"المصير المجهول".. حكايا معلّقة لآلاف المفقودين في قطاع غزة

غزة- في فجر الحرب يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان محمد يقف أمام المرآة، يسرّح شعره وهو يدندن "مهاجرٌ في الله ودّع أهله"، ثم تعطر قبل أن يودع زوجته وأطفاله الأربعة، ليخرج مشاركا في هجوم المقاومة الفلسطينية على مستوطنات غلاف غزة، دون عودة.
تقف زوجته آلاء بعد أكثر من عام ونصف من هذا الغياب أمام المرآة ذاتها، تُعلق عليها ورقة خطت عليها "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"، فهي لا تعلم حتى اللحظة إن كان زوجها "في الأرض أم في السماء" كما تقول، وهي التي ما زالت ترزح أسيرة لتلك اللحظة الأخيرة التي اختفى بها طيف زوجها من أمامها، وتترنح بين خبرين أحلاهما مر: "هل هو شهيد أم أسير؟".
وتقول للجزيرة نت "أعيش حالة من الانفصال، أحيانا أرى أنه من الأهون عليه أن يكون شهيدا من أن يتلقى عذاب السجون، ولكني حين ترهقني التربية ويستنزفني الشوق، أتمنى أن يكون أسيرا يقضي محكوميته ثم يعود إلي".
ثقل المصير المجهول
حيرةٌ تجعلها عاجزة أمام أطفالها الذين لا يكفون عن السؤال عن والدهم، إذ يصعب عليها أن تشرح لهم معنى "المصير المجهول" فلا تستطيع الإجابة عليهم سوى بالدموع وطلب الدعاء له، وتوضح آلاء "لم تيأس طفلتي (8 سنوات) من محاولات الاتصال المتكررة كل ليلة على هاتف والدها المغلق، وهي تلح عليّ بأنها تريد سماع صوته لدقيقة واحدة فقط".
إعلانوبينما يمر الليل ثقيلا عليها حيث تطاردها الهواجس والأفكار، يطغى صوت تساؤلاتها "حتى لو كان شهيدا، هل سيكون جسدا أم أصبح عظاما؟ هل سأستطيع توديعه؟ هل سيسلمون جثمانه؟ هل سأتقبل عدم حدوث ذلك؟"، تسأل آلاء التي لم تستطع الاعتياد على غيابه أو ملء مساحته الفارغة في حياتها وحياة أبنائها المعلقة، دون خبر يلوح في الأفق أيا كانت فحواه.
هي حيرة تجتاح قلوب مئات العائلات رغبة في معرفة مصير أبنائهم الذين تعددت أسباب فقدهم، لكن هناك أحداثا فارقة فُقد فيها الآلاف من الفلسطينيين خلال الحرب بدءا من يومها الأول، انتقالا لفقد المئات خلال عبورهم محور نتساريم الفاصل بين شطري القطاع شمالا وجنوبا، إضافة إلى الاجتياحات البرية لشمال القطاع ومستشفيي حمد في خان يونس والشفاء في غزة.

"تواصلوا مع أي أحد ليجلينا من المنزل الآن، الدبابات على مدخل البيت، والعمارة المجاورة لنا تحترق"، كان هذا فحوى الاتصال الأخير للطبيب أحمد مرتجى مع ابنته النازحة في جنوب القطاع، عقب الحصار الإسرائيلي لمربع مجمع الشفاء الطبي بعد هجوم الاحتلال المباغت له في مارس/آذار 2024، ليُفقد بعدها الاتصال به وبأخيها اللذين كانا معا في شقتهما بجوار المشفى.
محاولات حثيثة واتصالات لم تتوقف مع الصليب الأحمر أجرتها آلاء، لمحاولة إجلائهما دون جدوى، ليصبح مصيرهما مجهولا منذ ذلك الحين، حالة من التخبط يعيشها أهالي المفقودين خاصة مع تضارب الأخبار والمعلومات غير الدقيقة التي تصلهم تباعا من مصادر مختلفة.
تقول آلاء للجزيرة نت "نشر الاحتلال مقطعا مصورا لجنوده وهم يقتحمون منزلنا مع كلابهم، ولكن حين جاء أخي عقب الانسحاب لتفقدهم، وجد البيت منسوفا، مما رفع سقف توقعاتنا بأن يكونوا جثامين تحت الأنقاض".

عظام بلا هوية
وبينما كان المعارف والأصدقاء يقدمون لآلاء التعازي، خرج أسير من سجن النقب وقال إنه رأى والدها، مما زاد تخبطهم وحيرتهم، وبدأت العائلة برحلة البحث واقتفاء آثار الطبيب وابنه بعد تكرار أخبار من الأسرى المحررين برؤيته.
إعلانلكن الاحتلال -ومن خلال مؤسسات حقوقية- رفض الإدلاء بأي معلومات بشأن مصيرهما وظل ينفي وجودهما في السجون الإسرائيلية مما يعني اختفاءهما قسرا، وهو وصف يطلق على الأشخاص الذين تتوافر دلالات واضحة على وجودهم في السجون من شهود عيان رأوهم لحظة الاعتقال، أو من محررين رأوهم داخل السجون، لكن الاحتلال ينفي ذلك ويرفض تقديم معلومات عنهم.
كما تخفي الأنقاض تحتها مأساة أخرى ووجها جديدا بلا ملامح للفقد، حيث يضم الركام رفات الآلاف من أجساد الفلسطينيين دون القدرة على انتشالهم لانعدام المعدات الثقيلة المخصصة لرفع الأسقف الإسمنتية المطبقة على أجسادهم، مما اضطر سليم أبو اغبيط إلى أن يحفر بيديه فقط منذ 3 شهور لانتشال 25 فردا من عائلته من تحت طبقات منزهم الذي انهار فوقهم عقب استهدافه في اجتياح جباليا الأخير في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
بصبر لا يشبه صبر البشر، لم ييأس سليم من البحث عن أهله، يحمل بيديه كيسا من القش يفتحه وهو يتحدث للجزيرة نت "هنا أجمع الجماجم والأعمدة الفقارية والعظام التي انتشلتها لهم، ثم حين يمتلئ الكيس أقوم بالحفر وأدفنهم معا في قبر واحد".

وبينما لا تستطيع عينا الناجي الوحيد سليم إخفاء صدمته من الحالة التي يعيشها، إذ سألته الجزيرة نت إن كان بإمكانه حصر الجثامين التي انتشلها منذ 3 شهور حتى اليوم فقال "لا أعرف كم دفنت ولا من دفنت، لم أجد جسدا كاملا أو هيكلا ملتصقا، كما لم أستطع تمييز أحد من آخر، إلا ابنة أخي كان لها بقايا شعرها الأسود، وأخي عرفته من محفظته التي في جيب بنطاله المهترئ".
يصمت وعيناه معلقتان بالركام قبل أن يتابع "أكثر ما يوجعني هو أن أمي ضاعت تحت الأنقاض، لا وجه لها لأقبله، ولا يدا لأشد عليها".
إعلانلم تكن قصة سليم مجرد مأساة فردية، بل هي عنوان موجع لمئات القصص المأساوية التي يعيشها أهل غزة، تتجاوز فيها الخسارة معنى الفقد، وتمتد إلى اليأس من إيجاد أثر، فلا وداع ولا صلاة ولا جنازة بل أطلال بيوت أشبه بمقابر عظيمة يؤمها الناس للملمة بقايا ذكرى وفتات أجساد.
تعنت إسرائيلي
وإذ كشف المكتب الإعلامي الحكومي للجزيرة نت أن عدد المفقودين خلال الحرب على غزة يقدر بـ11 ألفا، منهم شهداء لم يصلوا للمستشفيات وما زال مصيرهم مجهولا، فإن عددا من مراكز الإحصاء الفلسطيني تضع المفقودين تحت الأنقاض خارج التصنيف لأن مصيرهم معلوم وإن لم يتم انتشالهم، وهؤلاء تتراوح أعدادهم حسب إحصائياتهم من 6 إلى 8 آلاف مفقود.
وكشف غازي المجدلاوي المسؤول في وحدة البحث الميداني بالمركز الفلسطيني للمفقودين أن هناك صعوبة في حصر عددهم، أو الوصول لإحصائية نهائية "فعدّاد الأرقام سيظل متزايدا مع استمرار العمليات العسكرية التي لم تتوقف على القطاع".
وأكد المجدلاوي أن الاحتلال يرفض إدخال فحص الحمض النووي اللازم للتعرف على هوية الشهداء مجهولي الهوية قبل دفنهم، موجها نداءه لوزارة الصحة بتجميع الجثامين مجهولة الهوية في مقابر جماعية مخصصة إلى حين توفر فحوصات البصمة الوراثية للتعرف على أصحابها.
ولفت إلى أن 315 جثمانا سلمهم الاحتلال في حاويات عن طريق الصليب الأحمر على 4 مرات متفاوتة، وصلوا متحللين دون أدنى إيضاح لبياناتهم أو أماكن اختطافهم، في إطار ما أعلن عن أنه بحث عن جثامين الأسرى الإسرائيليين، مما صعّب إمكانية التعرف عليهم دون وجود فحوص للحمض النووي.
كما دعا أهالي المفقودين للتفاعل مع روابط تسجيل المفقودين، حيث تمكنوا من معرفة مصير عدد منهم من خلال البحث المتواصل وتم إبلاغ أهاليهم بذلك.
وينتقد المركز عدم وجود تحرك جدي في ملف المفقودين، مطالبا المؤسسات الدولية بقيادة عملية إنسانية عاجلة للعمل على كشف مصير الآلاف منهم في غزة، و"هو حق كفلته القوانين والمواثيق الدولية في مناطق النزاع".
إعلان