Skip to main content

كيف تحوّلت المونة والفخار والتنجيد إلى بدائل اقتصادية وصحية في زمن الأزمات؟

20 أيلول 2025

لم تعد الأزمات الاقتصادية في لبنان منذ 2019 مجرد تحديات مالية، بل أصبحت حافزاً لإعادة التفكير في أساليب الحياة والإنتاج المحلي. اذ لم يجعل انهيار العملة وارتفاع الأسعار، الأسر تبحث عن بدائل استهلاكية فحسب، بل دفعها إلى إعادة اكتشاف مهارات وحرف كانت توصف يوما بأنها منقرضة أو منسية، لتحويل ما كان يعتبر مجرد نشاط تقليدي إلى فرص اقتصادية وإبداعية ملموسة. هذه الاشغال لم تعد تمثل فقط رموزا للتراث أو ممارسات منزلية، بل أصبحت أدوات لبناء اقتصاد شعبي مصغر، حيث يتحول البيت إلى وحدة إنتاجية صغيرة تساهم في صمود الأسرة، ويصبح الحرفي أو المواطن صانعا للفرص بدلا من مجرد مستهلك.

الشيء اللافت اليوم هو أن عودة هذه الاختصاصات لم تأتِ بالأساليب التقليدية نفسها؛ بل أعيد تصميمها وتطويرها بأسلوب حديث يوازن بين الحرفة اليدوية والفن والتقنيات الحديثة. من تصبيت السيراميك إلى إصلاح الأحذية أو صناعة الخشب والخيزران، لم تعد مجرد خدمات عملية، بل تحولت إلى استثمارات مدروسة، تعتمد على تخطيط مسبق وتنميق وابتكار، بما يعكس قدرة الأفراد على دمج الإبداع بالاقتصاد المنزلي.

من هذا المنظور، يمكن النظر إلى معاودة إحياء الحرف المنسية في لبنان على أنها عملية نقدية وتجديدية مزدوجة: فهي تعيد الاعتبار للمهارات الشعبية، وتخلق فرصا اقتصادية، وتقدم تجارب جمالية جديدة تتناسب مع احتياجات العصر، بينما تساهم في تعزيز صمود العائلات والمجتمعات المحلية في مواجهة التحديات المادية والاجتماعية المستمرة.

اشغال باتت عالمية!
في مقابل ذلك، شهد لبنان تحولات نقدية عميقة أثرت في حياة المواطنين اليومية. الأزمات المتلاحقة لم تعد مجرد تحديات سلبية، بل أوجدت مساحات لإعادة اكتشاف مهارات تقليدية متوارثة، حيث تحولت اكثرية الممارسات من كونها ضرورة للبقاء إلى فنون تحمل بعدا اجتماعيا وإبداعيا واقتصاديا في الوقت نفسه.

لا حدود لإبداع الجنوبيين!
وتمشيا مع ما تقدم، فان صناعة المونة في لبنان ليست مجرد عادة عائلية، بل تراث متجذر في الثقافة المحلية، يعود إلى أيام كانت فيها الأسر تعتمد على التخزين الموسمي للغذاء لضمان استقرار العائلة في الشتاء.

في قرية الجبين الجنوبية، ترتب أم علي صفوف الجرار الزجاجية الملأى بالمكدوس والكبيس واللبنة وورق العنب وحتى اللوبياء الخضراء المطبوخة، تقول: "عدنا الى تجهيز المونة متل أيام جداتنا، لكن مع ابتكارات جديدة لم تكن مألوفة من قبل، مثل: كبيس الجنارك والحر المحشي باللبنة والثوم السادة والثوم المبهّر".

اما بالنسبة الى الأسعار، فتوضح ان: "سعر مرطبان مكدوس الباذنجان الصغير بـ 600 الف والكبير بـ مليون وثمانمائة ألف ليرة ويبقى الصعتر الجنوبي هو الأعلى سعرا ويتفاوت من بائع الى آخر نظرا إلى جودته وطعمه الذي لا يضاهى".

أما في زحلة، فنجد مثالًا آخر للقدرة على التكيف مع الواقع، من خلال إحياء حرفة التنجيد، التي كانت مهنة متوارثة في لبنان منذ عقود، حيث اعتمدت الأسر على الحرفيين المحليين لترميم الأثاث وصيانته، يكشف أبو خالد لـ "الديار": "ان معظم أهالي المنطقة يأتون إليّ لإعادة تنجيد الملاحف والوسائد الصوفية والكراسي وأطقم الصالونات، وذلك لان الخشب يبقى قويا، لكن الفرش يتآكل، لذلك عادت هذه المهنة الى الانتعاش".

ويضيف: "التنجيد لم يعد مجرد عملية إصلاح، بل أصبح نشاطًا اقتصاديا وفنيا، يحافظ على الموارد ويقلل من هدر الأثاث، مع خلق فرص عمل محلية. ومع تطور التكنولوجيا، بدأ الحرفيون بالترويج لخدماتهم عبر الإنترنت، ما زاد من قاعدة عملائهم، وأتاح للحرفة التقليدية البقاء والتكيف مع العصر الرقمي".

من هذا المنظور، يمكن النظر إلى إعادة احياء مهن كانت قد اندثرت في لبنان على أنها أكثر من مجرد نشاط اقتصادي أو واجب منزلي؛ إنها حركة اجتماعية وثقافية، تعكس قدرة اللبنانيين على تحويل الأزمات إلى فرص، حيث يلتقي الإبداع بالفن والتقاليد بالاقتصاد. هذه الظواهر تعيد ربط الناس بتاريخهم وهويتهم المحلية، وتؤكد أن الأزمات يمكن أن تتحول إلى مساحات للإبداع، والابتكار، والحفاظ على التراث. علما بأن معظم المنجدين قبل نحو 10 سنوات كانوا من الجنسية السورية.

الفخار بديل جمالي وفني وصحي!
على صعيد متصل، الفخار في لبنان، كما في كثير من الثقافات القديمة، لم يكن مجرد وسيلة لتخزين الطعام أو حمل المياه، بل كان عنصرا أساسيا من الحياة اليومية ومؤشرا على الثقافة والمهارة الحرفية المحلية. لكن مع مرور الوقت، ومع دخول المواد الحديثة مثل البلاستيك والمعادن، تراجعت هذه الحرفة تدريجيًا، وباتت تُعتبر قديمة أو غير عملية، حتى اقتربت من الانقراض في بعض المناطق. الصناعات الحديثة والحاجة إلى إنتاج سريع ورخيص أخذت مكانها، مما أدى إلى تضاؤل أعداد الحرفيين المهرة الذين كانوا يحيون هذه المهنة ويعلمونها للأجيال التالية.

اليوم، ومع وعي الناس المتزايد بالصحة وجودة الغذاء، بدأت مهنة الفخار تعود ببطء إلى الحياة، ليس فقط كتراث ثقافي، بل كخيار صحي وعملي. وتشير الدراسات الطبية الحديثة إلى أن استخدام الفخار في تحضير وتخزين الطعام أكثر أمانًا من بعض المواد البلاستيكية، التي قد تنقل مواد ضارة أو تزيد من مخاطر الإصابة بأمراض مزمنة مثل السرطان. هذا الوعي أعاد الطلب على الفخار، وجعل من الخزّافين الذين يمارسونها اليوم ليسوا مجرد صانعي أدوات، بل مبدعين يدمجون التقليد بالتصميم العصري، ليصنعوا أدوات جمالية وعملية في الوقت نفسه.

في جميع الاخوال، إحياء مهنة الفخار في لبنان اليوم يعكس قدرة المجتمع على استعادة تراثه بطريقة تتلاءم مع العصر الحديث، حيث تتحول الحرفة إلى نشاط اقتصادي صغير، يربط بين الجمال، الصحة، والإبداع، ويمنح الأسر والمستهلكين خيارا مستداما وواعٍ. بذلك، لا تقتصر عودة الفخار على كونها استرجاعا لتقليد قديم، بل هي تحويل عملي وثقافي يحسن نوعية الحياة اليومية ويعزز الاقتصاد المحلي في الوقت ذاته.

أوان صحية بديلة للبلاستيك!
وفي هذا المجال، يقول السيد رواد، وهو خزّاف حافظ على مهنة اجداده: "في عيتا الفخار، كانت صناعة الفخار جزءا من حياتنا اليومية. كنا نصنع الأواني الفخارية من الطين المحلي، ونستخدمها في تخزين الطعام والماء. لكن مع مرور الزمن، وتغير أساليب الحياة، بدأت هذه الحرفة تتراجع شيئا فشيئاً".

ويضيف: "اليوم، وبعد سنوات من الإهمال، بدأنا نلاحظ اهتماما متزايدا بهذه الحرفة. بحيث أصبح الناس يفضلون استعمال الأواني الفخارية على البلاستيكية، نظرا إلى فوائدها الصحية. فالفخار لا يتفاعل مع الطعام، ويحافظ على نكهته، بينما البلاستيك قد يحتوي على مواد ضارة".

ويختتم: "نحن نسعى جاهدين لإحياء هذه الحرفة، ليس فقط للحفاظ على تراثنا، بل أيضا لتقديم منتج صحي وآمن للمستهلكين. ونحن نعلم أن الطريق طويل، لكننا مؤمنون بأهمية ما نقوم به".

الحرف اللبنانية تفوز
من جانبه، يؤكد مصدر في وزارة الصناعة لـ "الديار" ان: "هذا التحول يحمل أبعادا أوسع من مجرد إنتاج منزلي؛ فهو يخلق فضاءً لتعليم الشباب الحرف المنسية وفنون الطهي، وينمي مهاراتهم التي أصبحت تنتشر عبر الوطن العربي، ما يعزز الروابط بين الأجيال ويحفّز الإبداع المحلي. في الوقت نفسه، توفر هذه المشاريع فرصا حقيقية لتمكين المرأة اقتصاديا، إذ يمكن للنساء اللواتي لا يستطعن فتح محلات أو مغادرة المنزل بسبب التزاماتهن الأسرية أو البيئة المحافظة، بيع منتجاتهن عبر الإنترنت أو الأسواق المحلية، محققات بذلك استقلالية مالية جزئية تمكّنهن من إعالة أنفسهن وأطفالهن والمساهمة في الاقتصاد المحلي".

ويشير: "تصبح الحرف اليدوية اليوم أكثر من مجرد نشاط اقتصادي؛ فهي قوة اجتماعية وثقافية، تعيد الاعتبار للمهارات التقليدية، وتفتح أبوابا للتعاون المجتمعي، وتربط بين الاقتصاد المحلي والإقليمي بطريقة مستدامة، ما يجعل مستقبل هذه المهن واعدا على صعيد الإبداع، الصمود المجتمعي، وتمكين الأجيال القادمة".

ويتابع: "العالم، سواء من المغتربين اللبنانيين أو السياح العرب وغير العرب، يولي اهتماما بقطاع الحرف اليدوية في لبنان، ويرى فيه علامة على الأصالة والتراث الثقافي والقدرة على الابتكار المحلي. فالمهن التقليدية، لم تعد مجرد نشاط فردي، بل أصبحت تجربة سياحية وثقافية تحمل قيمة اقتصادية وجمالية، وتعكس صورة لبنان الأصيلة في الخارج. ورغم الأبعاد الإيجابية لتوسع صناعة المونة والحرف اليدوية، فإن هذا الانتعاش يتطلب تنظيما ومراقبة دقيقة لضمان استدامته وجودة منتجاته".

من جهته، يؤكد مصدر في جمعية الصناعيين لـ "الديار": "أن دور وزارة الصناعة أساسي لضبط قطاع صناعة المونة، مشددا على ضرورة مراقبة المواد التي تُعرض في المعارض أو تُباع للتجار أو الحرفيين. كما يجب اخضاع هذه المنتجات للاختبارات للتأكد من سلامتها ومطابقتها للمعايير المطلوبة، بما يضمن حماية المستهلك ويعزز الثقة في هذا القطاع الحيوي، معتبرا ان مراقبة الجودة لا تحمي فقط الاقتصاد المحلي، بل تعزز أيضا صورة الحرف اللبنانية على الصعيد الإقليمي والدولي، وتضمن أن يظل هذا التراث الثقافي مستداما وآمنا، مع الحفاظ على قيمته الاجتماعية والاقتصادية على المدى الطويل".

ندى عبد الرزاق - الديار

The post كيف تحوّلت المونة والفخار والتنجيد إلى بدائل اقتصادية وصحية في زمن الأزمات؟ appeared first on أخبار الساعة من لبنان والعالم بشكل مباشر | Lebanonfiles | ليبانون فايلز.

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا