أوقاف سوريا.. ثروة عقارية تحت أنقاض الفساد

في الوقت الذي يفترض فيه أن تشكل الأوقاف ركيزة اجتماعية لدعم الفقراء والمحتاجين وتمويل التعليم والخدمات الدينية، تكشف الوقائع في سوريا بعد سقوط النظام عن واحدة من أكبر قضايا الفساد المنظّم التي طالت هذا القطاع الحيوي.
فعلى امتداد العقود الماضية، تحوّلت آلاف العقارات الوقفية في دمشق وحلب ومدن أخرى إلى أدوات للإثراء الخاص ومشاريع استثمارية بيد متنفذين في النظام المخلوع، في ظل غياب الشفافية واحتكار المزايدات.
ومع بداية مرحلة جديدة في سوريا، تسعى وزارة الأوقاف إلى استعادة هذه الأملاك، وتصحيح ما أفسده النظام المخلوع.
يتناول هذا التقرير حجم الثروة الوقفية في البلاد، وأبرز مظاهر الفساد التي طالتها، والآليات المقترحة لمعالجتها، والتحديات التي تواجه إعادة الاعتبار لمفهوم الوقف في سوريا.

من مؤسسة مجتمعية إلى أداة سلطوية
لم يكن الوقف في سوريا مجرد نظام قانوني لتنظيم التبرعات، بل كان لقرون عماداً للحياة الاجتماعية والاقتصادية، يمول التعليم والإسكان والرعاية الصحية، وحتى رعاية الحيوانات، لكن مع خروج العثمانيين عام 1918، بدأت هذه المؤسسة تواجه التسييس والتفكيك.
في ظل الانتداب الفرنسي خضعت الأوقاف لسيطرة الدولة، وبدأت تتآكل استقلاليتها، ثم استُكملت هذه السيطرة بعد الاستقلال، حيث تراجعت مصالح الأوقاف، وضربت قضية الوقف ضربة شديدة بإصدار قوانين تبيح عدم التقيد بشروط الواقف المتبرع.
لكن التحوّل الأكبر وقع مع وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى الحكم عام 1963، حين أصبحت وزارة الأوقاف خاضعة كلياً للسلطة التنفيذية، وتحولت العقارات الوقفية إلى مصدر تمويل سياسي وشخصي.

وبحسب إحصاءات وزارة الأوقاف ذاتها، فقد بلغ عدد العقارات الوقفية في سوريا نحو 33 ألفا و700 عقار موزعة كما يلي: حلب 18 ألف عقار، دمشق 8 آلاف عقار، إدلب 3 آلاف عقار، باقي المحافظات 4 آلاف عقار، ويقسم الوقف إلى 3 أقسام:
إعلان- الوقف الخيري، وهو الذي يشترط فيه الواقف صرف عائداته إلى جهة خيرية مستمرة الوجود، مثل (الفقراء والمساكين والمساجد والمدارس والمستشفيات) وغيرها، وهو الأكثر رواجاً في سوريا.
- والوقف الأهلي أو الذري، الذي يخصص عائده للذرية في البداية ثم لاحقاً لجهة خيرية.
- والوقف المشترك، وهو ما اشترك في استحقاق عائده الذرية وجهات البر عامة.
بقيت الأوقاف مخصصة للأيتام والفقراء والمساجد على الورق، لكن في الواقع جرى تفريغ مضمونها، وأُبرمت آلاف العقود مع مسؤولين وتجار نافذين بأسعار رمزية أو بموجب نفوذ أمني، وهذا ما دفع السوريين إلى الإحجام عن التبرع بأراض أو أملاك للأوقاف منذ العام 1965، وذلك بحسب تقارير وتصريحات إعلامية لمسؤولين في وزارة الأوقاف.

منظومة فساد محمية بالقانون في قبضة النظام
لم تكن سياسات النظام السوري السابق في مؤسسة الأوقاف مجرّد فساد إداري، بل كانت، بحسب خبراء ومسؤولين حاليين في الوزارة، عملية مدروسة نفذت على مدى عقود، بدءاً من حافظ الأسد وحتى بشار، عبر منظومة فساد استخدمت القوانين لتجريد الوقف من استقلاله وتحويله إلى مصدر دخل دائم للنظام وشبكة المنتفعين المحيطة به.
ففي عهد الأسد الأب والابن، تحوّلت وزارة الأوقاف من جهة راعية للفقراء والمحتاجين إلى "خزينة غير رسمية" تُدار في الظل، بعقود استثمار طويلة الأمد أُبرمت مع رجال أعمال مقربين من السلطة، بأسعار لا تعكس أدنى قيمة لعقارات بعضها في قلب دمشق وحلب.
لم تكن هذه السيطرة لتتم دون غطاء قانوني، فقد أصدر النظام السوري منذ عهد حافظ الأسد، وبعده بشار جملة من التشريعات مكّنت وزارة الأوقاف من التصرف المطلق بالعقارات الوقفية، أبرزها القانون رقم 31 لعام 2018، الذي منح صلاحيات واسعة في التعاقد والاستثمار دون رقابة قضائية أو شفافية مالية.
وفي هذا السياق، كشف سامر بيرقدار، مدير الأوقاف في محافظة دمشق، ومعاون وزير الأوقاف لشؤون الوقف، عن منظومة فساد ضخمة كانت قائمة أيام النظام المخلوع تعمل على نهب عائدات الوقف، وتوزيعها ضمن شبكة من المقربين أيام حكم الأسدين، وعلى رأسهم بشار الأسد وزوجته أسماء ورامي مخلوف.
وعن تفاصيل هذه المنظومة، قال بيرقدار للجزيرة نت، "وزارة الأوقاف هي من أغنى الوزارات في سوريا من حيث العقارات، لكنها كانت الأفقر من حيث الواردات، نتيجة شبكة فساد ضخمة نسجت خيوطها أيام النظام البائد، واستغلت الغطاء القانوني لتحويل ريع الوقف إلى مصالح خاصة".
وبحسب القانون 31، الصادر عام 2018 تُعتبر عقارات الأوقاف ذات طبيعة خاصة، أي أنها ليست أملاك دولة ولا أملاك أفراد، وإن كان معظمها في الأصل من أملاك الأفراد ـالذين هُجِّر أغلبهم بسبب ظروف الحرب أو الملاحقة الأمنيةـ إلا أنهم تبرعوا بها. ومن عقارات الوقف، على سبيل المثال، الجوامع والتكايا ودور التوحيد والمدارس والمكتبات والمقابر والمقامات والمزارات.

شبكات فساد وملايين مسروقة
تحولت وزارة الأوقاف التي يفترض أن ترعى أموال الفقراء والمحتاجين، إلى واجهة قانونية لتمرير عقود إيجار واستثمار تخدم رجال السلطة والمقربين من عائلة الأسد، بينما كانت العائدات الفعلية تكاد لا تذكر مقارنة بالقيمة الحقيقية للأملاك المؤجرة.
إعلانومن أمثلة النهب والفساد، بحسب بيرقدار، إنه في قلب دمشق نُقلت أرض وقفية قرب ساحة الأمويين لصالح محافظة دمشق بموجب مرسوم من بشار الأسد، ثم وُضعت تحت تصرف شركة تتبع أسماء الأسد.
ويتابع بيرقدار، إن هذه الأرض التي كانت تضم مدينة ألعاب موسمية، أُجّرت بعقد قيمته 60 ألف دولار فقط لكل ستة أشهر، قبل أن تكشف المزادات بعد تحرير سوريا أن قيمتها الحقيقية تصل إلى 320 ألف دولار لنفس الفترة.
أما مجمع يلبغا -يضيف المسؤول السوري- فهو مثال صارخ على تقلب العقود بحسب الأسماء المتنفذة، فبينما وُقّع عقد استثماري مع شركة خليجية عام 2007 مقابل 5.5 ملايين دولار سنوياً، أُلغي العقد وأُقيل الوزير بعد أن حاول رامي مخلوف الاستحواذ على المبنى.
ثم أُعيد المشروع لاحقاً إلى مستثمر مقرّب من بشار الأسد، بعقد جديد لا يتجاوز 340 ألف دولار سنوياً بدعم من وزير أوقاف النظام محمد عبد الستار السيد، ما يكشف بوضوح أن القرب من السلطة كان هو المعيار الحقيقي لتحديد "قيمة" العقار.
إلى جانب ذلك، كشفت تقارير إعلامية أنه في إدلب ظهر التفاوت جلياً بعد خروج المدينة على سيطرة النظام، حيث رُفعت الإيجارات الوقفية إلى قيمة السوق الرائجة، وبلغت العائدات السنوية 2.4 مليون دولار، وهو ما يفوق إجمالي عائدات الوقف في عموم سوريا قبل الثورة، والتي لم تكن تتجاوز 1.6 مليون دولار سنوياً.
تفكيك إرث الفساد بعد سقوط النظام
منذ سقوط النظام السابق في ديسمبر/كانون الأول 2024، دخلت وزارة الأوقاف مرحلة جديدة من التصحيح والمحاسبة، تستهدف إعادة الاعتبار لمؤسسة الوقف بعد عقود من الاستغلال والنهب المنظم، فقد بدأت الوزارة بمعالجة ملفات الفساد المتراكمة، واسترجاع العقارات الوقفية التي استولى عليها نافذون في النظام السابق بطرق غير قانونية، وذلك بحسب عدة مصادر في وزارة الأوقاف.
من ناحيته، أكد معاون الوزير سامر بيرقدار، أن الوزارة تعمل على تفكيك منظومة الفساد التي أحكمت سيطرتها على قطاع الأوقاف كاملا، وتعمل الآن على "إعادة الوقف إلى أصوله الشرعية والاجتماعية، كما أراده الواقفون الأوائل".
وفي خطوة لافتة، أصدرت مديرية أوقاف دمشق تعميماً رسمياً بفسخ عقود الإيجار المبرمة مع أبناء عدنان الأسد، ابن عم الرئيس المخلوع، والمتعلقة بعقار تجاري في منطقة باب مصلى وسط العاصمة. العقار الذي تبلغ مساحته 745 متراً مربعاً كان مؤجّراً بعقد وُصف بـ"المجحف"، إذ لم تتجاوز قيمة إيجاره 300 دولار سنوياً، رغم موقعه التجاري الحيوي مقابل مستشفى الرشيد.
وبحسب نص التعميم، فإن المزاد رُسّي على أبناء عدنان الأسد دون منافسة حقيقية، وباستغلال مباشر للنفوذ، ما دفع الوزارة إلى مطالبتهم بإخلاء العقار فوراً، في أول إجراء رسمي ضد أحد رموز الأسرة الحاكمة السابقة في ملف الأوقاف.

وفي السياق ذاته، أوضح بيرقدار أنه تمت استعادة عدة عقارات بارزة، منها مجمع يلبغا ومدينة الألعاب في دمشق، إضافة إلى وقف القطط شمال الجامع الأموي، الذي كان مؤجّراً لتجار بصفقات رمزية منذ عهد النظام المخلوع.
وإلى جانب الإجراءات التنفيذية، أعلنت الوزارة تأسيس صندوق مستقل لإدارة الاستثمارات الوقفية، منفصل عن خزينة الدولة، لضمان الشفافية والحوكمة الرشيدة في إدارة العائدات، بعيداً عن التدخلات السياسية السابقة.
كما باشرت الوزارة مراجعة شاملة لجميع عقود الإيجار التي أُبرمت خلال العقود الماضية. وقد بادر عدد من المستأجرين إلى مراجعة مديريات الأوقاف طوعاً لتعديل شروط عقودهم، تماشياً مع القواعد الجديدة التي تضع مصلحة الوقف في المقدمة.
وفي سياق متصل، أصدرت أوقاف دمشق في 10 يوليو/تموز الجاري قراراً يقضي بفسخ عقد سينما الكندي "الواقعة على العقار الموصوف بالمحضر رقم 2285 منطقة صالحية جادة، وببدل 30 دولارا أميركيا سنوياً لمساحة تتجاوز الـ700 متر مربع". وأوضحت المديرية أنها ستعيد تأهيل العقار المذكور "ليكون مركزاً ثقافياً يشع منه نور المعرفة والعلم على شباب سوريا".

عقبات كبرى وحلول جذرية للإصلاح
رغم التقدم الذي تحرزه وزارة الأوقاف السورية في جهود استرداد حقوق الممتلكات الوقفية، فإن مسار تفكيك المنظومة الفاسدة لا يزال محفوفاً بتحديات قانونية وإدارية وتنظيمية عميقة، تراكمت عبر عقود من التعتيم الممنهج في عهد النظام المخلوع.
إعلانمن أبرز هذه العقبات، ما أشار إليه سامر بيرقدار، وهو غياب أرشيف منظم وموثق للعقارات الوقفية، حيث لا تزال معظم الأملاك مسجلة في "أضابير مهترئة" يعود بعضها إلى أكثر من خمسة عقود، في ظل غياب أي قاعدة بيانات إلكترونية. واعتبر بيرقدار هذا الإهمال المتعمد جزءاً من سياسة طمس المعلومات لتسهيل السيطرة على الوقف من شبكات النفوذ السابقة.
عقبة أخرى تتمثل في القوانين الموروثة، وعلى رأسها قانون الإيجار، الذي يكرّس ما يُعرف بـ"التمديد الحكمي"، والذي يسمح للمستأجرين بالاحتفاظ بالعقارات إلى أجل غير مسمى، هذا القانون كما تقول الوزارة لا يمكن أن يستمر في حكم العلاقة بين الوقف والمستأجر، ويجري العمل حالياً على تعديله بالشراكة مع وزارة العدل.
وتواجه الوزارة أيضاً ملفاً بالغ الحساسية، ويتمثل في العقارات الوقفية التي كانت مؤسسات حكومية مستولية عليها، ويبلغ عددها 543 عقاراً، منها مبانٍ كبرى كوزارة الزراعة في دمشق، وقد بدأت هذه المؤسسات فعلياً بإعادة العقارات إلى ملكية الأوقاف بعد صدور قرارات استرداد رسمية.

وفي مواجهة هذه التحديات، أطلقت الوزارة خطة شاملة للإصلاح، تتضمن، بحسب ما أفادت مصادر في الوزارة للجزيرة نت، أتمتة أرشيف الوقف بالكامل، وإنشاء قاعدة بيانات مركزية بالتعاون مع الأرشيف العثماني، ومراجعة قانون الإيجار وتعديل القانون رقم 31 بما يتوافق مع مصلحة الوقف وشروط الواقفين، وتشكيل غرفة قضائية وقفية متخصصة للنظر في نزاعات الوقف بما يراعي الطابع الشرعي والتاريخي له.
وكذلك مخاطبة الجهات العامة لإخلاء العقارات الوقفية التي كانت تحت إشرافها دون وجه حق، وفتح باب التعاقد مع مكاتب محاماة خاصة للتكفل باسترجاع الأوقاف المسلوبة، بما فيها تلك التي انتُزعت بقرارات سياسية أو عبر مزادات صورية.
وتسعى الوزارة في خطتها أيضا إلى تشجيع البحث الأكاديمي في مجال الوقف، بهدف تطويره، وتقديم العقارات الوقفية الكبرى للهيئة العامة للاستثمار، لضمان إدارتها بكفاءة ضمن إطار شفاف يخدم الصالح العام.