شيئاً. اقترب منه عمر مدركاً أنه بات يعلم أنّه هو من يقوم بإطلاق النار على الاحتلال، واستحلفه بالله ان يظل هذا الأمر سراً بينهما، بعد مدة من الزمن تم اعتقال عمر في سجون الاحتلال. وبعد خروجه من الأسر، سأله أبو يوسف إذا ما كان سبب اعتقاله إطلاق الرصاص، فأجابه عمر قائلا: "والله ما عرفوا ولا سألوني عنها عشان تعرف انه اللي بده يعمل بالسر كيف بعمل".

وكلما اقتحم الاحتلال المخيم، كان عمر أول من يتصدى لهم، كان يحمل سلاحه ويخبئه أسفل ملابسه. لم يكن عمر مقاوماً فحسب، بل كان يتتبع الجواسيس، ويرصد الزنانات، ويلاحظ من أي الحواجز خرج جنود الاحتلال، ومن أي المداخل سيتقدمون، فيقول: "أول ما بدخل الجيش بيوقع بين إيدين عمر".

كان يحرص على سرية عمله، وغيابه عن أنظار الناس، فلا يخرج بالعتاد، ولا يحدّث أحداً عمّا يفعل. كان يحرص على صدقه مع الله، ويتوخى الحذر حتى لا يتم اعتقاله، إذ كان من أشد الناس كرهاً للسجون، ويقول عن عمر وكل شهداء الكتيبة: "كلهم ولاد سجن، دخلوا حاقدين وطلعوا حاقدين، وروحوا عملوا اللي بدهم إياه"، أي أسسوا الكتيبة.

ويروي عن صدقه وتفانيه أنه أثناء الاشتباك كان عمر يرتدي سترة لرجل خمسيني، ويرتدي بنطالين، ولثامين، ويرتدي القفازات، ويوجع الاحتلال. كان يريد أن يكون عمله خالصاً لله، وعندما أُصيب إصابته الأخيرة قبل الارتقاء، في بادئ الأمر لم يتمكن أحد من معرفة من هو الشاب المصاب، بسبب كل ما كان يرتديه
يروي عبدالله، أحد أبناء عمومته.

 إن عمر كان معروفاً لدى جميع أهالي المخيم، ولم يقصّر يوماً مع أحد، وعندما لا يعرف كيفية مساعدة الآخرين في أمر ما، يظل يحاول إلى أن يعرف، ولا يقول للناس "لا" أبداً. وكان يُصلح بين الناس ويسير بالخير بينهم. يقول: "كان يحط نفسه الطيب ونفس الخير والصُلح، وإذا صار شيء بالعيلة، عمر أول واحد بخطر ببالنا". ويقول حين ارتقى عمر، كانت العائلة تردد: "راح سيف العيلة".

وفيما يخص اعتقاله، فقد كان هو وصديقه عبدالله الحصري في سجن جلبوع رفقة الأسير القائد محمود العارضة، وكان شديد التعلق به. وكان يحب الأسرى، خاصة أسرى المخيم من الذين خاضوا معركة نيسان 2002. وبعد عملية نفق الحرية، وتحرر العارضة ورفاقه، كان عمر يقول: "إن شاء الله يجوا عنا على المخيم عشان نحميهم". وعندما تمكن جيش الاحتلال من إعادة اعتقال العارضة ورفاقه، كان عمر أشد الناس قهراً.

كان عمر رجل ظل، وأقرب الناس إليه من رفاقه وأهله وأبناء عمومته لم يكونوا على علم بمقاومته، يقول إنه اكتشف مقاومة عمر قبل فترة قصيرة من ارتقائه، حين رآه صدفةً وهو يتصدى لجنود الاحتلال. ويقول إنه حين ارتقى الشهيد نور الدين جرار عام 2021 ركض إلى عمر ليخبره، وسرعان ما اختفى عمر. كان قد لبس جعبته وأخذ سلاحه وذهب للاشتباك، لم يكن ليبيت على ثأر الدم.

بعد ارتقاء عبدالله الحصري، ما عاد عمر نفسه، انطفأت روحه المرحة، وشحب وجهه وما عاد باسماً، وكلما ذهبوا إلى المقبرة، كانوا يجدون عمر بجوار قبر الحصري، كان يرفض البكاء أمام أحد، وعندما يكون بجوار القبر وحده يبكي ويستمر في الحديث مع الحصري، وفي إحدى المرات سمعه يعِده باللحاق به.

ثم ارتقى ثلّة من صحبه وكلهم مقاومون ومنهم: أحمد السعدي، متين الضبايا، تامر نشرتي، محمد السعدي، فاروق سلامة، داوود زبيدي، أدهم جبارين، وكل هذا الفقد ما زاده إلّا حقداً وإصراراً على الاستمرار في القتال.

عن الاشتباك الأخير والشهادة التي طال انتظارها

صباح السادس والعشرين من يناير\كانون الثاني 2023 اقتحمت قوات الاحتلال مخيم جنين، واندلعت اشتباكات مسلحة أسفرت عن العديد من الإصابات. تمكّن الشبان من إسقاط طائرة مسيرة لجيش الاحتلال، ثم بدأ الاحتلال بهدم جدران نادي المخيم الذي كان يستخدم كنقطة إسعاف المصابين

منعت قوات الاحتلال طواقم الإسعاف من الدخول إلى المخيم ونقل المصابين، استمرت الاشتباكات مع تفجير العبوات الناسفة، وقام الاحتلال بقصف شقة سكنية، وفي غضون ساعات قليلة، ارتكب الاحتلال مجزرة في المخيم، ارتقى خلالها 9 شهداء و20 مصاباً، بينهم 4 في حالة خطيرة.

أحد الإصابات الخطيرة كانت لعمر السعدي، حيث أُصيب بثلاث رصاصات في الخاصرة والبطن والصدر. ويقول أحد رفاقه في الكتيبة، الذي كان شاهداً على الاشتباك الاخير: كان الشبان يشتبكون، وحين عرف عمر بخبر إصابة شاب داخل أحد أزقة المخيم في حارة الحواشين، قرر التوجه إليه ليقوم الشبان بسحبه لمحاولة إسعافه، فيما يقوم عمر بتغطية الاشتباك.

كان قنّاص الاحتلال أمامه مباشرة هذا ما لم يره عمر، وحين أطلق رصاصه على جنود الاحتلال، أطلق القناص الرصاص عليه، الرصاصة الأولى اخترقت الزناد واستقرت في صدره، ثم أصيب برصاصتين في البطن والخاصرة، فسقط عمر أرضاً، قام الشبان بسحب سلاحه، ثم تمكنوا من سحبه.

كان ما يزال على قيد الحياة، وتأخر المسعفون بسبب منع الاحتلال وصولهم إلى المكان، فيما كان الشبان لا يعلمون من هو الشاب المصاب، بسبب كل ما كان يرتديه من ملابس. وكان آخر ما نطق به: "خلوهم يدفعوا الدين اللي عليّ، خلوا أمي تسامحني، أنا بحب أهلي".

تم إسعافه نحو المستشفى حيث أجريت له العمليات الجراحية لاستخراج الرصاصات، فيما ظل فاقداً للوعي ودخل في حالة غيبوبة استمرت ثلاثة أيام. ثم ارتقى في التاسع والعشرين من كانون الثاني 2023. تأثّر أهالي المخيم باستشهاده وفُجع به رفاقه، وزفته كتيبة جنين في بيان لها: 

"بكل الفخر والاعتزاز، تزف كتيبة جنين - سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، شهيدها القائد: عمر طارق السعدي (25 عاماً)، الذي ارتقى شهيداً متأثراً بجراحه التي أصيب بها خلال اشتباك مع قوات الاحتلال الخميس الماضي، إن استشهاد القائد المقاوم عمر السعدي، الذي التحق بركب إخوانه من قادة ومجاهدي كتيبة جنين، سيزيدنا عزيمة وإرادة، وسوف تتحول هذه الدماء وقوداً يزيد من جذوة المقاومة ولهيبها الذي يمتد في كل الساحات".

وفي الرابع عشر من فبراير\شباط 2023، خلال جلسة الاستئناف لأسرى نفق الحرية في محكمة الاحتلال بمدينة الناصرة المحتلة وجّه الأسير محمود العارضة رسالة لعائلة الشهيد عمر السعدي قائلا: "أقدم التعازي لعائلة الشهيد عمر السعدي، ودمه سيكون ثمن حرية القدس وحريتنا، والجنادل التي مُدّت بدماء عمر لن تصب إلا في بحر الحرية والخلاص".

وفي الثاني والعشرين من فبراير\شباط 2023 القائد محمود العارضة يبعث برسالة من عزل عسقلان قائلاً: "أردت الحديث عن صديقي وحبيبي عمر السعدي أثناء جلسة المحكمة ولكنني خشيت أن أبكي عليه لأنني أحبه كثيراً، كسر قلبي وخسارتي كبيرة وهو من أحب الناس إلى قلبي.

ويكمل: وقد حاول عمر الدخول إلى فلسطين المحتلّة من أجل البحث عني أثناء الهروب، وأثناء التحقيق بعد اعتقالي كان التركيز عليه، لأنهم يعرفون كم أُحبه، وقد نصبوا لي كميناً أمام بيته أثناء عملية الهروب من جلبوع".

ثم مجدداً من عزل عسقلان يبعث العارضة برسالة في الأول من آذار 2023 الموافق للذكرى السنوية الأولى لارتقاء الشهيد الحصري يقول فيها:

"في ذكرى استشهاد القائد الكبير والصديق العزيز القمر الوضّاء عبدالله الحصري في دنيانا، أبارك له قدوم الركب الطاهر وعلى رأسهم الشهيد المقاوم عمر السعدي، ليس غريبًا أن لا يتأخر عمر على عبدالله وأدهم وكل الشهداء، وكل يوم كنت أنتظر صعوده وأن يدق بوابة السماء، قالوا لي بعد الهروب إن عبدالله وعمر حاولوا بكل السبل كي يدخلوا إلى فلسطين المحتلة من أجل محمود ومن معه، وهناك في الجبال قلت لصديقي يعقوب أن عمر والأصحاب يجوبون الأرض ذهابًا وإيابًا كي يمدوا يد العون، كنت أراهم بين الغيمات وعلى التلال المنثورة في الجليل. يرتقي الشهداء وترتفع الرايات وتستمر المقاومة حتى لو سقطت الضحايا من طرف واحد، الدم يروي الأرض وتنبت من جديد قامات جديدة تدق أسوار القدس إيذانًا بالحرية والخلاص، وقد كان عبد الله نبض نور المخيم بعد أن ارتوت أرضه بدماء طوالبة وزياد العامر وكل الشهداء".

هذا عمر، بهيّ الطلّة، قويّ الحضور، هادئ يبعث على الطمأنينة لمن حوله، يدرس فعله ويخطط لعمله بحذر تام، يتوارى عن الأنظار دون أن يبتعد عن خط النار المقدّس.

عاش عمر حياته لله وعلى عين الله، كان صادقاً مع الله ومع الناس، محباً معطاءً، يحمل المسؤولية منذ الصغر، صاحب مروءة لا تخفى وصاحب بسمة لا تغيب.

أن يكون للمرء صديق كعمر، هذا يعني أنه حظيّ بكل حظّ الدنيا من صديق صالح يسير برفقته نحو الله، كان عمر رجلاً لا يعرف إلا الرجال ولا يفعل إلا أفعالهم. كان كبيراً وظل يكبر ويكبر، إلى أن ترفّع وارتفع إلى جنة عالية.

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا