Skip to main content

"حلقات نار تضيع فيها الحدود".. هل يحتاج العالم إلى معاهدة جديدة لعدم الانحياز؟

23 أيلول 2025

بعد قمة ألاسكا، والتباينات عبر الأطلسي، والتكتلات السياسية التي تزداد تكتلاً، وبعد التعسكر الأوروبي بوجه المطامع التوسعية الروسية، يشهد العالم تحوّلات جيوسياسية متتأجّجة، تتداخل فيها المصالح والمخاوف، ما يعيد رسم الخرائط كما نعرفها، ويكسر معادلات اعتدنا العمل وفق خطوطها الحمر.

هنا، يصبح السؤال الملح: أما زال الحياد، بمفهومه الحالي، ملاذاً آمناً لدول ترفض الاستقطاب الحاد؟ أما زال عدم الانحياز خياراً استراتيجياً لتفادي الانزلاق في حلقات نار تضيع فيها الحدود بين حلفاء وخصوم؟ أم أن العالم يتجه نحو لحظة يصعب فيها اتخاذ قرار كهذا؟

تهافت المفهوم وإحياؤه

في عصر الاستخدام الواسع النطاق للعقوبات الاقتصادية، والقيود على الصادرات التقنية ذات الاستخدام المزدوج، والحرب الهجينة، صارت الحدود بين زمني السلم والحرب ضبابية. لكن، تبقى تفاهمات الحياد عالقة في زمن الخنادق والأحلاف، علماً أن المفهوم الدولي للحياد، الذي دوّن في المعاهدات الأممية والدولية، يبقى ضرورياً من حيث المبدأ للأمن الدولي.

يقول نامان كارل توماس هابتوم في موقع "ريسبونسيبل ستايتكرافت" الأميركي إن المفهوم العام للحياد "تراجع فعلياً بانتهاء الحرب الباردة وانهيار المنظومة السوفياتية وانتفاء وجود حلف فرصوفيا، فأصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم. لكن، بعودة التعددية القطبية، يحيي العالم مفهوم الحياد الإيجابي وهو رميم، رغم أن معناه اليوم أقل وضوحاً من ذي قبل".

راهناً، ثمة أزمات وصراعات إقليمية وعالمية مستعصية على الحل، ابتداءً بحرب روسيا وأوكرانيا، ومروراً بعودة الحديث عن اشتعال المواجهة بين إيران وإسرائيل، وانتهاءً بحرب إسرائيل على غزة، ناهيكم بأحوال القارة العجوز ، والصراعات في شرق آسيا. وما دامت هذه الميادين مشتعلة، لا بد من إعادة تعريف للدول التي ترغب بالوقوف على الحياد. والسؤال المطروح في هذا الإطار: هل نعود إلى ما عرف سابقاً بـ"حركة عدم الانحياز"؟

حركة لا منظمة

بحسب ميثاق الأمم المتحدة، الحياد هو "الوضع القانوني الناجم عن امتناع دولة عن المشاركة في حرب مع دول أخرى، والحفاظ على موقف الحياد تجاه المتحاربين، واعتراف المتحاربين بهذا الامتناع وعدم التحيز". وتمثل "حركة عدم الانحياز" أحد أهم تبلورات هذا الحياد، إذ وفرت منصة لدول نامية للتعبير عن مصالحها من دون الانخراط في صراعات القوى العظمى. ورغم التحديات، يبقى دورها في إنهاء الاستعمار، ونزع السلاح النووي، وتعزيز السلام العالمي، إرثاً تاريخياً مهماً. وما كانت هذه الحركة حلفاً بالمعنى التقليدي، بل منظمة دولية تضم 121 دولة، تأسست في 1961 استجابة لانقسام العالم إبان الحرب الباردة، واختار مؤسسو الحركة تسميتها "حركة" لا "منظمة" لتجنب البيروقراطية المعتادة في التنظيمات الدولية.

أسس جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للهند، والرئيس المصري جمال عبد الناصر، والرئيس اليوغوسلافي جوزيب تيتو، هذه الحركة من رحم انهيار النظام الاستعماري ونضالات التحرر في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، في ذروة المواجهة بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي، مستندةً إلى "مبادئ باندونغ العشرة" التي أُقرت في مؤتمر باندونغ الآسيوي - الأفريقي في عام 1955، وفي مقدمها: الاحترام المتبادل للسيادة والسلامة الإقليمية، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والمساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي. وبرز فيها أيضاً أحمد سوكارنو (إندونيسيا) وكوامي نكروما (غانا).

أدت هذه الحركة دوراً محورياً في إنهاء الاستعمار، فساهمت في استقلال موزمبيق (1975) وزيمبابوي (1980) وناميبيا (1990)، وفي انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا (1992)، وفي وقف الحرب الكورية (1950-1953)، وأزمة قناة السويس (1956)، وإنهاء الحرب الإيرانية - العراقية (1980-1988). كما أسهمت في إقرار معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية (1963)، وتأسيس مناطق خالية من الأسلحة النووية حول العالم، وصوغ معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وتعزيز تقليد "عدم استخدام الأسلحة النووية" أو ما يُعرف بـ"المحرم النووي".

حيادٌ في عالم متغير

تردّ الباحثة سارة عفانة فشل "حركة عدم الانحياز" إلى صراعات نشأت بين أعضائها، لا إلى فقدان الحاجة إليها بانتهاء الحرب الباردة، وإلا لكانت استمرت في معالجة آفات دولية نتجت من الانحياز الواضح إلى القطب الأميركي الواحد، ولكان لها دور في غزو العراق، وفي الحرب على أفغانستان بحجة الحرب على الإرهاب... واليوم، في الحرب الإسرائيلية على "الجميع" بحجة الحرب على "حماس" بعد "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023.

لا شك في أن مفهوم الحياد في العلاقات الدولية لم يعد بسيطاً كما في السابق، خصوصاً مع تطور طبيعة الصراعات، وهذا يُعيد فتح النقاش حول معنى الحياد، والحاجة إلى معاهدة جديدة تنظمه، أكثر تطوراً مما اقترحه نهرو وعبدالناصر وتيتو في 1961، بعدما عدنا إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، مختلف عما سبقه.

يرى بعضهم أن هجوم روسيا على أوكرانيا في شباط/فبراير 2022 أعلن عن نهاية حقبة الهيمنة الأميركية، والعودة إلى حقبة التنافس بين القوى العظمى، فيما يرى بعضٌ آخر أن هذا الإعلان جاء مع انهيار 2008 المالي الذي كشف عن توجه الاقتصاد العالمي شرقاً، وظهور الصين منافساً حقيقياً للولايات المتحدة، فيما يربط بعض ثالث الأمر بحرب العراق (2003) التي كشفت حدود القوة الأميركية، وشكّلت بداية نهاية تفوقها العالمي بعد الحرب الباردة.

أياً كانت بداية تعدد الأقطاب، فإن الآراء متفقة على أن الانتقال إلى نظام عالمي جديد يجري الآن. وواضح أن الغرب كله، وفيه الولايات المتحدة، فشل في أداء دور الزعيم. ورغم عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فمن غير المرجح أن تستطيع أميركا الحفاظ على هيمنتها على المدى البعيد. يقول هابتوم: "حين يتسع نطاق الحياد، يتسع نطاق الاستجابة له. في أثناء إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، وصفت الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف ’ناتو‘ الصين بأنها ’عامل تمكين عدائي حاسم‘ بسبب علاقتها التجارية القوية بروسيا، لكنها تجاهلت في الوقت نفسه ازدهار التجارة الهندية - الروسية. وخلافاً لذلك، استهدفت إدارة ترامب الهند بشكل أشد عدوانية، فقد سمى بيتر نافارو، المستشار الاقتصادي لبايدن، الصراع في أوكرانيا بأنه ’حرب مودي‘، في إشارة إلى رئيس الحكومة الهندي".

ضرورة إعادة التعريف

إن كان التناقض واضحاً جداً في توصيف العداوات، فكيف الحال في ترجمة عدم الانحياز؟ ومع تجنب قوى صاعدة، مثل إندونيسيا والبرازيل والهند، الانخراط في الكتل التقليدية، تزداد أهمية الحياد أو عدم الانحياز، وتأتي معهما إمكانات هائلة للحدّ من مخاطر الحروب وتحسين التعاون العالمي. مع ذلك، في غياب تعريف متفق عليه عالمياً لهذا الحياد، ستكون فوائده محدودة. وبحسب هابتوم نفسه، من شأن معاهدة دولية تحدد بوضوح حقوق ومسؤوليات الدول المحايدة، فضلاً عن تعامل الآخرين معها، أن تقلل من أوجه التناقضات في كيفية تفسير هذا الحياد، وأن تستعيد الثقة في المعايير الدولية.

يضيف: "ستوفر معاهدة محددة للحياد قدراً أكبر من اليقين والشفافية في العلاقات بين الدول، لا سيما في ما يتعلق بالعلاقة بين الحياد والسلوك غير الحربي (مثل التجارة)، وستعزز الاعتراف الرسمي بالوضع المحايد للدول من قبل الدول المحايدة وغير المحايدة على السواء".

لكن، هل يمكن الاتكال بعد على مبادئ "لاهاي"؟ تمنع معاهدة لاهاي (1907) في مادتها الأولى "انتهاك حرمة أراضي القوى المحايدة"، وتحرّم في المادتين الثانية والثالثة على الأطراف المتحاربة "عبور أرض دولة محايدة بقواتها أو قوافلها المحملة بالذخيرة أو الإمدادات الحربية" أو "إنشاء محطة لاسلكية أو أي جهاز آخر للاتصال مع قوات متحاربة برية أو بحرية"، فيما تسقط وصف الحياد عن الدول التي (بحسب المادة 17) ترتكب أعمالاً عدائية ضد أحد الأطراف المتحاربة أو أعمالاً لصالح أحد الأطراف المتحاربة. وتنص المادة 10 على ألا يعد عملاً عدائياً ما تفعله دولة محايدة لصد محاولات النيل من حيادها، حتى ولو كان ذلك بالقوة.

في زمن الحرب الباردة، كان الحياد عدم انحياز إلى أحد القطبين: الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي. اليوم، ما عاد الحياد خياراً بين قوتين، بل بات أشد تعقيداً وسط عالم تتداخل فيه المصالح الاقتصادية والتجارية والمالية، وتضعف فيه القواعد التي تنظّم العلاقات الدولية. فالقوى الصاعدة مثل الصين وروسيا تنافس أميركا، من خلال مشاريع نفوذ اقتصادي وتقني واستراتيجي.

أما الولايات المتحدة، فرغم تراجع هيمنتها النسبية، فما زالت تحتفظ بأدوات السيطرة العالمية: الدولار، شبكات التحالفات العسكرية، التكنولوجيا، وقوة الإعلام. لكن قدرتها على فرض إرادتها على الجميع لم تعد كما كانت بعد الحرب الباردة. وبالتالي، المطلوب سياسة حياد أو "عدم انحياز" تأخذ العاملين الاقتصادي والتقني في الحروب غير التقليدية، كالحروب التجارية والتنافس التقني المحموم، في حسبانها.

على سبيل المثال، ما نطاق "عدم الانحياز" في هجمة اقتصادية أميركية مماثلة لرسوم ترامب الجمركية على دول مختلفة، ما دامت هذه الهجمة تضر بالاقتصاد العالمي؟ يمكن أن يكون لهذه الجهود أثر في رسم معايير جديدة في العلاقات الدولية، يساعد على الخروج بنسخة كاملة شاملة من الحياد الإيجابي.

أين العرب من الحياد؟

حين خرج نبأ التحالف الدفاعي السعودي – الباكستاني قبل أيام، كان السؤال الذي طرحه مراقبون: "من يدافع عمّن في هذا التحالف؟". فالبلدان صديقان للولايات المتحدة، وربما تكون السعودية أقرب الدول العربية اليوم إلى التحالف مع أميركا، وتسير على خطاها دول الخليج العربي.

ولكن، ما عاد أمر التحالفات محصوراً بالسياسة والدفاع العسكري، إذ توسعت التحالفات الاقتصادية وتنوعت. فالدول العربية لا تضع بيضها في سلة واحدة. تبقى الولايات المتحدة لاعباً محورياً في العلاقات مع العالم العربي، مركزة على الأمن ومحاربة الإرهاب والدفاع عن مصالحها في النفط والاستقرار الإقليمي. إلا أن العلاقات مع روسيا تشهد تعاوناً متزايداً في المجالين الأمني والعسكري، خصوصاً أن موسكو لاعباً مهماً أيضاً في سوريا وليبيا ومناطق أخرى بالشرق الأوسط، وتسعى إلى تعميق نفوذها بعروض في الطاقة والأسلحة والدعم السياسي لأنظمة عربية مختلفة. كما أن التعاون الروسي مع مصر والإمارات يزداد في الجوانب الاقتصادية والتكنولوجية.

والأمر لا يقتصر على جبارين، فالصين تعزز حضورها في العالم العربي اقتصادياً من خلال مشاريع البنية التحتية والاستثمارات الضخمة، خصوصاً عبر مبادرة "الحزام والطريق". وتستفيد الدول العربية من التعاون مع الصين في مجالات الطاقة والتكنولوجيا، مع رغبة بكين في تأمين موارد الطاقة، فيما يدفع الصراع الدولي الصين إلى توخي الحذر، وهي تحاول الحفاظ على توازن علاقاتها مع الولايات المتحدة وروسيا من دون تصعيد مباشر.

وفي لعبة التوازنات والمواجهات، يُدير العرب علاقات دقيقة مع القوى الثلاث في ظل صراع النفوذ العالمي. ومع تفاقم الصراعات في أوكرانيا والشرق الأوسط، يحاولون توظيف العلاقات الاستراتيجية هذه لصالح التنمية الوطنية والاستقرار الإقليمي. وبعض الدول العربية يحاول تنويع تحالفاته للحفاظ على الاستقلالية النسبية وتجنب الوقوع تحت هيمنة إحدى القوى . فهل تكون السياسة العربية أساساً لحياد دولي جديد؟

ديما عبد الكريم- النهار

The post "حلقات نار تضيع فيها الحدود".. هل يحتاج العالم إلى معاهدة جديدة لعدم الانحياز؟ appeared first on أخبار الساعة من لبنان والعالم بشكل مباشر | Lebanonfiles | ليبانون فايلز.

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا