هكذا يُطلق عليها الذكرى الأولى للحرب، كأن الحرب قد توقفت وأصبحت من الماضي البعيد، ولكن على العكس ما زالت مستمرة كما اليوم الأول، إذا لم تكن أشد، إذ نحنُ لم نتحرر من وطأة ثقل تلك الذكريات، حيثُ الحرب لم تنتهي بعد!، ولكن ماذا علينا أن نفعل؟، تلك هي الحقيقة رغم قساوتها، وهل رغم تلك القساوة ما زال هُناك متسع للضحك؟، القصد هنا ذلك الضحك الذي تحدث عنه الكاتب التشيكي "ميلان كونديرا"، هو الضحك الذي يكون أسمى من المزاح والسخرية والسخافة، إذ كونديرا كان يؤمن رغم المأساة أن الضحك هو تعبير عن فرحة الوجود، والقصد هنا أن تضحك، هو أن تعيش بعمق رغم الحرب!
كيف للحرب أن تُوصل الإنسان إلى درجة السخرية من المأساة ليتحرر منها، أو ليتحرر من الذكرى التي لم تبدأ؟، تلك هي أحد دروس التاريخ، إذ هدف السخرية هنا هو تجاوز التاريخ!، ومن ثم الانصراف نحو الحياة، القصد نحو المستقبل، تلك هي أحد عيوب دروس التاريخ هنا، فالحرب لم تتوقف، وإذا توقفت كيف لضحكة واحدة فقط أن تمحو المأساة، كأن هذا الضحكة تُريد القول إن من رحلوا في خضم الحرب دمائهم ليست جديرة بأن تجعل العالم مكان أفضل للعيش، هذه هي المأساة!
إنها لتعزية لا تقدر بثمن، حين تشعر بأنه لا رسالة لدينا تجاه الآخرين، هكذا يقول "ميلان كونديرا" في روايته "كائن لا تحتمل خفته"، ولكن في غزة الرسائل تُكتب بالدم، وبالأشلاء، وبالموت الجماعي، وهل هناك أبلغ من هذه الرسائل؟، وأكثر تُكتب الرسائل في غزة بالحرب التي ما زالت قائمة، تلك الحرب التي لم تُصبح ذكرى حتى يتجرد منها الإنسان، حيثُ الحرب عندما تُصبح ذكرى تخضع للثقل، أما استمرارها هو الخفة، وغياب النصر هو الثقل، ولذلك لا يمكن هنا محو الذاكرة والنسيان، وأكثر لا مكان للغفران، وأيضًا لا مكان للاعتياد.
ما بين النسيان والاعتياد يقول "ميلان كونديرا" في روايته "الحياة هي في مكان آخر": " ما أجمل أن يُنسى التاريخ!"، كأن لغز التذكر والنسيان في الحرب هو مجرد لحظة عابرة في التاريخ، هكذا يُريد القول كونديرا، ولكن كيف لهذه المأساة أن تُنسى؟، حيثُ مشاهد الإبادة والمجازر، والامعان في القتل، والأهم كيف يكون نيسان التاريخ جميلًا أمام مشهد الأجنة التي قُصفت بالصواريخ الفسفورية!، إذ صراع الإنسان ضد الحرب يبقى قبل كل شيء صراع الذاكرة ضد النسيان.
إذن لم تتوقف الحرب بعد، واعتبارها ذكرى هو الجريمة الأولى، فالحرب المستمرة ليست من الماضي، بل هي الحاضر الذي يقودنا نحو المستقبل، والأهم هنا هل نعتاد المشهد، بمعنى هل نعتاد الحرب؟، هذا سؤال تبقى إجابته رهن الميدان، ولكن إن النسيان والاعتياد هم بمثابة جريمة في خضم الحرب، وهذه هي الجريمة الثانية، حيثُ الحرب ليست مادة دسمة للنسيان والاعتياد، إذ هنا يتم ترويضك على الحرب كأنها هي الحقيقة، وأن إيقاف الجريان البائس للعالم إلى الأمام لم يعد بالإمكان!، وأكثر أن الحرب لا تسير في شكل دائري، بل تتقدم في خط مستقيم، ومن هنا لا يُمكن للحرب أن تتوقف لأقناعك أن الحرب رغبة في التكرار، هذا ما يسعى إليه الاحتلال.
ما بين النسيان والاعتياد، من جديد، في الحرب يُعتبر النسيان مع مرور الوقت، بالإضافة إلى الاعتياد هو تدمير للهوية، وأكثر للإنسانية، الأهم تدمير للوجود، والأخلاق، حيثُ مع مرور الوقت ننسى من نحنُ، ومن نكون!، إذ هناك احتلال يسعى لجعلنا أن نعتاد المشهد، والأهم أن نعتاد الموت، تلك هي بضاعتهم، كأن العالم ليس موجودًا خارج الصندوق المُحمل على القوافل، وكأن الاحتلال واقعًا لا مفر منه، ولذلك إن النضال ضد النسيان هو النضال ضد الحرب، وهذا ما ينطبق على الاعتياد أيضًا، بل هو نضال ضد الموت، والصواريخ، والابادة، والمجازر...
هكذا إذن، علينا أن نُردد القول: علينا ألا ننسى، وألا نعتاد، مرة، مرتين، ثلاثة...، أن نُردد هذه الكلمات كأنها تعويذة، وأكثر ألا تُصبح الحرب ذكرى، حتى لا تسقط في فخ الماضي، وألا نتعامل مع الأمر بمثابة مزحة أخرى من مزاحات التاريخ، ونُمسك بيد الحرب ونضحك معها، كأن الحرب تعبير مكثف عن وجود ساذج، ولذلك علينا ألا نتحرر من عباءة الحرب، وألا نكف عن قهرها رغم أننا تحت وطأة جدّيتها القاسية.
الحرب ليست حفلة تفاهة، أنها جوهر الوجود للشعوب المضطهدة، ولذلك عندما نُخضها للنسيان والاعتياد نُشرع في تدمير الذاكرة، ونُصبح شعبًا محكومًا بالموت، ويُصبح أكثر النسيان نقمة، والاعتياد كذلك، وبل نُصبح شيئًا فشيئًا شعبًا في طيات النسيان يفصل بيننا وبين الاندثار منحدر الاعتياد، ولذلك نُكرر إن النضال ضد النسيان والاعتياد هو نضال ضد الحرب، وأكثر ضد سرقة الوجود، والتاريخ، والجغرافيا، والمقدسات، والأرض، والأخلاق، والثقافة، ولذلك علينا ألا نُمارس فضيحة النسيان، وألا نعتاد هذه الفضيحة، التي هي بمثابة الثقب الكبير الذي تغرق فيه الذكرى كما يقول "ميلان كونديرا"، وغير ذلك هو المأساة.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا