هل يمكن فصل "التاريخ" كما جرى عن "التأريخ" كما يُكتب؟ الطيب بوعزة يجيب

حفظ
تتصارع الروايات في عالمنا وتُستخدم دفاتر الماضي كأسلحة لاغتيال المستقبل؛ فكيف يمكننا أن نقرأ التاريخ دون أن نسقط في فخ اليقين القاتل؟ وهل الحقيقة التاريخية ممكنة أصلًا، أم أننا محكومون بقراءة الماضي عبر عدسات مؤرخين مثقلين بتحيزاتهم الواعية واللاواعية؟
هذه الأسئلة الشائكة والمصيرية، التي تقف في قلب وعينا الثقافي المعاصر، يقتحمها المفكر العربي الدكتور الطيب بوعزة في كتابه الجديد والمهم "المؤرخ والفيلسوف: أسئلة الإسطوغرافيا وفلسفة التاريخ". مطلقا دعوة ملحة لإيقاظ الوعي النقدي، وفصل لا بد منه بين "التاريخ" كما جرى، و"التأريخ" كما يُكتب. والإسطوغرافيا هي دراسة كيفية كتابة التاريخ، وتتعامل مع كيفية بناء الروايات التاريخية والتحيزات التي يمكن أن تؤثر عليها.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsend of listوفي عصر تختزن فيه ثقافتنا العربية رؤى طائفية وإثنية متحفزة، وتتحول فيه الحقيقة التاريخية الموهومة إلى وقود للانتحار الجماعي، يصبح تفكيك "صناعة التاريخ" ضرورة لا غنى عنها. فمن هو المؤرخ؟ وكيف يصنع منظاره الذي ينظر من خلاله إلى الماضي؟ وهل يمكن أن نثق في شهادته؟ وماذا نفعل حين تتعدد الشهادات وتتناقض، كما في حالة صلاح الدين الأيوبي بين رؤية ابن الأثير ورؤية ابن شداد؟
في هذا الحوار العميق، تغوص "الجزيرة نت" مع الدكتور الطيب بوعزة في قلب هذه الإشكاليات، مستكشفين معه وجوب الانتباه إلى "تاريخ المؤرخ" قبل قراءة تأريخه، ومناقشًا الاتهامات الموجهة لابن خلدون بالسطو على رسائل إخوان الصفا، ومستشرفًا أهم المستجدات في علم التاريخ اليوم، وصولًا إلى الخصومة الأزلية والمثمرة بين المؤرخ والفيلسوف، وهو حوار لا يهدف إلى تقديم إجابات نهائية، بل إلى تسليح القارئ بأدوات الشك المنهجي، لكي يقرأ التاريخ بعين ناقدة، ويدرك أن الحقيقة غالبًا ما تكون بين الصور الشائنة والصور التقريظية، فإلى الحوار:

-
أقمت دراستك لعلاقة المؤرخ بالتاريخ تحت عنوان "في وجوب الفصل بين التاريخ والتأريخ" ما قيمة هذا الفصل بالنسبة للوعي الثقافي؟
نحتاج في بناء وعينا الثقافي إلى تنسيب الكتابة التاريخية؛ إذ إن الشعور بحتمية المسافة الفاصلة بين التاريخ -أي ما جرى في الماضي- والتأريخ، أي كتابة ما جرى، شرط أساسي لإيقاظ الوعي النقدي الضروري لكل باحث مؤرخ، بل ولكل قارئ يريد الاستعلام عن تاريخ ما من دفاتر المؤرخين، وخاصة في بيئات ثقافية تختزن رؤى طائفية وإثنية متحفزة لاغتيال المستقبل بالتاريخ، كما هو الحال في واقعنا العربي.
وذلك لأن أخطر ما في الخطاب العرقي/الطائفي هو "اليقين" التاريخي الذي يؤسسه. ومن ثم يحتاج ذلك النوع من الخطاب إلى كثير من الوعي النقدي لكي يتحرر من ثقل التاريخ. إن مرض الشك قد يؤدي إلى انتحار فردي، لكن مرض الحقيقة الموهومة أخطر؛ لأنه قد ينتج انتحارا جماعيًّا! وعليه، فتنسيب الحقيقة التاريخية ضروري لترقية الوعي.
لا يقرأ المؤرخ التاريخ إلا وهو متموضع فيه، أي إنه حتمًا قابع في زاوية معينة مثقلة بتحيزات ثقافية، تصنع له منظارًا يَحُدُّ من مدى إبصاره.
-
كيف يجب قراءة منجز المؤرخ، أي كتب التاريخ؟
نحتاج إلى الانتباه إلى تاريخ المؤرخ قبل قراءة تأريخه للتاريخ. وتوكيدي على خطر "تاريخ المؤرخ" لا أشير به إلى ذاتيته الفردية فقط، بل ثمة ما هو أخطر، أي الذات الجمعية التي ينتمي إليها، لأن هذه أكثر وقعًا وتأثيرًا. أما الذاتية بما هي أهواء فردية، فقد يعي المؤرخ مقدارًا من أثرها، لكن المشكلة الكبرى هي أنه قلما يعي "الأنا الأعلى" المستبطن بداخله.
لا يقرأ المؤرخ التاريخ إلا وهو متموضع فيه، أي إنه حتمًا قابع في زاوية معينة مثقلة بتحيزات ثقافية، تصنع له منظارًا يَحُدُّ من مدى إبصاره.
مثلا في قراءة شخصية صلاح الدين الأيوبي، لا بدَّ لنا من الرجوع إلى ابن الأثير لأنه كان معاصرًا له، لكن سنلاحظ أن ابن الأثير كان لديه موقف عدائي من صلاح الدين. غير أنه من حسن الحظ أن التاريخ يمنحنا أحيانًا أكثر من صوت واحد، مما يوفر إمكان المقابلة والمقارنة.
وفي مثالنا هذا يمكن أن نقابل في شأن تاريخ صلاح الدين بَيْن ابن الأثير وابن شداد، إذ كلاهما كان معاصرًا له، وكلاهما كتب عنه. وفي سيرة صلاح الدين عند ابن شداد نلقى صورة مقابلة مناقضة للصورة الشائنة التي رسمها ابن الأثير. وتعدد الشواهد ضروري لاستعلام التاريخ والاقتراب من وقائعه، إذ في الغالب لا تكون الحقيقة في الصورة الشائنة ولا في الصورة التقريظية، بل بينهما!

-
إذن فمشكلة التأريخ متعلقة بتحيزات المؤرخين؟
نعم.. والتحيز قد لا يكون سياسيا أو عقديا، بل قد يكون بسبب نوعية الأداة والنظرية التي يعمل بها المؤرخ، أو محدودية الموقع الذي ينظر منه. وشهيرة تلك الطرفة التي رواها فلوطرخس عن حادث وقع بأثينا خلال مسابقة البنطاطلون، عندما رمى رامٍ جُلَّةً فقتل لاعبًا آخر دون قصد، فقيل بأن بركليس قضى يومًا كاملًا في بحث "مَن القاتل؟": هل الجلة؟ أم مَن رماها؟ أم منظمو الألعاب؟ لو استفسرنا الطبيب فسيقول إن الجلة هي التي سببت الموت. وبينما يكون جواب القاضي هو أن القاتل ليس الجلة، بل الذي رماها، أرجعت السلطة السياسية السبب إلى منظمي الألعاب الذين لم يحسنوا إدارتها.
إعلانوهذه الطرفة وأمثالها لا تكشف تداخل العلل في تشكيل الوقائع الإنسانية فقط، بل تكشف أيضًا اختلاف المواقع التي ننظر منها الى الحدث!
طبيعة الظاهرة التاريخية تقتضي الانتباه إلى تركيبها وتعدد مستوياتها. ولذا كان أهم درس يُعلِّمنا إياه ابن خلدون هو أن علمية التأريخ لا تتحقق بـ"علم" التاريخ، بل بـ"علوم" التاريخ، أي إن بناء المعرفة التاريخية في حاجة إلى ما نسميه اليوم بـ"تكامل المعارف"، وهو ما أنجزه ابن خلدون في نُظْمَتِه الفريدة التي سمَّاها بـ"علم العمران"
وطبيعة الظاهرة التاريخية تقتضي الانتباه إلى تركيبها وتعدد مستوياتها. ولذا كان أهم درس يُعلِّمنا إياه ابن خلدون هو أن علمية التأريخ لا تتحقق بـ"علم" التاريخ، بل بـ"علوم" التاريخ، أي إن بناء المعرفة التاريخية في حاجة إلى ما نسميه اليوم بـ"تكامل المعارف"، وهو ما أنجزه ابن خلدون في نُظْمَتِه الفريدة التي سمَّاها بـ"علم العمران".
حيث أدرك عدم كفاية تقنية الإسناد الروائية، وعدم قابليتها للأجرأة في تحقيق عموم الأخبار التاريخية؛ لأن مرتكزها هو قياس صدقية الخبر بحالة راويه، والحال أن معايرة الخبر التاريخي بما قيل في أحوال رواته هي في الغالب غير ممكنة؛ لذا وجب معايرته وفق أحوال العمران وقوانينه. أي بتعبير آخر إن أمر التاريخ لا تكفي فيه مقابلة الأقوال بالأقوال، بل تجب مقابلة الكلمات بالأشياء.
-
ثمة كتابات عربية تتهم ابن خلدون بالسطو على رسائل إخوان الصفا، من أشهرها كتاب الدكتور محمود إسماعيل "نهاية أسطورة"، فما رأيك؟
إن مثل هذا الحكم مجرد افتئات، حيث لا يميز بين أفكار منبثة، والتنظير المنهجي الذي يبني بها أو يؤسس من خلالها منظومة. ولا يسمح المقام بالاستفاضة في بيان خلل هذا الاتهام، غير أنني أحسب في هذا الإلماح كفاية لبيان الطريقة التي ينبغي اعتمادها في عيار أصالة المفكر، أي التفريق بين الأفكار وإبداع إطار نظري بتركيبها.
إذا انطلقنا من هذا المنظور للنظر في مبنى تهمة السطو، أي تلك النصوص الخلدونية التي قابلها الأستاذ محمود إسماعيل على نصوص من رسائل إخوان الصفا، فهي في تقديري دليل كاف على ضعف الاتهام، إذ إن محتواها ليس مؤطرا في تلك الرسائل، بل إن ذلك المحتوى كان شائعا في نصوص المتن السياسي والنفسي الأرسطي والأفلاطوني، التي ترجم بعضها إلى اللسان العربي قبل ميلاد زيد بن رفاعة وأبي الحسن الزنجاني وغيرهما من مؤسسي جماعة إخوان الصفا.
كما لم يتنبه الأستاذ محمود إلى أن التوصيف الجغرافي الخلدوني لأقاليم العالم، الذي يزعم أنه منقول من رسائل جماعة الإخوان، هو توصيف سابق على وجود تلك الجماعة ذاتها، إذ يرجع إلى الخريطة المأمونية التي وضعها حكماء بيت الحكمة، لتكون أكثر دقة وتطويرا من خريطة الجغرافي الإغريقي مارينوس.
ولعلي أجزم بالقول إن مصدر معرفة ابن خلدون بهذه الخريطة ليست رسائل إخوان الصفا، بل كتاب "التنبيه والإشراف" للمسعودي؛ لأن فيه توصيفا وافيا لِمَلْمَحِ خريطة المأمون. هذا إضافة إلى وقوع صاحب كتاب "نهاية أسطورة" في أخطاء أخرى ليس هذا مقام عَدِّها.
-
عقدت الباب الأول من كتابك لدراسة الأطر المنهجية للممارسة التأريخية، كيف قاربت تلك الأطر؟ وما هي النتائج التي توصلت إليها؟
ثمة طريقة في بحث المنهجيات التأريخية من مدخل التاريخ ذاته! أي ليس بوصفها أشكالا منهجية نعتمدها للتأريخ، بل بما هي ذاتها ناتج تاريخي، أي واقعة تحت ضغط النظام المعرفي والشرط الثقافي للحظة إنتاجها. مثلا إن مكمن الاختلاف بين إسطوغرافيين معاصرين مثل جوناثان جورمان وهيرمان بول، يكمن في مقدار إعمال التاريخ في قراءة كيفيات التأريخ.
إذ بينما يسلك جورمان أسلوب توصيف المنهج، انطلاقًا من النظر في الطرائق التي استعملها المؤرخون من أجل تحديد ملامح جامعة لمهنة المؤرخ؛ يذهب هيرمان بول إلى التوكيد على أن هذه الطرائق متنوعة ومختلفة بمقدار يستحيل معه الزعم بوجود طريقة إسطوغرافية جامعة.
لكنني في كتابي حاولت الجمع بين المنظورين، مع التوكيد على الحاجة الماسة إلى إدخال بعد ثالث، وهو التأويل الفلسفي للمنهج التأريخي؛ لأن تحولات ذلك المنهج وأزماته لا يمكن تفسيرها بنظرة مؤرخ يقتصر على وصف تطور الكيفيات والطرائق، بل لابد من نظر فلسفي يحفر في النظام المعرفي الشارط لتلك الكيفيات والمعضلات المعرفية التي اصطدمت بها، وهو ما حاولت في الكتاب الكشف عنه، بدءا من هيرودوت حتى إسطوغرافيا هايدن وايت.
-
ما هي أهم المستجدات في علم التاريخ اليوم؟
إذا تتبعنا العشر سنوات الأخيرة سنلاحظ معالم تؤكد ذبول التيار السردي، إذ تَحدُثُ اليوم استفاقة من ذلك الدوران الذي سببه المنعطف التأويلي في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، حتى صار التفكير اليوم في المختبرات ومراكز البحث التأريخي موجهًا نحو استعادة المعيارية الإبستيمولوجية بتأطير منتظم، بلغ ببعض النُّظَّار إلى حدِّ وسم نتاجهم الرافض للتيار السردي بـ"المانيفستو"!
-
-لكن ما دلالة هذا التنادي إلى تجديد الإسطوغرافيا تحت مسمى تقليدي يفيد التمذهب والتأطير المغلق، أي "المانيفيستو"؟
أجل يحيل لفظ "المانيفيستو" على خطاب تجييشي راديكالي. أنظر مثلا "المانيفيستوالشيوعي" الذي تشارك في كتابته ماركس وإنجلز. وهذا النوع من النصوص يعكس حرصا على إكساب الخطاب قوةً رمزيةً تثويرية في مواجهة منظومات مهيمنة من أجل تغييرها.
لذا نلاحظ أن أحد أهم المؤتمرات الراهنة المعتنية بالتجديد المنهجي لمهنة المؤرخ، أقصد مؤتمر "التاريخ قيد النقاش" (History Under Debate) حرص عام 2012 على إصدار وثيقة سماها "مانيفيستو"، وقد كانت تلك الوثيقة حصيلة عمل جماعي دام ثمان سنوات. هنا هنا
والمفاجأة أنه بعد عامين فقط، أي في 2014 ستصدر جامعة كمبريدج كتابا بعنوان مقارب "مانيفستو التاريخ"، الذي كان نصا جماعيا تحت إشراف جو جولدي، ودفيدأرميتاج، حيث شارك فيه أعضاء من قسم التاريخ بجامعة هارفارد، كما تم تسويقه في جامعة ييل، وفي قسم التاريخ بجامعة براون، ثم في قاعة ريد بباريس.
وبعد تتبعي لهذين العملين، تبين لي أن استعمال لفظ "ماينفيستو" كان إستراتيجية خطابية واعية بالوضعية الحرجة التي توجد عليها الممارسة التأريخية ضمن التحولات الجذرية التي طالت الواقع العالمي، وحريصة على تغيير قواعد مهنة المؤرخ، وتجديد مفهوماتها وأطرها النظرية بعد التفكيك العدمي الذي طالها في النصف الثاني من القرن العشرين.
كما أن تسويق البيانين عالميا، واستدخالهما في بيئات علمية وازنة مثل كمبريدج وهارفارد وييل وبراون وباريس، هو إستراتيجية تقصد إلى تشبيك تلك المؤسسات، وزرع بذرةٍ منهجية في تربةٍ أكاديمية قادرة على الإثمار.
ومدار هذه المبادرات على ما أشرت إليه أعلاه، أي إن بداية القرن الحادي والعشرين تُظهر معالم ذبول التيار السردي، وبدء استفاقة نقدية تواجه التجريف التأويلي للمعيارية الإسطوغرافية؛ مع طموح إلى بناء تحالف معرفي عابر للتخصصات، ومجاوز للمركزيات الأحادية المغلقة.
-
ما الدافع الى إنجاز هذه المبادرات التجديدية في نظرية التاريخ اليوم؟
حاولت في كتابي أن أبرز وضعية التنظير الإسطوغرافي المعاصر، بالإشارة إلى أنه يقع تحت ضغط تحولات جذرية طرأت على فيزياء المكان والزمان. إذ مع تذويب المسافة المكانية، صرنا أمام ظاهرة صار يصطلح عليها اليوم بـ"ضغط المكان"، وهي الظاهرة التي نشأ عنها تصور جديد للزمن، يفيد انضغاطه هو أيضا، نلقى إشارة إليه لدى هارتمونت روزا بتعبير "تسارع الزمن"، كما نجد المعنى ذاته عند جودي واجمان في كتابه عن "تسارع الحياة في ظل الرأسمالية الرقمية".
غير أن فكرة ضغط المكان والزمان لم أقدمها بمدلول فيزيائي فقط، بل أرى لها متطلبات جديدة على مستوى التاريخ الراهن، حيث تفيد تعدد الأزمنة والأمكنة. أي لا يعني الضغط هنا محو التعدد والوقوع في الأحادية، بل بالعكس إنه إظهار لكثافة التعدد واللاتجانس والاختلاف الكائن في العالم.
وهذا يقتضي تجاوز تأطير "المركزية الأوروبية" للزمن البشري، الذي يجعل الغرب أفقا للتاريخ، وغيره من الشعوب موضوعة في "غرفة الانتظار" بتعبير المؤرخ الهندي تشاكرابورتي. لذا فجذرية التغيير الجاري في بنية الواقع العالمي اليوم، يجب أن تلحق أيضا طرق التفكير في نظرية التأريخ وكيفياته.
-
عقدت في كتابك مقارنة مطولة بين دورات "المؤتمر السنوي للدراسات التاريخية" الذي ينظمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالدوحة، و"مؤتمر التاريخ قيد النقاش"، لماذا هذا الاختيار؟
أثناء تأليفي للكتاب استجمعت في جذاذات التحضير مجموعة من الملاحظات، كتبت بها فقرة المقارنة عام 2021، وفي تلك السنة بالضبط كان قد انعقدت ثمان دورات لـ"المؤتمر السنوي للدراسات التاريخية". وفي مقابله وجدت في نص البيان الذي أصدره مؤتمر "التاريخ قيد النقاش" (History Under Debate) إشارة إلى أنه ناتج ثماني سنوات من البحث في تطوير "مهنة المؤرخ".
إعلانلذا انطلقت إلى المقارنة بين حاصل العمل في الثماني السنوات بين هذين المؤتمرين المختلفين، بضبط الإشارات المنهجية الموجهة لهما، ونوعية الاهتمامات التي هيمنت عليهما.
-
ما هي النتيجة التي توصلت إليها بالمقارنة بينهما؟
بمراجعة موضوعات السنوات الثماني التي مرت من تاريخ انعقاد أول دورة لمؤتمر الدراسات التاريخية بالدوحة عام 2014 حتى وقت كتابتي لفقرة المقارنة عام 2021، لاحظت أن مفردات المادة كان لها أولوية على مفردات المنهج. ويكفي لِتَبَيُّنِ ذلك النظرُ في العناوين الثمانية لتلك الدورات.
حيث نجد في أغلبها تركيزا على تاريخ النصف الأول من القرن العشرين، إذ دارت عناوين بعض الدورات حول موضوعات "الحرب العالمية الأولى"، و"سايكس-بيكو"، و"العراق تحت الاستعمار البريطاني"، و"تأسيس الدولة الأردنية"، ثم دورة تدارس فيها المؤتمرون موضوع "الحكومة العربية في دمشق 1918-1920م".
في حين كانت موضوعات الدورات الثماني لمؤتمر "التاريخ قيد النقاش" مركزة على ثماني عشرة مقولة ومسارًا موزعة على ثلاثة مستويات تدور على مدار الميتودولوجياوالإسطوغرافيا والإبستيمولوجيا. فكان لابد لي من الاستفهام: هل يعني هذا أن مؤتمر المؤرخين العرب يحكمه انقطاع جذري عن إشكالية المنهج وموضوعات اللحظة والآن؟
غير أنني انتهيت إلى أنه من الخطأ الظن أن موضوعات دورات المؤتمر العربي تدلُّ على تقادم الفكر وعدم إبصاره للراهن، لمجرد أن عناوينها مرتحلة إلى بداية القرن العشرين، بل يمكن أن نلاحظ راهنية كامنة تحت تلك العناوين المتقادمة في الظاهر. وأعني بها إشكالية بناء الدولة والاستقلال عن "الهيمنة الأجنبية"؛ أي كأن المؤرخ العربي يستشعر في قرارة وعيه بأن تينك المهمتين ما زالتا لم تنجزا بعدُ في حاضره! فَوَجَبَ الرجوعُ إلى الماضي الذي بدأ فيه تكوين المشكلة من أجل وعيها.
في حين أن المؤرخ الأوروبي أو الغربي متحرر من هاتين المشكلتين، وكل ما يشغله هو محاولة تحصيل استقلال من نوع آخر، أي ليس استقلال الدولة، بل استقلال جنسه المعرفي (الإسطوغرافيا)، بعد التجريف السردي الذي آلَ به إلى مجرد فن روائي/شعري. وهو الذي كان محل انشغال نُظَّارِ مؤتمر "التاريخ قيد النقاش".

-
رغم هذا الاهتمام المنهجي الذي أشرت إليه، ففي الكتابات التأريخية الغربية المعاصرة عودة قوية لمفهوم الذاكرة، كيف تنظر إلى هذه العودة؟
لا ينبغي أن نفصل الاهتمام بالذاكرة في الأعمال الإسطوغرافية الغربية، وفائض تطبيقها على الموضوع التأريخي، عن شرط حدثي مهم، يتمثل في الحرب العالمية الثانية، وما وقع فيها من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
لكن مشكلة أغلب مؤرخي الذاكرة هو أنهم ركزوا على انتهاك النازية لليهود؛ حتى نتج عن ذلك فائض هائل في إبراز هذا الانتهاك؛ وكأنه الوحيد، أو كأن غيرهم من الشعوب لم يطلها انتهاك من قبل النازية، أو من قبل غيرها من الأطراف المتحاربة!
كما أن المفارقة في كتابات المؤرخين الأوروبيين والأميركيين الذين أنتجوا فائض الذاكرة، هي أن فائضهم كان محبوسا عن الفيض؛ إذ على سبيل المثال، لا نجد عند كثير منهم أي إشارة للمحرقة الصهيونية في فلسطين الجارية منذ أكثر سبعين سنة!
لكن بالمناسبة أرى أن ثمة فائدة مهمة يجب اقتناصها من إسطوغرافيا الذاكرة، فما جرى في غزة خلال العامين الأخيرين من إجرام صهيوني ينبغي أن نقابله كمؤرخين بإجراء تقنيات وأدوات إسطوغرافية الذاكرة، التي من بينها إنجاز متحف عالمي لحفظ ذاكرة غزة. لا بد للمؤرخ العربي أن يعمل اليوم على حفظ الصورة حتى لا تنسى الإنسانية هذه الجريمة المروعة.
المفارقة في كتابات المؤرخين الأوروبيين والأميركيين الذين أنتجوا فائض الذاكرة، هي أن فائضهم كان محبوسا عن الفيض؛ إذ على سبيل المثال، لا نجد عند كثير منهم أي إشارة للمحرقة الصهيونية في فلسطين الجارية منذ أكثر سبعين سنة! لكن بالمناسبة أرى أن ثمة فائدة مهمة يجب اقتناصها من إسطوغرافيا الذاكرة، فما جرى في غزة خلال العامين الأخيرين من إجرام صهيوني ينبغي أن نقابله كمؤرخين بإجراء تقنيات وأدوات إسطوغرافية الذاكرة، التي من بينها إنجاز متحف عالمي لحفظ ذاكرة غزة. لا بد للمؤرخ العربي أن يعمل اليوم على حفظ الصورة حتى لا تنسى الإنسانية هذه الجريمة المروعة
-
في كتابك تحليل للتقنية الأركيولوجية المعتمدة في الكتابات التأريخية، مع نقد صريح لها. فهل يعني هذا رفضا لهذه التقنية المنهجية؟
ليس رفضا، بل إشارة إلى محدوديتها. ففي توريخ الأشياء وتزمينها يكفي أن نستعمل الكربون الرابع عشر، فننهي المهمة التأريخية بما هي توقيت، أي تعيين زمن الشيء. لكن في تَوْرِيخِ النصوص والوثائق لا يكفينا التزمين؛ لأنه حتى لو استطعنا تزمين الورق بالنظير المشع، أو تزمين الكلمات بالفيلولوجيا؛ فإن العملية التأريخية تتطلب فهم المحتوى الدلالي للورق، والمعنى المحايث للأثر. ولا سبيل إلى ذلك دون قراءة تأويلية، وترتيب سردي، وتعليل لما جرى تزمينه من حوادث.
ثمة ضجيج صاخب تحصَّل من الحفر الأركيولوجي في جغرافية الشرق الأوسط للتشكيك في السرديات الدينية، وأشهر تلك الأبحاث هي ما قام به فنكلشتاين، وسيلبرمان، وكيث ويتلام، وفيليب دافيز، وجون فان سيتيرز، وتوماس طومسون وغيرهم من الحَفَّارِين.. لكنني لا أشكّ في أن الأركيولوجيا علم ضروري للمؤرخ، خاصةً وقد تطورت تقنياتها اليوم، بفضل تضافر علوم مختلفة، فَمَكَّنَتْ من كشف كثيرٍ من زيوف المرويات التاريخية.
غير أنه لا بدَّ من الانتباه أيضًا إلى أن ثمة من الأركيولوجيين مَن ينطق بلغة نفي جازمة تتعارض مع مقتضيات الحس العلمي. إذ يبني على ما استخرجه من باطن الأرض أحكامًا جذرية شاملة؛ دون أن يدرك أنه يُرغم أدواته على أن تنطق بأكثر مما يمكنها قوله. أي إنه بالضبط يكون في هذه الحالة ما زال يعيش في "ما قبل الوعي الإبستيمولوجي" حيث يفكر "بـــ" دون الانتباه إلى وجوب التفكير "في".

وأقصد في هذه الحالة أنه يفكر بالأركيولوجيا دون التفكير فيها وفي حدودها المعرفية؛ وعلامة ذلك أنه يُظهر انتشاءً مبالغًا فيه بالأدوات ومحصولها، فيسارع بجراءة إلى شطب فصول كاملة من الذاكرة التاريخية لمجرد عدم وجود آثار دالة عليها! وهذا ما أعنيه بـ"ما قبل الوعي الإبستيمولوجي"، الذي يكشف تاريخ العلم أنه مرض أصاب مختلف المعارف والعلوم في لحظة حدوث تطور نوعي في أدواتها الإجرائية، حيث يرتهن الباحِث للأداة التقنية واثقًا من مدركاتها، نافيًا لما لا يتأطر بين حَوَافِّ مِنْظارها!
لا يكفينا الكربون الرابع عشر لتعيين ماجريات الماضي البشري. نعم، يمكن لهذا الكربون المُشع أن ينفي صدقية كفن طورينو؛ لكن إلى جانب تعيين زمن الأشياء، ثمة أمر آخر ينبغي الانتباه إليه هو أثر المعنى والقيم في الزمن البشري، على نحو يجاوز أحيانًا كثيرة الكينونة المادية للأشياء.
لذا طرحت في كتابي سؤالا صريحا: هل كل ما جرى فوق الأرض "محفوظ" في باطنها؟ وهل كل ما في باطنها مستخرج بـ"المعول" الأركيولوجي؟ وقلتُ: إنْ أَجَابَ الأركيولوجيُّ عن هذين السؤالين بالإيجاب؛ فعليه أن يحسب الفأس أداةً كافيةً للتفكير!
غير أنني لا أقصد بهذا تسفيه البحث الأركيولوجي، ولا التقليل من قيمته، كما لابد من التنبيه إلى أنه منذ العقد الأخير من القرن العشرين أخذ علم الأركيولوجيا يشهد مساءلات نقدية خَفَّفَتْ من غلواء النزوع العلموي، وأقصد بشكل خاص الإسهامات النقدية الذي قدمها إيان هودر، وميكايل شانكس، وبيتر أوكو وغيرهم من الأركيولوجيين المعاصرين الذين ناهضوا النزعة الوضعية.
-
خصصت قسما كبيرا من كتابك للمقابلة بين المؤرخ والفيلسوف، وكأن بينهما خصومة فارقة! ماذا تقصد بهذه المقابلة؟
كان من محصلة بحثي في نصوص قدماء المؤرخين أن وقعت على نص مهم في كتاب مروج الذهب للمسعودي، بَنَيْتُ عليه القول بأنه كان أول مؤرخ عربي نقد اشتغال الفلاسفة بالتأريخ. حيث وجدت له نقدًا صريحًا للفيلسوف سنان بن ثابت بسبب كتابته للتاريخ، حين قال عنه المسعودي في كتاب "المروج" بأنه "خرج عن مركز صناعته وتكلف ما ليس من مهنته". وبعد تحليلي نص المسعودي، وجدت قبسات مهمة لبناء فرضية فلسفة التاريخ، على الرغم من أن محددات تلك الفرضية أوردها المسعودي في سياق الذم والاستهجان.
"فلسفة التاريخ" حقل معرفي ينهض على نمط خاص من التفكير في الحادثات الزمنية، نمط يسعى إلى لَمِّ أشتات الحوادث والوقائع في إطار كُلِّي. ولهذا فهو يستجيب لحاجة لا يمكن للمؤرخ أن يستجيب إليها، أي جوعة الكائن الإنساني إلى ضبط معنى كلي لوجوده
-
ما هي قيمة فلسفة التاريخ؟
إن "فلسفة التاريخ" حقل معرفي ينهض على نمط خاص من التفكير في الحادثات الزمنية، نمط يسعى إلى لَمِّ أشتات الحوادث والوقائع في إطار كُلِّي. ولهذا فهو يستجيب لحاجة لا يمكن للمؤرخ أن يستجيب إليها، أي جوعة الكائن الإنساني إلى ضبط معنى كلي لوجوده.
-
كيف قرأت تطور فلسفة التاريخ؟
من أجل استيعاب صيرورة فلسفة التاريخ في مختلف تقلباتها، ارتأيت أهمية استحضار ثلاثة منعطفات كبرى، حدثت بعد "التأملية"، وأعني بها المنعطف الوضعي العلموي بدءا من رانكه، ثم ليمان، ولينز، وسينيوبوس، ولانغلوا. والمنعطف النقدي أي الكانطية الجديدة كما تبلورت في مدرسة مربورغ، مع كوهن، وتطوراتها مع بول ناتورب، وإرنست كاسيرر؛ ثم في مدرسة هايدلبرغ مع فيندلبند، ورايكرت، ولاسك. والمنعطف اللغوي/التأويلي، بدءا من هايدن وايت، وجينكينز، ومانسلو، ثم أنكرسميت.
وبذلك التعديد والتمييز بين منعطفات تاريخ "فلسفة التاريخ"، حاولت إنجاز ضبط أكثر دقةً واستيعابا لهذا النسيج الثري من الأنماط التصورية التي نظرت في مسألة التاريخ ومعناه. ولهذا لم أعتمد صنافة وليم هنري ولش الذي أرخ لفلسفة التاريخ تحت ثنائية "فلسفة التاريخ التأملية" و"فلسفة التاريخ النقدية"، لأسباب منها أنه أنتج مقاربته في منتصف القرن العشرين، ومن ثَمَّ أراها متقادمة بالنظر إلى راهن البحث الفلسفي اليوم؛ حيث لا بدَّ أن ننتبه إلى هذا التيار الجديد الذي هيمن في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، استجابة للمنعطف اللغوي، أي ذاك التيار الذي أطلقه هايدن وايت تحت مسمّي "فلسفة التاريخ الجديدة".

-
قلت في مدخل الكتاب: إن نظرية هايدن وايت لم تثمر حتى داخل الإطار الذي اشتغلت فيه في البداية. كيف تبرهن على ذلك؟
لا أشك أن وايت بكتابه "ميتا-تاريخ" أحدث انقلابًا ثوريًّا في نظرية التأريخ وفلسفته معًا. لكن من طبيعة الانقلاب أن قدرته على الهدم أقوى من اقتدراه على البناء. كما أنني انتهيت إلى أن ثورة "ميتا-تاريخ" ما كان لها أن تُثمر حتى داخل الإطار الذي اشتغلت فيه ابتداء، أي "الإسطوغرافيا"؛ وعللت ذلك بسببين مركزيين: أولهما أن المشتغلين بالتأريخ ما كانوا ليستبدلوا بأدواتهم شعرًا! والثاني أن اليأس من إمكان العيار المعرفي، إن كان له سند في مأزق الإسطوغرافيا العلموية، فالسبب يرجع إلى الوهم النظري القائم على تعميم نموذج/براديغم العلم الطبيعي على المعارف الإنسانية، الأمر الذي لا يسوغ بالضرورة نفي مشروعية كل عيار معرفي، والاكتفاء بتطبيق النقد البلاغي على طريقة هايدن وايت.
انتقدت وايت لأنني أراه قد بالغ بشكل مفرط في نفي مشروعية المساءلات الإبستيمولوجية النقدية، التي تروم قياس محتوى التأريخ بمعيار "المرجع". وعندما تتبعت سيرته الفكرية لاحظت أنه عندما جُوبه بسؤال: هل نفي معيار المرجع يعني أن كل ما قيل عن انتهاكات النازية لليهود في الحرب العالمية الثانية مجرد سردية لا صدقية فيها؟ سارع إلى التراجع، لكن دون أن يتنبه إلى ضرورة مراجعة أعمق ترتدُّ إلى بنية نظريته ذاتها؛ حتى لا يكون الاستثناء هو قوله بالوجود التاريخي لجرائم النازية فقط!
-
في الفصول التي خصصتها لفلاسفة التاريخ، يلاحظ أنك وصفت كانط بالسقوط من علو الترسندنتال (المتعالي) إلى لون الجلد؟ لماذا لجأت إلى هذه الصورة الساخرة؟
بين سنتي 1775 و1788م، نشر كانط أربعة نصوص كانت من أسوأ ما كتب في دلالة الكائن الإنساني، حيث أوغل في المسّ بالكرامة الإنسانية بنظرية عرقية صريحة جلفة، وأعني بتلك المقالات الأربع: "ملاحظات على الإحساس بالجميل والجليل"، ومقالة "في اختلاف الأعراق البشرية"، و"مفهوم العرق البشري"، ثم مقالته "في استعمال المبادئ الغائية في الفلسفة".
لكنني عندما قدمت هذه النصوص، لم أنكر أيضا قيمة نظرية المواطنة الكونية التي كان كانط من أهم دعاتها ومنظريها. إنما حرصت على إبراز المفارقات لا التغطية عليها من أجل تجميل صورة كانط، وذلك ضدا على ما يفعله بعض الشراح التجميليين أمثال سنكار موثو، وبولين كلينغيلد.

-
تتحدث في كتابك عن وجوب استعادة فلسفة التاريخ، أليس هذا مناقضا لمنطق الفلسفة المعاصرة القائلة بموت السرديات الكبرى؟
أتفق معك. وقد حاولت في الكتاب معاندة هذا الخطاب العدمي بالارتكاز على ميزة من ميزات الفلسفة الإسلامية، التي لم يحدس العقل الفلسفي الإغريقي إمكانها، وأعني بها الانتقال بـ"مقولات الجهة" من محدودية استعمالها في المبحث المنطقي، إلى استعمالها في مبحث الميتافيزيقا؛ ومن ثَمَّ تأسيس الدليل الوجودي. وفي ذلك أخذت بمفهوم كمال واجب الوجود، الذي أبانه الفارابي وابن سينا بالضرورة الوجودية، ثم ديكارت استنادًا على تطويره لدليل أنسلم بالضرورة المفهومية.
وهكذا استثمرت مثال "الكمال"، الذي استعمل في الفلسفة بوصفه أساسًا للدليل الأنطولوجي، فاتخذته مقدمةً إلى فهم الوضع البشري وصيرورته في الزمن، أي التاريخ. وبذلك قمت بثلاث نقلات بدأت من المنطق في إطار مبحث موجهات القضايا، إلى الميتافيزيقا في إطار مبحث واجب الوجود؛ فالأنثربولوجيا حيث عَرَّفتُ الكائن الإنساني بما هو "وجود بالكامل للكمال".
وبذلك جانبت ادعاءات النظر الفلسفي التأملي إلى التاريخ؛ لأنني لا أرى أي حصافة في تحديد وسومات لنمط إنتاجي أو لقواعد سياسية مستقبلية، أزعم أنها ستتحقق على نحو محايث لحتمية الحركة التاريخية، بل دعوت إلى رفع الكُلِّي إلى مثال آفاقي، فلا يكون حاصلًا حتميًّا لتلك الحركة، بل أفقًا جاذبًا لها، يرتهن الاقتراب منه بالتحرك في اتجاهه، لا انتظار وقوعه قدريًّا. ولأن الكمال مثال غير متعين، فهو يحفظنا من الوثوقية التي وقع فيها العقل الفلسفي التأملي.