
لم تعد أزمة الكهرباء في لبنان أزمة تقنية فحسب، بل باتت مرآة تعكس عقودًا من الفساد والهدر والمصالح السياسية الضيقة. فالأزمة التي يرزح تحتها اللبنانيون اليوم ليست وليدة اللحظة، بل نتيجة تراكمات لوزارات فشلت في بناء قطاع خدماتي مستدام وشفاف. والإصلاح، بحسب الخبراء، لا يتحقق بقرار آني أو بكبسة زر، إذ بينما يكفي الفساد لحظة واحدة لخلق الفوضى وتدمير الثقة، يحتاج مسار الإصلاح إلى وقت وإرادة وجهد متواصل.
الكادرات والعقود
تتمثل أولى مشكلات القطاع في الكادرات المؤهلة داخل الوزارة، التي جرى تهميشها واستبدالها بجيش من المستشارين والمتعاقدين، ما أدى إلى فراغ بنيوي في القدرات المطلوبة. وقد جرى التعويض عبر الاستشاريين من خارج الوزارة أو من خلال تلزيم الشركات، ما عمّق الفوضى والفساد اللذين تغلغلا برعاية سياسية واستشارية وبحماية “السماسرة” الذين حكموا العلاقة بين المواطن والإدارة. هذه العقود، المنظمة وغير المنظمة، شكّلت بدورها سببًا رئيسيًا للأزمة. فمن عقود مقدمي الخدمات التي جُدّدت لسنوات طويلة من دون مناقصات شفافة، إلى عقود شراء الفيول التي كبّدت الدولة أموالًا طائلة من دون آلية قانونية واضحة، برز ملف “سوناطراك” الذي وصفه خبراء بأنّه “مجزرة حقيقية”. أما المشكلة الأساسية فلم تكن في البواخر أو في استجرار الطاقة من سوريا بحدّ ذاتهما، بل في طريقة شراء الخدمة التي صيغت لتخدم شركة واحدة. فالمناقصات لم تُجرَ عبر إدارة المناقصات كما يفرض القانون، بل حصريًا تحت إشراف الوزارة ومكتب الوزير. وكانت مشاريع الطاقة الموقتة تُنفّذ على حساب مشاريع الطاقة الدائمة. فقد سيطر ملف البواخر لسنوات على طاولة مجلس الوزراء، فيما طُمست مشاريع أكثر استراتيجية. برغم المطالبة مرارًا بأن تتضمن دفاتر الشروط معامل دائمة إلى جانب الموقتة، لإلزام الشركات بإنجاز معامل مستدامة بدل الاكتفاء بحلول موقتة مكلفة”.
الهيئة الناظمة: ولادة بعد 23 عامًا
بعد أكثر من عقدين من التعطيل، أقرّ مجلس الوزراء في 11 أيلول 2025 إنشاء الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، في خطوة وُصفت بالمفصلية، إذ أنهت تعليق العمل بالقانون 462 الصادر عام 2002. وجاء القرار بعد ستة أشهر فقط على تولّي جو صدّي وزارة الطاقة، ليضع حدًّا لمسار طويل من المناكفات السياسية والصفقات التي كبّدت الخزينة ما يقارب الأربعين مليار دولار. وفي هذا الإطار، أكّد مصدر في وزارة الطاقة لـ “نداء الوطن” أنّ إقرار الهيئة الناظمة يشكّل “الحجر الأساس في انتظام القطاع وإصلاحه، والمطلب الرئيسي للجهات المانحة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي”. وأوضح المصدر أنّ هذه الخطوة تُعدّ شرطًا لازمًا لانطلاق ورشة الإصلاحات المنتظرة، مشيرًا إلى أنّها المرّة الأولى منذ عقود لا تعتمد فيها الوزارة على خزينة الدولة لتأمين الفيول، بعدما جرى تمويله مباشرة من عائدات الجباية بدلًا من الاستدانة.
تطهير إداري وخطوات شفافة
أكّد نائب رئيس الحكومة السابق وعضو تكتل الجمهورية القوية النائب غسان حاصباني، في حديث إلى “نداء الوطن”، أنّ الوزير الحالي جو صدّي يسعى إلى ما وصفه بـ “تطهير إداري” يهدف إلى إبعاد السماسرة والوسطاء الذين رسّخوا نفوذهم في القطاع على مدى سنوات، وتشديد آليات منح التراخيص والتدقيق في مساراتها، فضلًا عن محاسبة كل من استغل موقعه لتحقيق مكاسب سياسية. وفي ما يتصل بملف الفيول، أشار حاصباني إلى أنّ صدّي اتخذ خطوة أساسية تمثّلت في وقف الاستدانة من الخزينة العامة لتأمين الفيول، وإلزام مؤسسة كهرباء لبنان بتوفيره من عائدات الجباية. هذه المقاربة دفعت المؤسسة إلى التعامل بجدية أكبر مع تحصيل الفواتير، الأمر الذي قد ينعكس تحسّنًا ملموسًا في مستوى التغذية الكهربائية. ورأى حاصباني أنّ المرحلة المقبلة تستوجب إخضاع كلفة الفيول لمناقصات شفافة طويلة الأمد، بالتنسيق مع هيئة الشراء العام، بما ينهي حقبة التمديد القسري لعقود منتهية كانت تثقل كاهل الدولة وتفتح الباب واسعًا أمام الهدر.
ملف السدود والمياه
من خلال متابعة دقيقة لملف السدود يتّضح أنّ السياسات التي اعتُمِدت خلال السنوات الماضية لم تحقق الغايات المرجوّة. فالمشاريع التي أُطلقت تحت عنوان “الأمن المائي” لم تفِ بوعودها، إمّا بسبب فشل التنفيذ أو لغياب رؤية وطنية متكاملة لإدارة الموارد المائية. وقد تكشّف هذا الخلل بشكل أكثر حدّة في سنوات الشحّ المائي، كما هي الحال في العام الحالي، حيث يواجه لبنان أزمة حقيقية نتيجة غياب أي مخزون استراتيجي يمكن الاعتماد عليه لتخفيف تداعيات الجفاف.
هذه التجربة تؤكد الحاجة الملحّة إلى وضع استراتيجية وطنية شاملة لإدارة المياه، قائمة على الاستدامة والتخطيط الطويل الأمد، بدل التركيز على مشاريع سدود أثبتت محدودية فعاليتها. وفي هذا السياق، لفتت الأوساط المتابعة إلى خطوة تنحية مدير عام مياه بيروت وجبل لبنان جان جبران، على خلفية أدائه المهني وتعاطيه العلني في الشأن السياسي رغم شغله منصبًا إداريًا رفيعًا من الفئة الأولى، وهو ما اعتُبر إشارة إلى ضرورة إعادة ضبط الأداء المؤسساتي في هذا القطاع الحساس.
ملف الفيول والباخرة
أما في ما يخص ملف الفيول، فقد عادت إلى الواجهة تداعيات العقد الذي وقّعه الوزير وليد فياض في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مع الدولة العراقية، والذي ينص على تزويد لبنان بالفيول العراقي ليُستبدل عبر موردين بفيول آخر مطابق للمواصفات اللبنانية. الوزارة شددت في هذا السياق على فحص العينات الواردة من البواخر بشكل دوري للتأكد من مطابقتها. غير أنّ الإشكالية برزت أخيرًا مع تبيان أنّ بعض شحنات الفيول كانت تصل من روسيا عبر تركيا وتُسعّر للبنان على أساس أنها تركية، وبسعر أعلى من السعر الفعلي للفيول الروسي. وزارة الطاقة سارعت إلى إحالة الملف كاملًا إلى القضاء والجمارك للتحقق من صحة هذه المعطيات، مؤكدة أنّ الدولة اللبنانية حفظت حقوقها من خلال كفالة مالية محجوزة لدى المورد تعادل فرق الأسعار المحتملة.
وقد تم توقيف إحدى البواخر رهن التحقيق، وحين حاولت مغادرة المرفأ بصورة غير قانونية، أوقفها الجيش اللبناني في عملية نوعية. ورغم أنّ التحقيقات القضائية والجمركية لا تزال جارية ولا يمكن استباق نتائجها، إلّا أنّ وزارة الطاقة تؤكد أنّ حقوق الدولة مصونة. وتبقى الإشارة إلى أنّ أهمية هذا الملف لا تقتصر على الشحنة الموقوفة فقط، بل تستوجب مراجعة شاملة لتاريخ هذا العقد وكيفية تطبيقه في السنوات السابقة، خصوصًا أنّ عشرات البواخر دخلت إلى لبنان بموجبه من دون أن يُسجَّل أي اعتراض أو إخبار رسمي آنذاك.
مسار شاق لكنه حتمي
يؤكّد النائب غسان حاصباني أنّ تحسين التغذية الكهربائية ممكن بشكل تدريجي إذا ما اقترن بإدارة رشيدة، ومناقصات شفافة لتأمين الفيول، ودعم دولي يواكب المسار الإصلاحي. ويشدّد على أنّ العمل اليوم يجب أن يكون “تنفيذيًا لا نظريًا كما في السابق”، مذكّرًا بأنّ “المال العام هو مال دافعي الضرائب”، وأنّ من يلتزم بالدفع يستحق خدمة لائقة. وأضاف: “هذا القطاع جرى تفكيكه على مدى أكثر من 15 عامًا، ولا يمكن إصلاحه بكبسة زر. الإصلاح البنيوي يحتاج إلى وقت وإرادة سياسية، لكن المؤكّد أنّ مرحلة الهدر والفساد التي كبّدت الخزينة ما يقارب الأربعين مليار دولار قد انتهت، وبدأت مرحلة جديدة ترسم مستقبل الطاقة في لبنان”.
مفترق مصيري
إنّ إنقاذ قطاع الكهرباء لم يعد ترفًا إصلاحيًا بل ضرورة وجودية، إذ إنّ حجم الخسائر التي تحمّلها الاقتصاد والمودعون والمواطنون يفوق القدرة على الاحتمال. فالهدر في هذا القطاع يوازي ضعفي كلفة حماية صغار المودعين، ما يجعل الإصلاح رهانًا على بقاء الدولة نفسها. واليوم، يقف لبنان أمام مفترق مصيري: إمّا المضي في مسار حوكمة شفافة واستثمارات جاذبة تعيد الثقة والخدمات، وإمّا الاستسلام لدوامة الاستنزاف التي لم تنتج سوى العتمة.
نداء الوطن - جوزيان الحاج موسى
The post قطاع الكهرباء: الإصلاح يبدأ بالهيئة الناظمة appeared first on أخبار الساعة من لبنان والعالم بشكل مباشر | Lebanonfiles | ليبانون فايلز.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا