
جنين - خاص قدس الإخبارية: بينما يدخل اجتياح الاحتلال الإسرائيلي في مدينة جنين ومخيّمها يومه الحادي والعشرين، تمرُّ الأيامُ بُبطءٍ على عائلاتٍ أضحت نازحة بعد إجبارهم على إخلاء منازلهم داخل المُخيم أو في مُحيطه.
أجبر الاحتلال بعد بدءِ عدوانه الموسَّع ضد فلسطينيي مُخيم جنين، أكثر من 20 ألف فلسطيني، ما يمثل 90% من سكان المخيم على ترك بيوتهم وحاراتهم وزقاق مُخيَّمهم وشوارعه ومصادرَ رزقهم، والزحف نحو المجهول دون وجهةٍ أو موعد، فصار المُخيَّم حُلماً بعد أن كان ملاذا للجسد وهويةً للروح، وفق التقديرات الرسمية.
بـِ" الكواد كابتر" يُهجَّر الفلسطينيون
بدأت رحلة النزوح بينما تتجوَّلُ طائرات الاحتلال المُسيَّرة، المُحمَّلة بالرصاص، وأصواتِ التهديداتِ، فوق رؤوس المدنيين العُزل المُجبرين على طيّ ذكرياتهم بأكمله في أكياسٍ من النايلون أو بحقائب السفر، ممن حالفهم الحظ واتَّسع لهم الوقت لأخذ ما يلزم من وثائق أو ملابس أو طعام.
وتمامًا كما فعل في قطاع غزة، ادّعى الاحتلال منحه الفلسطينيين وقتاً وأماناً للخروج عبر ما أسماه بِـ" الممر الآمن"، إلا أنه أطلق طائرات "الكواد كابتر" مع قناصته المنتشرين على أسطح المنازل ليُطلقوا الرصاص بشكلٍ عشوائي، سبَقته أنيابُ جرافاته التي غُرست في جدران منازلهم وشرعت بهدمها حتى قبل خروجهم.
وسط هذا المشهد، استحوذ الخوف والهلع على مشهد النزوح، وظلّ بعضُ الأفراد دون ذويهم، بينما ضاع عدد من الأطفال عن عائلاتهم، كما حدث مع خالد سعيد من مخيم جنين، الذي يروي ما حدث معه: "فجأة وجدنا أنفسنا مضطرين للنزوح منذ اليوم الأول نظراً لخطورة موقع منزلنا، ووسط هلعنا، ظلّ طفلاي الصغيران وحدهما خلفنا دون أن نُدرك ذلك، إلى أن استطعنا العثور عليهما لاحقاً."
لم يقتصِر هذا الألم بطبيعةِ الحال على عواطف الفلسطينيين ومشاعرهم فحسب، حيث كان لأقدامهم نصيبٌ منه بعد اضطرارهم للمشي مسافاتٍ تتراوح بين 4-5 كيلومتر للخروج من المناطق المحظورة، حسب تصنيف الاحتلال.
وأدى العدوان العسكري لجيش الاحتلال على مدينة جنين، والذي بدأ في 21 كانون ثاني/يناير الماضي، إلى استشهاد 25 فلسطينيا، وتدمير قرابة 180 منزلاً بشكلٍ كلي، وعدد كبير من المنازل بشكلٍ جزئي، كما فجر جيش الاحتلال مربعات سكنية في مخيم جنين للمرة الأولى منذ عام 2002، حيث تم نسف 20 منزلاً بشكلٍ متزامن.
من دفءِ البيت إلى برد العراء
تستمرُّ معاناة النازحين لليوم الحادي والعشرين مع استمرارِ الاجتياح، مع غياب الاستعدادات الكافية، وغياب التنظيم في متابعة أمورهم، أو محدودية الخيارات في الوجهة التي قد ينزحون إليها، أصبح عددٌ لا بأس به من العائلات النازحة في مرمى المُعاناة.
ويوضح خالد سعيد لـ "شبكة قدس"، وهو نازحٌ في غرفة "زينكو" برفقة عائلته المكونة من 7 أفراد، أنه وبعد مرور عشرين يوماً استطاع أن يؤمن فراشاً وعدداً من الأغطية التي استخدمها لتقسيم الغرفة لنوم أبنائه، وإغلاق منافذ الرياح والأمطار وسط المنخفض الجويّ شديد البرودة الذي يعصف بالبلاد.
ويشير أيضاً إلى معاناته في توفير المواد التموينية والغذائية بشكلٍ يومي دون متابعةٍ رسمية له ولأفراد عائلته، بالإضافة إلى استخدامهم الطرق البدائية في الطبيخ والغسيل والحصول على المياه وشبكات الاتصال والإنترنت، نظراً لسكنهم في غرفة غير مؤهلة.
وبحسب بلدية جنين، فإن 35-40% من الأحياء لا تزال محرومة من المياه نتيجة عمليات التدمير، وخروج أهم بئر للمياه "السعادة"، عن الخدمة منذ اليوم الأول للعدوان، مما أدى إلى انقطاع المياه عن أحياء جبل أبو ظهير، خلة الصوحة، الهدف، وادي برقين، جزء من حي الجابريات، الزهراء، البساتين، والمحطة.
أما عن اضطرارهم لتركِ كُل ما يملكون خلفهم والنجاةِ بأنفُسهم، تقول ميسون نشرتي من المخيم لـ "شبكة قدس": خرجنا دون أخذ أي وثائق رسمية أو ثبوتية أو حتى مقتنياتنا وأموالنا، لم نخرُج إلا بما نرتديه فوق أجسادنا مُحاولين النجاةَ بمن معنا من كبارِ السن المُقعدين والأطفال، علمًا أن الاحتلال قصف منزلنا لاحقاً بكل ما فيه.
وتروي ميسون نشرتي مراحل نزوحها من المخيم من بيتٍ لآخر بعدما أُجبرت على النزوح دون وجهة محددة، إلى أن انتهى بها المطاف في ديوان آل صبح ببلدة برقين غرب جنين، إذ تقول: "أهل الخير كثيرون ولم يقصروا حال معرفتهم بوجودنا، إلا أننا عانينا في البداية من شُحّ الأغطية والفراش اللازم لنومنا ونوم أطفالنا في هذا البرد القارس، ونقصٍ شديدٍ في الملابس."
حصار مستمر منذ "حماية وطن"
قبل بدء الاجتياح الإسرائيلي، وعلى مدار 47 يوماً، أطبقت أجهزة أمن السلطة الفلسطينية الحصار على مخيم جنين، ومنعت دخول المياه والطعام والدواء، كما قطعت خطوط الكهرباء، كما نزحت 2000 عائلة بحصار أجهزة أمن السلطة للمخيم، وخلال الأيام الثلاثة الأولى من عدوان الاحتلال، اعتقلت أجهزة أمن السلطة مجموعة من المطاردين البارزين، والذين نجوا من عمليات اغتيال نفذها جيش الاحتلال ضدهم منذ سنوات.
وخلال عدوان جيش الاحتلال، حاصرت أجهزة أمن السلطة مستشفى الرازي في المدينة وأطلقت النار بداخله في محاولاتها لاعتقال مطاردين للاحتلال، واليوم، ووسط تهجير الفلسطينيين، تختفي عملية "حماية وطن" من مفاهيم السلطة، التي لا يبدو أنها اتخذت أي إجراء في وقف الكارثة والتهجير، والوقوف في مواجهة الاحتلال في المخيم.
يُعبر قيس أبو الندى في حديثه لـ "شبكة قدس" عن يأسه لطولِ فترة النزوح الممتدة منذ حملة "حماية وطن" التي أطلقتها السلطة ضد المقاومين الفلسطينيين، والذين وصفتهم السلطة بـ " الخارجين عن القانون"، وقد أجبرت حملة السلطة عدداً كبيراً من الفلسطينيين على الخروج منذ 5 ديسمبر\كانون الأول 2024.
ويشير أبو الندى، أنه وخلال حملة "حماية وطن" اضطر والده إلى الخروج بسبب الحصار المُطبق وصعوبة الحصول على الأدوية اللازمة لهما للعلاج، ومع الاجتياح الإسرائيلي أُجبر من تبقى من أفراد العائلة على الخروج والتشتت في أنحاء المحافظة عند الأقارب، دون استطاعتهم الوصول إلى منازلهم أو معرفة أحوالها.
أما ماسة عبدو من المخيم، فترى أن الحظ كان لصالحها بعد أن تمكنت وعائلتها من النزوح قبل الاجتياح بيومٍ واحد إلى منزل شقيقتها في أحد أحياء المدينة، إلا أن تواصل الاجتياح دون أي بوادر للانسحاب يخلق واقعاً صعباً نظراً لاكتظاظ عددهم في شقةٍ واحدة، إذ يقطنها ثلاث عائلاتٍ بمعدل 25 فرداً في البيت.
وتشير عبدو في حديثها لـ "شبكة قدس"، إلى ارتفاع الأسعار المهول في الشقق السكنية داخل المدينة بالتزامن مع اشتداد الأزمة الإنسانية للنازحين من المخيم، إذ أن ركود الوضع الاقتصادي إلى جانب اضطرارهم للخروج دون مُعيل أو عمل أو أملاك، يفاقم من معاناة الحصول على بيت.
نازح من مخيم جنين يتحدث عن حرق الاحتلال لمنزله والعدوان المستمر منذ نحو أسبوع. pic.twitter.com/sGkS14qogi
— شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) January 27, 2025
من الشعب إلى الشعب
بعدما انقطعت السُبل بعددٍ كبيرٍ من العائلات النازحة من المخيم إثر الاجتياح المُطوّل والمفاجئ، وجد الكثيرون أنفسهم بلا مأوى أو مكانٍ للعيش، إلا أن أضعافَ هذه الأعداد كانت قد فتحت أبواب بيوتها لاستقبال النازحين ومساندتهم في محنتهم العصيبة.
وتصدرت بلدة برقين -4 كيلومتر إلى الغرب من مدينة جنين - مشهدَ استقبال النازحين وإيوائهم، ويرجع هذا إلى كوْنها البلدة الأقرب للخارجين من المخيم، وتُعدّ أكثرَ أمانًا من باقي أحياء مدينة جنين للنازحين من فزع الرصاص والقصف وشدّة الحصار.
واستقبلت البلدة 789 عائلة من مخيم جنين، بتعدادٍ يصل إلى 4540 فرداً، توزّعوا على دواوين العائلات المُختلفة (صبح- شلاميش- خلوف)، أو على شققٍ سكنية فارغة قُدِّمت لهم، وآخرون سكنوا في بيوت الأقارب والأصدقاء أو في بيوت أهالي الخير الذين تقاسموا وإيّاهم رغيف الخبز وغرف البيت، وفق ما يقوله مسؤول ملف النازحين في بلدة برقين، أيمن شلاميش لـ "شبكة قدس".
واستكمالاً لمدّ يد العون للفلسطينيين، أطلق أهالي البلدة حملة تطوعية بعنوان "برقين الخير رقم 6" بهدف جمع التبرعات النقدية والعينية اللازمة للإغاثة، ويشير المسؤول عن المبادرة، عبد الباسط خلف، إلى جمع حوالي 60 ألف شيكل من التبرعات وتقديمها وتوثيق إيصالها بما يحفظ كرامات الناس وخصوصيتهم في هذه المحنة.
ويؤكد خلف لـ "شبكة قدس" أن مبادرة الفلسطينيين للخير والتبرع لا تعفي جهات الاختصاص من مسؤوليتها في متابعة الحالات كافة، إذ أن أعداد الفلسطينيين في البلدة والذي ارتفع بعد النزوح يُشكل تحدياً أكبر من قدرة التعامل معه شعبيًا، تحديداً مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون منذ 15 شهراً.
ويُشيد خلف بإقبال الناس ورغبتهم المُلحّة على تقديم المساعدة قدر المستطاع، ويذكر في ذلك موقفاً لطفلٍ صغير قدّم حصالته بكامل المبلغ الذي في داخلها بهدف التبرع والعون.
جنين إلى طوباس وطولكرم: النزوح مستمر
ويواصل الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على جنين وطولكرم وطوباس شمال الضفة الغربية، ما أسفر عن ارتقاء 45 شهيدًا فلسطينيًا، وإصابة واعتقال العشرات، وتدمير البنية التحتية والتهجير ونسف المنازل، بالتزامن مع اشتباكات مع المقاومين.
ولا يختلف الأمر في طولكرم، التي اعترف جيش الاحتلال يوم الأربعاء الماضي بتهجير نحو ألفين من سكان مخيم طولكرم خلال العملية العسكرية المستمرة للأسبوع الثاني شمال الضفة الغربية وهدم منازل وطرق بالمخيم، بينما أعلن صباح اليوم الأحد توسيع عمليته إلى نور شمس.
كما أجبر العدوان في طمون بطوباس 4 آلاف فلسطيني على النزوح من بلدة طمون حسب ما أعلنه محافظ طوباس والأغوار الشمالية أحمد الأسعد، قبل أن تنسحب قوات الاحتلال بعد أسبوع من العدوان مخلفة وراءها دمارا كبيرا في البنية التحتية والممتلكات، بينما يواصل الاحتلال هجومه على مخيم الفارعة بالمدينة نفسها، مجبرًا عشرات العائلات الفلسطينية على النزوح من المخيم.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا