Skip to main content

ذهب السودان.. من الأصول الكونية إلى مناجم الأنهار والصحاري

29 أيلول 2025

ذهب السودان.. من الأصول الكونية إلى مناجم الأنهار والصحاري

بحلول أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ظهرت حمى البحث عن الذهب في أكثر من اثنتي عشرة ولاية سودانية (رويترز)
Published On 29/9/202529/9/2025|آخر تحديث: 10:56 (توقيت مكة)آخر تحديث: 10:56 (توقيت مكة)

حفظ

الذهب عنصر كوني، فقبل وجود الأرض بملايين أو مليارات السنين تشكلت ذرات الذهب في أعنف أحداث الكون، إذ يعتقد علماء الفيزياء الفلكية أن العناصر الثقيلة مثل الذهب، تتكون عند انفجار النجوم الضخمة أو عند اصطدام النجوم النيوترونية، مما ينتج عنه تفاعلات نووية مكثفة.

تنشر هذه الظواهر الكونية ذرات الذهب في الفضاء، وبحلول الوقت الذي وُلد فيه نظامنا الشمسي قبل حوالي 4.6 مليارات سنة، كانت آثار ضئيلة من الذهب قد امتزجت بالغبار الذي يحيط الشمس، والذي سيكوّن الكواكب لاحقا.

تنشر هذه الظواهر الكونية ذرات الذهب في الفضاء (رويترز)

الزائر الفضائي

ومع تشكل الأرض، انجذب بعض من هذا الذهب البدائي -إلى جانب معادن ثقيلة أخرى- بفعل الجاذبية إلى نواة الأرض الحديدية المنصهرة.

في الواقع، يُقدر العلماء أن كمية من الذهب غرقت في نواة الأرض أثناء تشكلها تكفي لتغطية الكوكب بأكمله بطبقة سمكها 4 أمتار.

ومع ذلك، لم ينحصر كل الذهب في عمق النواة، بل تحتوي قشرة الأرض اليوم على كميات منه، وإن كانت ضئيلة جدًّا، لكن لماذا تحتوي القشرة على أي ذهب أصلًا إذا كان الكثير منه قد غاص إلى المركز؟ يكمن الجواب في الحدث الكوني اللاحق.

فبعد تشكل الأرض بمئات الملايين من السنين، تناثر سيل من النيازك على الكوكب خلال فترة سميت "القصف الثقيل المتأخر"، وكانت هذه النيازك ملطخة بكميات صغيرة من الذهب والمعادن الثمينة الأخرى، وعندما ضربت الأرض، أضافت طبقة من تلك المعادن إلى الوشاح والقشرة.

تدعم الأدلة الجيوكيميائية هذه الفكرة، إذ إن وفرة الذهب في الطبقات العليا من الأرض أعلى بعشرات إلى آلاف المرات مما هو متوقع.

رغم ذلك، يعد الذهب نادرا في قشرة الأرض: حوالي 5 أجزاء في المليار في المتوسط. لتوضيح الفكرة: إذا كان لديك طن من الصخور العادية، فستكون محظوظا إن وجدت فيه بضعة مليغرامات فقط من الذهب.

لأن الذهب مخفف جدا، تحتاج الطبيعة إلى ظروف خاصة لجمعه في مكامن غنية به (شترستوك)

جيولوجيا قديمة

ولأن الذهب مخفف جدا، تحتاج الطبيعة إلى ظروف خاصة لجمعه في مكامن غنية به، ولحسن حظ المُنقبين عن الذهب، تتوافر هذه الظروف في كوكبنا، حيث يميل الذهب إلى الوجود في شكلين رئيسيين في القشرة الأرضية: رواسب أولية محصورة في الصخور، ورواسب ثانوية متناثرة في التربة والمجاري المائية.

إعلان

في أعماق الأرض، تتسبب الحرارة والضغط في دوران الماء عبر شقوق الصخور، ويمكن لهذه السوائل الساخنة الغنية بالمعادن إذابة كميات ضئيلة من الذهب، ثم حملها، وعندما تنتقل السوائل الساخنة إلى مناطق أبرد، يمكن أن يترسب الذهب (أي يخرج من هذا المحلول) ويتبلور في الشقوق، إلى جانب معادن أخرى مثل الكوارتز والكبريتيد.

مع مرور الوقت، تشكل هذه العملية عروقا من الكوارتز الحاملة للذهب تتسلل عبر الصخور المضيفة.

قد لا يكون الذهب في هذه العروق واضحا للعين المجردة فورا، فقد يتوزع على شكل جزيئات مجهرية، ولكن في بعض الأحيان يُعثر على كتل ورقائق ذهبية مرئية مطمورة في الكوارتز.

يدرك الجيولوجيون أيضا أن الذهب يمكن أن يتركز داخل أنواع معينة من الصخور البركانية (التي تتكوّن عندما تندفع الحمم إلى سطح الأرض أو قريبا منه ثم تبرد بسرعة) أو المتحوّلة (التي تغير تركيبها ونسيجها بسبب الضغط والحرارة داخل القشرة الأرضية من دون أن تنصهر كليا)، مثل أحزمة "الحجر الأخضر" وهي صخور قديمة خضراء اللون نسبيا.

الأمر طبعا أعقد من ذلك، لكن الخلاصة أنه بمجرد أن ينكشف عرق أو صخرة تحمل الذهب على السطح، يبدأ التآكل، حيث تُفتت الرياح والمياه الصخور تدريجيًّا، مُحررةً الذهب.

ولأن الذهب كثيف للغاية (أثقل من الماء بـ19 ضعفًا) وغير متفاعل كيميائيا، فإن جزيئات الذهب المحررة لا تبتعد كثيرا عن مصدرها. تجرف المياه الجارية في الأنهار والجداول الرمل والطمي الخفيف باتجاه المجرى، لكن حبيبات الذهب الثقيلة تميل إلى الاستقرار في مكانها عندما يتباطأ التيار.

على مدى آلاف السنين، تُركز عملية التذرية هذه الذهب في مواقع محددة. على سبيل المثال، في منحنيات أو ضفاف الأنهار، أو في المنحدرات الطبيعية والشقوق في قاع الجداول، أو عند الشلالات. والنتيجة هي رواسب طينية (غرينية)، طبقة من الرمل أو الحصى تحتوي على رقائق أو كتل متناثرة من الذهب.

في الواقع، يمكن أن تكون كتل الذهب الغرينية كبيرة أو صغيرة، ولكن حتى البقع الصغيرة تلمع بين الرمال، بعد أن تم تنقيبها طبيعيًّا بواسطة الجيولوجيا. في الواقع، لقد بدأت العديد من حالات حمى الذهب عبر التاريخ باكتشاف رواسب الذهب الغرينية السهلة الاستخراج في الجداول.

باختصار، تُوفر جيولوجيا الأرض نوعين رئيسيين من رواسب الذهب لعمال المناجم كما أسلفنا، الأول هو عروق الصخور الصلبة (مصادر أولية حيث يوجد الذهب في صخور يحتاج استخراجه منها إلى إخراجها وسحقها)، والثاني هو الحصى الغرينية (تركيزات ثانوية من جزيئات الذهب الحرة التي تُمكن غربلتها من الرواسب).

الذهب كثيف للغاية، أثقل من الماء بـ19 ضعفًا (رويترز)

الخامل الغالي

تاريخيًّا، كان كلا النوعين من الذهب مهمّان. على سبيل المثال، حفر المصريون القدماء مناجم لاستخراج الذهب من عروق الكوارتز، لكنهم، ومعهم العديد من الشعوب اللاحقة، أدركوا أيضا أهمية غربلة رواسب الأنهار للحصول على ذهب حر.

خمول الذهب الكيميائي يعني أنه يبقى معدنيا وبراقا حتى بعد مرور دهور تحت الأرض، وعلى عكس الحديد، فهو لا يصدأ، وهذه المتانة هي سبب العثور أحيانا على الذهب في شكله الطبيعي تماما، لامعا كالشمس، بدون أي تدخل.

إعلان

لكن الأمر ليس بتلك السهولة، فالعثور على الذهب ليس سوى نصف القصة، وتحويل الخامات والبقع الطينية إلى معدن نقي هو النصف الآخر، الذهب الذي يصنع منه خاتم أو قلادة يمر برحلة طويلة من التعدين والاستخلاص والتكرير ليصل إلى شكله النهائي.

في الرواسب الغرينية، قد يكون التعدين بسيطا كجمع الرواسب بمجرفة وغربلتها في نهر، الغربلة هي التقنية التقليدية، التي لا تزال تستخدم حتى اليوم، حيث يُحرك عامل المنجم حوضا من الحصى بالماء، ولأن الذهب ثقيل، تستقر الرقائق في قاع الحوض بينما يتسرب الرمل الأخف.

أما بالنسبة للرواسب الأولية (الصخور الصلبة)، فيكون التعدين أصعب، حيث يجب على عمال المناجم استخراج الصخور الحاملة للذهب من الأرض، إما عن طريق حفر مناجم مفتوحة إذا كان الخام قريبًا من السطح، أو عن طريق حفر نفق تحت الأرض إذا كانت عروقه عميقة، وربما يحتاجون إلى استخراج أطنان من الصخور من الحفر المفتوحة الضخمة للوصول إلى عروق الذهب.

بعد ذلك، تُفتّت الصخور الغنية بالخام إلى شظايا صغيرة لبدء استخراج الذهب منها.

بعد تحويل الصخور إلى مسحوق، يكون الهدف فصل جزيئات الذهب الدقيقة عن المعادن المحيطة (الفرنسية)

بعد تحويل الصخور إلى مسحوق، يكون الهدف فصل جزيئات الذهب الدقيقة عن المعادن المحيطة. في العصور القديمة استُخدمت طرق بسيطة تعتمد على الغربلة والغسل، لا تزال هذه الطرق تستخدم إلى اليوم، لكن أضيفت إليها طرق كيميائية لاستخلاص أدق، إلا أن بعضا منها سامّ ومضر بالبيئة، لكنه يستخدم على أية حال.

الأمر لا يقف عند هذا الحد، فهناك عدد من العمليات المعقدة للتكرير التي تصل في النهاية إلى الصهر، الذي ينتج سبائك ذهب غير نقية، غالبا ما تحتوي على حوالي 90% من الذهب، وتحتاج إلى مزيد من التنقية، حيث يُسخّن الذهب المنصهر إلى درجة حرارة عالية، ويُضخ تيار من غاز الكلور عبره.

يتفاعل الكلور مع المعادن الملوثة، مثل الحديد والرصاص والزنك، فيُحوّل هذه الشوائب إلى مركبات الكلوريدات (مثل كلوريد الحديد) التي تُشكّل خبثا قشريا فوق الذهب المصهور، وتبقى الصورة النقية منه في الأسفل.

ينتج عن إزالة خبث الكلوريد ذهب نقي بنسبة 99.5% تقريبًا، لكن صدق أو لا تصدق، فهذا النقاء لا يزال بحاجة إلى المزيد من العمليات الكيميائية (عملية التحليل الكهربائي "وولويل") لمزيد من التنقية بالنسبة لبعض الزبائن. ومع ذلك، فإن نقاء الذهب بنسبة 99.5% يكفي تمامًا لمعظم الاستخدامات العملية.

أما الخطوة الأخيرة فهي تحويل الذهب إلى أشكال يمكن للناس ارتداؤها أو استخدامها. الذهب الخالص عيار 24 قيراطًا معدن أصفر لامع، ولكنه أيضًا لين جدًّا بالنسبة لمعظم المجوهرات، مما يجعله ينثني أو يخدش بسهولة. لهذا السبب، تُصنع جميع المجوهرات الذهبية تقريبًا من سبائك ذهبية تُمزج بقليل من النحاس أو الفضة أو معادن أخرى لزيادة صلابتها.

على سبيل المثال، يتكون الذهب عيار 18 قيراطًا (الشائع في المجوهرات العالية الجودة) من 75% من الذهب و25% من معادن أخرى، بينما يتكون الذهب عيار 14 قيراطًا من حوالي 58% من الذهب.

من خلال خلط المعادن، يمكن للصناع أيضا إنتاج ذهب بألوان مختلفة (مثل الذهب الأبيض أو الذهب الوردي). وهكذا، تُصهر سبائك الذهب المكررة وتُصب في الأشكال المطلوبة، سواء كانت خواتمَ أو قلائدَ أو أساورَ، أو تشكل على شكل عملات معدنية وسبائك قياسية.

(الجزيرة)

الذهب في السودان

بعد ترسيخ العلم بالذهب بشكل عام، دعونا الآن نركز على السودان، البلد الذي أصبح أحد أهم مصادر الذهب في أفريقيا في السنوات الأخيرة.

يعود ارتباط السودان بالذهب إلى العصور القديمة، حيث اشتهرت مملكة النوبة الشمالية برواسبها الذهبية، واسم "نوب" نفسه يعني "الذهب" باللغة النوبية المحلية.

إعلان

استخرج المصريون القدماء وممالك الكوش الذهب من صحاري السودان ومجاري أنهاره لآلاف السنين. واليوم، يعد السودان ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا، مما يعكس الجيولوجيا الغنية تحت رماله، ولفهمها دعنا نتعلم القليل عن أنواع الصخور.

تخَيَّل القشرة الأرضية، تلك الطبقة العليا من طبقات أرضنا، كبيت له أساسات صلبة. السودان مثل هذا البيت، قائم فوق أساسٍ صخري قديم جدًّا اسمه الدرع العربي النوبي؛ هذه صخور تكوّنت قبل زمن سحيق (ما قبل العصر الكمبري قبل نحو 550 مليون سنة) وهي غنية بالمعادن بطبيعتها. أين يوجد الذهب داخل هذا "الأساس"؟ غالبًا في ثلاثة أماكن رئيسية:

  • في أغطية صدئة فوق رواسب قديمة

المكان الأول هو "رواسب الجوسان" المتآكلة في شمال شرق البلاد، وخاصة منطقة أرياب في الصحراء الشرقية، والجوسان هو طبقة صخرية قاسية قريبة من السطح تبدو صدئة بالأحمر والبرتقالي والأصفر، إنها بقايا "مهترئة" من رواسب معدنية عميقة غنية بالكبريتيدات (مثل البَيريت)، بعد أن تعرّضت طويلًا للهواء والماء.

في أرياب، الواقعة في تلال البحر الأحمر، كون النشاط البركاني في الماضي البعيد كتلا من خام الكبريتيد تحتوي على الذهب إلى جانب النحاس ومعادن أخرى.

وعلى مدى عصور من التجوية، تأكسد وتآكل الجزء العلوي من هذه الكتل وتحوّل إلى صخور جوسان غنية بالحديد، وتركز الذهب داخلها.

يستغل منجم ذهب "هساي" في هذه المنطقة، الذي يعمل منذ عام 1993، مثل هذه الرواسب، ومنذ ذلك الحين بلغت كميات الذهب المنتَجة نحو 2.3 مليون أوقية من 18 حفرة مفتوحة حتى 2011، يقع المنجم على بُعد يقارب 450 أو 500 كم شمال شرق الخرطوم.

الجوسان هو طبقة صخرية قاسية قريبة من السطح تبدو صدئة (جيمس جونز-مناجم مورينسي)
  • داخل عروق بيضاء من الكوارتز في الصخور الصلبة

هي كما أسلفنا، شقوق قديمة امتلأت بسائل حار غني بالمعادن؛ عندما برد السائل ترسّب الكوارتز ومعه الذهب، فصار الذهب محبوسا في هذه العروق، مثل ترسّبات "الكلس" في المواسير، لكن بدلا من الكلس هناك كوارتز وذهب.

في السودان، يُعثر على الذهب مصاحبا لعروق الكوارتز في الصخور الصلبة، تشمل المناطق البارزة أجزاءً من شمال كردفان ومنطقة النيل الأزرق، إضافة إلى مواقع مثل العبيدية.

برزت منطقة العبيدية منذ أكثر من عقد باعتبارها من أهم مراكز التعدين التقليدي (الأهلي) ومعالجة الخام، مع وجود الطواحين ومصانع التصفية التي تتعامل مع الخام ومخلّفاته، وبشكل عام، فإن ولاية نهر النيل السودانية تضم شبكة أسواق ذهب كبرى (منها العبيدية، وأبو حمد، والشريك، ودارمالي)، تتلقّى الخام من حقول داخل الولاية وأخرى خارجها، وتُجرى المعالجة الكيميائية والتجارة بالجملة داخلها.

وكانت تقارير من هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، قد أظهرت تمركزا كبيرا لشركات ومرافق معالجة الذهب في ولاية نهر النيل خلال العقد الماضي، مع مساهمة لافتة للولاية في إجمالي إنتاج السودان.

يوجد الذهب هنا في صورة عروق أولية، عادة داخل الصخور المتحولة (مثل صخور الشست والحجر الأخضر)، تشكّلت هذه العروق بفعل العمليات الحرارية المائية الموصوفة سابقا؛ سوائل ساخنة تسري عبر الشقوق وترسب الذهب والكوارتز. مع مرور الوقت، ارتفعت بعض هذه الرواسب وانكشفت.

تاريخيا، اشتهرت جبال النوبة والمناطق المحيطة بها بمثل هذا الذهب الصخري الصلب، وفي السودان الحديث، حددت المسوحات الجيولوجية وعمال المناجم الحرفيون العديد من احتمالات وجود عروق الكوارتز. على سبيل المثال، في شمال كردفان وشمال دارفور، يبحث المنقبون في شعاب الكوارتز البارزة عن ذهب مرئي أو علامات تمعدن، تشير إلى وجود الذهب.

يمكن أن تكون رواسب العروق هذه ضيقة، ولكنها غنية، وغالبا ما تتطلب سحق الصخور لتحرير الذهب الموجود بداخلها.

يمكن أن تكون رواسب العروق هذه ضيقة، ولكنها غنية (شترستوك)
  • في الرواسب النهرية (الغرين أو الحصى)

تراكم الذهب الغريني في نظام نهر النيل السوداني ووديان المجاري المائية الأخرى منذ عصور. يتدفق النيل، بما في ذلك رافد النيل الأزرق، عبر أراضٍ غنية بالذهب، ونتيجة لذلك يوجد الذهب الغريني على طول ضفافه وسهوله.

في شمال السودان، وكذلك في ولاية النيل الأزرق، استخرج الناس الذهب من رواسب الأنهار، بل وقد تظهر الرواسب الغرينية في وديان جافة قديمة في الصحاري الشرقية. بعض الذهب الغريني يوجد في قنوات قديمة.

إعلان

ويُعد وجود الذهب الغريني مؤشرا قويا على المصادر الأولية في المنبع، لذا يتبع العديد من عمال المناجم الحرفيين المسار من البقع الغرينية إلى نتوءات العروق المحتملة، ومن ثم يتمكنون من إيجاد مصادر الذهب بسهولة نسبية.

في الواقع، غالبا ما تتداخل هذه الأنواع الثلاثة من الرواسب جغرافيا، ويخفي المشهد الصحراوي في السودان صخورا سفلية قديمة حيث توجد عروق ورواسب خام الحديد، وبالقرب منها، قد تحمل الأودية رقائق غرينية.

تشمل مناطق إنتاج الذهب المهمة في السودان اليوم تلال البحر الأحمر في الشرق (منطقة أرياب)، وولاية نهر النيل في الشمال، وأجزاء من شمال وجنوب كردفان، وشمال دارفور (على سبيل المثال، اكتسبت منطقة جبل عامر شهرة باكتشافاتها للذهب)، والنيل الأزرق وجنوب النيل الأزرق بالقرب من الحدود الإثيوبية.

طحن الكوارتز وغربلته يرفع عبء المرض (شترستوك)

حمى الذهب

بحلول أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ظهرت حمى البحث عن الذهب في أكثر من اثنتي عشرة ولاية سودانية، مع اكتشافات جديدة تناثرت في البلاد. في الواقع، أشارت إحدى الدراسات إلى أن نشاط التعدين التقليدي (الحرفي) قد انتشر إلى 11 ولاية من أصل 18 ولاية سودانية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وهو دليل على مدى انتشار وجود الذهب في البلاد.

وما يجعل السودان مثيرا للاهتمام جيولوجيًّا بشكل خاص هو أن جزءًا كبيرًا من ذهبه يقع في مناطق نائية يصعب الوصول إليها، ولم تشهد سوى القليل من الاستكشاف الحديث حتى وقت قريب.

الدرع العربي النوبي هو نفس المنطقة الجيولوجية التي تضم مناجم الذهب الشهيرة في مصر والمملكة العربية السعودية، إلا أن الجزء السوداني ظل لسنوات عديدة، أقل استكشافا لأسباب تاريخية ولوجستية، وهذا يعني أن السودان يحتمل أن يضم رواسب ذهب عالمية المستوى لا تزال قيد الاكتشاف.

لكن الذهب في النهاية ليس في كل مكان، فلا بد من صخور مصدرية مناسبة مثل صخور الدرع العربي النوبي القديمة التي تُنتِج ذهبًا في عروق الكوارتز أو قشور صدئة فوق رواسب كبريتيدية قديمة، ولا بدّ من "مصيدة"، ونقصد هنا شقوقًا وفوالق تركّز الذهب في العروق، أو مجاريَ مائية تفرزه من الصخور وتُنخّله في مواضع معيّنة (ذهب غريني)، وحتى داخل المناطق الحاملة فالتوزيع مرقّط جدًّا؛ قد تكون هناك تلال أو وديان غنية، وأمتار قليلة إلى جوارها لا تحوي شيئًا يُذكر.

ومن ثم فإن الصحاري الرملية الواسعة البعيدة عن صخور المصدر، التي ليست لها أودية قادمة منها، لا تحتوي على ذهب، فالرمل وحده لا يصنع ذهبا. وحتى لو وُجد الذهب، فغالبا ما يكون بنِسَب ضئيلة جدا تقاس بالغرامات في كل طن من الصخور، وليس كل وجود للذهب يعني إمكانية تعدين اقتصادية، فالعبرة بالتركيز وطريقة الاستخراج.

على مر التاريخ، سلك الذهب في تربة السودان وصخوره مسارا مذهلا، فقد وُلد في النجوم المحتضرة، ثم انتقل إلى الأرض في مرحلة الشباب عن طريق النيازك.

تراكم الذهب في أعماق الكوكب، ثم رفعته ووزعته قوى القشرة الأرضية. وقد وجد نصيب السودان من هذا الذهب الكوني طريقه إلى عروق الكوارتز القديمة والسهول الرسوبية.

(الجزيرة)

يتيح لنا العلم الحديث والمعارف التقليدية، مجتمعين، تتبع هذا الذهب من مخبئه الجيولوجي إلى استخدامه في كل مكان تقريبا من العالم، وترتكز جميع الطرق المستخدمة في السودان لاستخراج الذهب، سواء باستخدام أحواض بسيطة أو مصاف متطورة، على الخصائص الفيزيائية والكيميائية لهذا العنصر: كثافته، وخصائصه النبيلة الخاملة، وانجذابه لبعض المواد مثل الزئبق أو السيانيد، لكن ذلك لا يأتي من دون مشاكل، فبعض هذه الطرق سامّ، وللأسف يضر السودان، في بعض الأحيان أكثر مما يفيد.

على سبيل المثال، رصدت دراسة حالة وصفيّة وتحليلية المهدّدات البيئية والصحية والاجتماعية والاقتصادية للتعدين التقليدي في منطقة العبيدية خلال 2022–2024، ووجدت أن الأمر يتسبب في تشوّه التربة والتصحّر، كما أن نحو 70% من المخلّفات يتم التخلص منها عشوائيا فتتكدس على السطح أو تُجرف مع السيول إلى مجاري المياه.

كما أن طحن الكوارتز وغربلته يرفع عبء المرض، حيث سُجّل انتشار أمراض تنفّسية بنسبة تتراوح بين 45 و50% وأمراض عيون أصابت ما بين 40 و42% من العاملين والسكان المتأثرين، مع هدر مائي بنسبة تقارب 85% وتلوّث بالزئبق، بل والسيانيد، مع خطر جرف الملوّثات إلى النيل والأحواض الجوفية خلال فترات الأمطار.

في النهاية، فإن فهم الذهب في السودان لا يقتصر على الاقتصاد أو السياسة (على أهميتهما)، بل يتعلق بتكامل الجيولوجيا والكيمياء والفيزياء، وعلوم البيئة. كل رقاقة ذهبية لامعة من قاع نهر سوداني تحمل قصة عمليات الأرض السحيقة، من لحظة التصاق ذرة ذهب ببلورة عميقة تحت الأرض، إلى اندفاع الماء الذي حررها، إلى أيدي عامل المنجم الذي أدرك لمعانها، إلى يدي سيدة في إحدى الحفلات في براغ.

لكن في هذا السياق، هناك جانب مأساوي، لقد حطمت الحرب اقتصاد السودان، وأدت إلى انهيار نظامه الصحي، مما تسبب في إحدى أسوأ المجاعات في العالم منذ عقود، حيث يواجه 26 مليون شخص الجوع الشديد، أو الموت جوعا.

لكن تجارة الذهب تزدهر، بحسب ما أوردت نيويورك تايمز، فقد تجاوز إنتاج وتجارة الذهب، الموجود في رواسب غنية في جميع أنحاء البلاد الشاسعة، مستويات ما قبل الحرب، وهذا هو الرقم الرسمي في بلد يعج بالتهريب، ولكن بدلا من استخدام هذه الثروة الطبيعية لمساعدة الجوعى والمشردين، استغلت في طرق أخرى شتى منها تمويل الحرب، فهل تعود الثروة يوما في يدي الأحق بها من أهل السودان؟

المصدر: الجزيرة + مواقع إلكترونية

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا