
خاص - تقارير قدس الإخبارية: شنت رئاسة السلطة الفلسطينية وحركة فتح هجومًا لاذعًا على حركة حماس، عقب اللقاءات المباشرة التي جرت بين المبعوث الأمريكي لشؤون الأسرى، آدم بوهلر، والوفد المفاوض من حماس.
هذا التصعيد لم يكن مجرد انتقاد عابر، بل جاء ضمن خطاب حاد وممنهج يعكس مخاوف السلطة العميقة من فقدان احتكارها للتمثيل الرسمي أمام المجتمع الدولي، خاصة بعد أن بدا واضحًا أن الإدارة الأمريكية نفسها لم تتبرأ من هذه اللقاءات، بل أكدت حدوثها بشكل مباشر.
السلطة الفلسطينية وحركة فتح، اللتان استندتا لعقود إلى شرعية منظمة التحرير الفلسطينية كغطاء لاحتكار القرار السياسي، رأت في هذا التطور مؤشرًا خطيرًا على أن التواصل الدولي بات يتجاوزها. فجاء رد فعلها في صورة اتهامات متكررة لحماس، بدءًا من تشتيت الموقف الفلسطيني والعربي، وصولًا إلى تقديم تنازلات مجانية، والتساوق مع الاحتلال، والتخابر مع جهات خارجية.
لكن خلف هذا الخطاب التصعيدي، تكمن حقيقة أكثر جوهرية، وهي أن السلطة الفلسطينية راوغت خلال الحرب على غزة، وراهنَت على أن تصفية المقاومة باتت حتمية، وأن نتائج العدوان ستُعيد ترتيب المشهد الفلسطيني وفق حساباتها، وتمنحها مجددًا سيطرة مطلقة على المشهد السياسي في الضفة وغزة.
ومع تغير شكل وطبيعة الحديث عن سيناريوهات "اليوم التالي" ودخول واشنطن على خط التفاوض المباشر مع حماس، بدا أن رهانات السلطة كانت خاطئة، وأن الواقع الجديد قد يُفضي إلى إعادة صياغة التمثيل الفلسطيني، بعيدًا عن الهيمنة المطلقة التي احتكرتها لعقود، وليس العكس.
التصريحات الفتحاوية: هجوم متصاعد ومخاوف من تجاوزها
كثفت حركة فتح ورئاسة السلطة الفلسطينية هجومهما على حركة حماس عقب اللقاءات التي جمعت المبعوث الأمريكي لشؤون الأسرى بوفد الحركة، معتبرتين أن هذه المفاوضات تشتيت للموقف الوطني وتجاوز للشرعية الفلسطينية.
ركز الناطق باسم الرئاسة، نبيل أبو ردينة، على أن هذه الاتصالات تُجرّم قانونيًا، معتبرًا أنها محاولة للالتفاف على الإجماع العربي الذي برز في القمة العربية بالقاهرة، لا سيما بشأن خطة إعادة إعمار غزة والتصدي لمخططات التهجير. كما دعا حماس إلى "الرشد الوطني"، عبر إنهاء الانقسام وتسليم القطاع للسلطة وفق مبدأ "سلطة واحدة، قانون واحد، سلاح واحد".
أما بيان مفوضية الإعلام والثقافة في حركة فتح، فذهب أبعد، متهمًا حماس بتقديم "تنازلات غير وطنية" في المفاوضات، متماهيًا مع خطاب الاحتلال الذي يحمل المقاومة مسؤولية الدمار في غزة.
كما هاجم البيان انتقادات حماس للسلطة، معتبرًا أنها محاولة للتغطية على مفاوضاتها "غير المخولة" مع جهات أجنبية، والتي تُقدّم فيها تنازلات "تمس حقوق الشعب الفلسطيني وثوابته".
وفي تصعيد غير مسبوق، وصفت فتح قيادات حماس بـ"ثلة الهاربين" المتورطين في دماء الفلسطينيين، متهمة إياهم بالتساوق مع الاحتلال وتقديم مبررات لحرب الإبادة في الضفة الغربية.
كما اعتبرت أن حماس تسعى للحفاظ على سلطتها في غزة عبر إعادة التموضع السياسي، دون اكتراث بمصير الشعب الفلسطيني المحاصر والمهدد بالتهجير.
وأكدت فتح أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، متهمة حماس بخدمة أجندات خارجية، لا سيما إيران، ومحذرة من أي تنازلات تمس الحقوق الوطنية الفلسطينية.
اللقاءات التي أغضبت السلطة والاحتلال
في تفاصيل اللقاءات، كشف تقرير لوكالة رويترز أن الولايات المتحدة خرجت عن نهجها الدبلوماسي التقليدي وأجرت محادثات سرية مباشرة مع حركة حماس، بهدف تأمين إطلاق سراح الأسرى الأمريكيين المحتجزين في قطاع غزة.
وعلى الرغم من أن السياسة الأمريكية منذ عقود تمنع التواصل مع كيانات تصنّفها واشنطن "إرهابية"، أكد البيت الأبيض أن المبعوث الأمريكي لشؤون الأسرى، آدم بوهلر، يمتلك الصلاحيات الكاملة للتفاوض مباشرة مع حماس. ووفق المصادر، عُقدت اللقاءات في الدوحة خلال الأسابيع الأخيرة.
وأقر طاهر النونو، المستشار الإعلامي لرئيس المكتب السياسي لحماس، بهذه المحادثات، مشيرًا إلى أن اللقاءات استمرت حتى انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق غزة، وأشاد بدور المبعوث الأمريكي في المفاوضات.
بدوره، أكد المتحدث باسم حماس عبد اللطيف القانوع أن الحركة تعاملت بمرونة مع جميع الوسطاء، بمن فيهم مبعوث الرئيس الأمريكي، موضحًا أن المحادثات تركزت على إنهاء الحرب، والانسحاب الإسرائيلي، وإعادة الإعمار.
من جانبه، أبدى المبعوث الأمريكي آدم بوهلر تفاؤله بنتائج اللقاءات، وصرّح لشبكة CNN بأن المحادثات مع حماس كانت "مفيدة للغاية"، مشيرًا إلى إمكانية التوصل إلى اتفاق في غضون أسابيع، لكنه شدد على ضرورة التحرك السريع. كما كشف أن المفاوضات ستتكثف الأسبوع المقبل مع وصول ستيف ويتكوف، المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي، إلى الدوحة.
وفي حديث مع هيئة البث العبرية (كان)، كشف بوهلر أن حماس عرضت إطلاق سراح جميع الأسرى مقابل وقف إطلاق نار لمدة تتراوح بين 5 إلى 10 سنوات، مؤكدًا أن "الباب لا يزال مفتوحًا لمزيد من الاجتماعات".
أثارت هذه المحادثات غضبًا في أوساط الاحتلال السياسية، حيث اعتبر رون ديرمر، مستشار رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، أن تجاوز "إسرائيل" في هذه المفاوضات أمر "غير مقبول"، مشيرًا إلى رفض تل أبيب تقديم الولايات المتحدة مقترحات لحماس دون موافقتها.
لكن بوهلر ردّ على الانتقادات الإسرائيلية بقوله إن واشنطن "ليست وكيلاً لإسرائيل"، بل تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة من خلال هذه المحادثات.
وللمفارقة فإن هذا الموقف الأمريكي لم يثر القلق الإسرائيلي فقط، بل تقاطع مع مخاوف السلطة الفلسطينية وحركة فتح، اللتين رأتَا في هذه اللقاءات تهديدًا مباشرًا لاحتكار التمثيل الفلسطيني، وهو ما تمثل في الهجوم الحاد من قبل فتح على حماس، في محاولة لإعادة تأكيد سلطتها السياسية والدبلوماسية.
احتكار التمثيل الرسمي: هاجس السلطة وفتح
تعاني السلطة الفلسطينية، وحركة فتح التي تسيطر عليها وتقود منظمة التحرير، من حساسية مفرطة تصل إلى حد "الفوبيا" تجاه أي تهديد لاحتكارها التمثيل الرسمي، الذي تستند إليه عبر شرعية منظمة التحرير التاريخية.
واللافت أن شرعية المنظمة كممثل رسمي للشعب الفلسطيني ليست محل خلاف جوهري مع أي مكون وطني، ولكن احتكار هذه الشرعية هو جوهر الأزمة.
إذ يتمثل الخلاف في كيفية إدارتها ومن يمثلها، سواء مع فصائل المقاومة التي لم تنضم إلى المنظمة، مثل حماس والجهاد الإسلامي، أو حتى الفصائل المنضوية فيها، سواء كانت ممثلة في اللجنة التنفيذية كـالجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وحزب الشعب، أو غير ممثلة مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثاني أكبر فصائل المنظمة.
تاريخيًا، يمكن تصنيف الشرعية الفلسطينية وفق ثلاثة اعتبارات رئيسية:
إن الشرعية التي تتشبث بها حركة فتح والسلطة الفلسطينية مستمدة ليس من تمثيل شعبي أو نضالي، بل من احتكار السيطرة على منظمة التحرير، التي تحولت إلى أداة بيد قيادة السلطة بدل أن تكون المنظمة هي الحاضنة للسلطة.
ويعزز هذا الاحتكار الاعتراف الدولي بالسلطة كقناة رسمية للتواصل مع الفلسطينيين، مما يجعل أي تجاوز لهذا الاحتكار عبر محادثات دولية مع أطراف فلسطينية أخرى يشكل تهديدًا وجوديًا لمكانة السلطة وفتح.
من المفارقات أن قيادة السلطة الفلسطينية لم تعترض سابقًا على شهور من المفاوضات غير المباشرة بين حماس وقوى المقاومة مع الوسطاء بشأن التهدئة في غزة وتبادل الأسرى، ولم تعتبرها خرقًا للشرعية أو "فتحًا لقنوات اتصال خارجية".
ويعود ذلك إلى أن هذه المفاوضات لم تمس التمثيل الرسمي للسلطة أمام المجتمع الدولي. في المقابل، عندما تجاوزت الولايات المتحدة السلطة وفتحت قناة اتصال مباشرة مع حماس، بدا هذا وكأنه تهديد لكسر الاحتكار الفتحاوي للشرعية الفلسطينية، وهو ما أثار هذه الحملة الهجومية الحادة.
اقرأ أيضًا: رئاسة السلطة وفتح تتهمان حماس بالتخابر لاتصالها مع جهات أجنبية لوقف العدوان عن غزة |
المراهنات الخاطئة: حسابات في غير محلها
منذ اندلاع طوفان الأقصى، اختارت السلطة الفلسطينية اتخاذ موقف يضمن لها تحقيق الربح الصافي، حتى وإن جاء ذلك على حساب مصلحة الشعب الفلسطيني. لم تكتفِ بالحياد السلبي، بل تبنّت موقفًا مناهضًا لأي محاولات جادة للتضامن مع غزة في الضفة الغربية، خشية أن تدفع ثمنًا سياسيًا لمثل هذا التوجه. رأت السلطة في حجم الغضب الإسرائيلي، الذي تُرجم إلى جرائم غير مسبوقة، مؤشراً على وجود قرار دولي واضح بتصفية المقاومة، وعلى نحو خاص القضاء على حماس، ما جعلها تراهن على أن أي شراكة أو انحياز للمقاومة سيجعلها في دائرة الاستهداف الإسرائيلي والدولي.
استند هذا الرهان إلى قناعة داخل أروقة السلطة وفتح بأن هذه الحرب تشكل فرصة لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. فمن جهة، أرادت السلطة أن تؤكد أنها الخيار الأمثل لواشنطن والمجتمع الدولي، باعتبارها الطرف الفلسطيني الأكثر التزامًا بالتنسيق الأمني والاتفاقات الدولية، ومن جهة أخرى، رأت في الحرب على غزة فرصة لإعادة بسط سيطرتها على القطاع، بعد أن يُنهي الاحتلال مهمة القضاء على المقاومة وفصائلها.
وكانت تصريحات مسؤولي السلطة حول ضرورة "التمكين فوق الأرض وتحتها" خلال حوارات المصالحة عام 2017 تعكس هذه الرؤية التي لم تغادر حساباتهم.
مع عودة دونالد ترامب إلى السباق الانتخابي، بدأت السلطة مسارًا موازيًا لإعادة فتح قنوات التواصل مع فريقه، تحسبًا لاحتمالية فوزه وتجنبًا لتكرار القطيعة التي سادت خلال دورته الرئاسية السابقة على خلفية "صفقة القرن". تجلى ذلك في رسالة الرئيس محمود عباس إلى ترامب قبيل لقائه برئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، والتي جاءت في توقيت حساس بعد محاولة اغتيال ترامب.
في هذا السياق، سعت السلطة إلى اتخاذ إجراءات عدة تعكس حيويتها أمام واشنطن، كان أبرزها تنفيذ حملة أمنية واسعة في مخيم جنين، بهدف التأكيد على قدرتها على ضبط الأمن، وتحويل رواتب إلى "المؤسسة الفلسطينية للتمكين الوطني"، إضافة إلى اتخاذ خطوات إدارية تتعلق بتصنيف بعض عناصر أجهزتها الأمنية ضمن "الحالات الاجتماعية" في محاولة لإعادة ترتيب صفوفها إداريًا وماليًا.
رغم هذه المحاولات، لم تجد السلطة أي استجابة أمريكية تعيد إليها دورها في غزة أو تمنحها موقعًا مركزيًا في معادلات الحل. حتى رفضها المشاركة في أي صيغة جماعية لإدارة القطاع، خشية فقدان سيطرتها المطلقة، لم يغير من واقع الأمر شيئًا. ومع تصاعد الضغوط الدولية والعربية لإحداث "تجديد في القيادة الفلسطينية"، وجدت السلطة نفسها في موقف دفاعي، حيث بات واضحًا أن هناك توافقًا دوليًا على الحاجة إلى قيادة فلسطينية جديدة أكثر قدرة على التعامل مع المرحلة القادمة.
أدى ذلك إلى زيادة القلق داخل السلطة، خاصة مع محاولة بعض الدول العربية تجاوز محمود عباس في المشاورات، ما دفعه إلى اتخاذ إجراءات شكلية وتسويقها كإصلاحات داخلية، بينما كانت تهدف فعليًا إلى قطع الطريق أمام أي تغييرات قد تطاله.
في خضم هذه التطورات، جاء اللقاء بين الإدارة الأمريكية وحماس بمثابة الصدمة الكبرى للسلطة وفتح، حيث اعتبرتا أن هذا اللقاء يُشكل اعترافًا ضمنيًا بشرعية حماس كطرف يمكن التواصل معه دوليًا، وهو ما يهدد احتكار السلطة للتمثيل الفلسطيني. لم تنفِ الإدارة الأمريكية حدوث اللقاء، بل أكده البيت الأبيض، ما جعل السلطة تدرك أن الواقع الدولي لم يعد يخضع لحساباتها التقليدية، وأن نتائج الحرب على غزة لم تحقق ما كانت تأمله.
لقد ثبت أن حسابات السلطة كانت خاطئة بالكامل. فقد نجحت المقاومة في الصمود أمام العدوان الإسرائيلي، وأفشلت مخططات القضاء عليها، بينما أظهرت استراتيجيتها التفاوضية أنها قادرة على انتزاع مطالبها دون تقديم تنازلات تمس ثوابتها. كما أن الاعتراف الدولي بفشل خيار تصفية المقاومة، وعدم القدرة على تجاوز محدداتها في أي تسوية مستقبلية، أثبت أن السلطة لم تعد الطرف الوحيد الذي يمكن للمجتمع الدولي التعامل معه.
هذا التحول فرض واقعًا جديدًا، حيث باتت السلطة تواجه خطر تجاوزها سياسيًا، في ظل تصاعد التأييد الدولي للمقاومة، وتعزيز موقعها في الساحة الفلسطينية كفاعل أساسي لا يمكن القفز عليه.
اليوم، تجد السلطة نفسها في مواجهة أزمة وجودية غير مسبوقة، إذ أصبح من الواضح أن التغيرات في المواقف الدولية والإقليمية لا تصب في صالحها. ومع استمرار الصمود الفلسطيني وتنامي الدور الفعلي للمقاومة، بات العالم يميل إلى التعامل مع الحقائق على الأرض بدلًا من التمسك بإطار التمثيل التقليدي الذي تحتكره السلطة.
هذا الواقع الجديد يعكس أن القيادة الفلسطينية التي عولت على المتغيرات الدولية والإسرائيلية لإعادة ترتيب المشهد وفق مصالحها، باتت هي ذاتها تواجه خطر الإقصاء والتجاوز، في ظل فقدانها أي أوراق قوة سياسية أو ميدانية تمكّنها من فرض نفسها على المعادلة.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا