
غزة - خاص قدس الإخبارية: لم تتوقف سلطات الاحتلال عن استخدام شتى أدوات القتل والتدمير في قطاع غزة، على امتداد شهور حرب الإبادة التي ما تزال متواصلة حتى لحظة كتابة هذه السطور. فمن القصف المكثف بأكثر أنواع الصواريخ والقذائف فتكًا، إلى تجنيد أنظمة الذكاء الاصطناعي في إنتاج بنك أهداف واسع، وصولًا إلى سلاح التجويع الذي طال بشكل مباشر أكثر من مليونَي إنسان في القطاع.
إن التجويع أحد أخطر أسلحة الاحتلال ضمن ترسانة الحرب المفتوحة، إذ لم يكن استخدامه طارئًا أو وليد اللحظة، بل شكَّل ركيزةً ثابتةً في سياسات العقاب الجماعي المفروضة على القطاع المحاصر منذ أكثر من عقدين. وقد استخدمه الاحتلال مرارًا كورقة ضغط سياسي وإنساني تهدف إلى تقويض مقومات الصمود.
ومع انهيار اتفاق التهدئة في مارس/آذار 2025 واستئناف الاحتلال عدوانه واسع النطاق، عاد الحصار والتجويع إلى الواجهة كسلاح أساسي لتكثيف الضغط الجماعي، ومحاولة كسر إرادة السكان، ودفعهم إلى الانفكاك عن خيار المقاومة ومشروعهم الوطني.
لكن ما لم تتوقعه منظومة الاحتلال كان المناعة الوطنية للمجتمع الغزي التي أفضت إلى فشل ذريع لخطة التجويع وإعادة هندسة المجتمع الفلسطيني، فقد واجهها موقف جمعي صلب، تكامَل فيه الوعي الشعبي، والثبات المؤسسي الفلسطيني، والمبدئية النسبية لبعض المؤسسات الدولية، ليُحبَط رهان الاحتلال على "الهندسة القسرية" بوساطة الغذاء والمساعدات.
التجويع كسلاح معلَن: جريمة حرب موثَّقة في غزة
ليس استخدام التجويع كسلاح حرب سلوكًا جديدًا في تاريخ النزاعات، بل ارتبط دائمًا بالأنظمة الاستبدادية والحروب الدموية التي استهدفت المدنيين استهدافًا مباشرًا. ففي الحرب العالمية الثانية فرضت القوات النازية لسنوات حصارًا خانقًا على لينينغراد (سانت بطرسبرغ حاليًّا) قتل أكثر من مليون مدني جوعًا.
وفي حرب البوسنة، استخدم القادة الصرب حصار سراييفو لتركيع السكان، وانتهى الأمر بإدانتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة بعد ثبوت استخدامهم التجويع كسلاح ممنهج.
ولطالما استخدمت القوى الاستعمارية هذا السلاح لإخضاع الشعوب المقاومة، واستمر ظهوره في العقود الأخيرة بصور أكثر تنظيمًا، خاصةً لدى أنظمة قمعية طبَّقته ضد المدن الثائرة أو الخصوم السياسيين لإجبارهم على الاستسلام دون الحاجة إلى إعلان نوايا الإبادة.
لم يكن الاحتلال الإسرائيلي استثناءً من هذا السياق، بل مثَّل أحد أبرز الأنظمة الحديثة التي أعادت استخدام الحصار الغذائي سلاحًا ضد السكان المدنيين، بزعم "منع تمويل المقاومة"، بينما الهدف الحقيقي كسر إرادة الشعب، وتقويض قدرته على الصمود، وتطويعه سياسيًّا.
بعد الحربين العالميتين أصبحت سياسات التجويع تُصنَّف دوليًّا ضمن الجرائم الكبرى، فأدرج القانون الدولي، وعلى رأسه القانون الجنائي الدولي والقانون الدولي الإنساني، استخدامَ التجويع ضمن جرائم الحرب، بما في ذلك عرقلة وصول المساعدات الإنسانية أو حرمان السكان من المواد اللازمة للبقاء. ولا يتطلب إثبات الجريمة اعتراف الدولة المعتدية، بل يُمكن الاستدلال عليها من الممارسات الميدانية والسياق العام للحملة العسكرية.
وجدير بالذكر أن التجويع لم يكن مجرد نتيجة جانبية ضمن حرب الإبادة على غزة، بل سياسة معلَنة عبَّر عنها كبار مسؤولي حكومة الاحتلال بوضوح فج، فقد صرَّح وزير الحرب المُقال يوآف غالانت في الأيام الأولى للحرب: "لن تدخل إلى غزة كهرباء، ولا ماء، ولا وقود، ولا حتى حبة دواء"، وقال وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش: "يجب ألَّا تدخل حبة قمح واحدة إلى غزة".
تعزز هذا التوجه بتصريحات مسؤولين عسكريين سابقين، منهم اللواء احتياط غيورا آيلاند، الذي دعا إلى خلق ضغط مدني هائل عبر الحصار الغذائي الكامل لإجبار سكان غزة على تغيير موقفهم من المقاومة. وتؤكد هذه التصريحات، المتناغمة مع الممارسات الميدانية، أن التجويع لم يكن انفعالًا ظرفيًّا، بل خيارًا سياسيًّا متعمَّدًا وسلاحًا استراتيجيًّا وجزءًا من العقيدة الحربية للاحتلال.
في هذا السياق، تعود إلى الأذهان مقولة وزير الزراعة الأمريكي الأسبق إيرل بوتز، في ذروة الحرب الباردة، عندما قال عام 1974 لمجلة "تايم": "الغذاء سلاح، وهو الآن إحدى الأدوات الرئيسية في مجموعة أدواتنا التفاوضية"، في تصريح مثَّل الأساس الحديث لفكرة تسليح الغذاء، وتحويله إلى أداة ضغط وإخضاع ناعمة تستبطن منطق الإبادة دون إعلان.
في الحالة الفلسطينية، وثَّقت "هيومن رايتس ووتش" استخدام الاحتلال الإسرائيلي التجويعَ كسلاح حرب في قطاع غزة، عبر منع إدخال المياه والغذاء والوقود، وعرقلة إيصال المساعدات، وتجريف الأراضي الزراعية، ومنع السكان من الوصول إلى الموارد الأساسية، واصفةً ذلك بـ"جريمة الحرب" وفقًا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي يُجرِّم حرمان المدنيين عمدًا من المواد الضرورية لبقائهم على قيد الحياة.
ولم يكن التجويع في غزة جزءًا من حرب الإبادة فقط، بل هو امتداد لحصار شامل يفرضه الاحتلال منذ أكثر من 16 عامًا، إذ يتحكم بكل شيء: من المعابر وحركة البضائع، إلى المجال الجوي والبحري، وسجلات السكان، والبنية التحتية الحيوية.
وقدَّرت تقارير دولية، حتى قبل اندلاع حرب الإبادة، أن أكثر من 1.2 مليون شخص من سكان القطاع يعانون من انعدام حاد في الأمن الغذائي، وأن ما يزيد عن 80% من سكانه يعتمدون على المساعدات الإنسانية للبقاء.
تجعل هذه الوقائع سكان غزة رهائن لسياسات الاحتلال، وتكشف أن استخدام التجويع لا يقتصر على خلق أزمة إنسانية، بل يُوظف كأداة لتفكيك المجتمع سياسيًّا وأخلاقيًّا، ولفرض معادلة الإذعان مقابل الخبز.
أهداف متعددة.. والفشل سيِّد الموقف
منذ اليوم الأول لحرب الإبادة، وضعت سلطات الاحتلال جملةَ أهداف استراتيجية سعت إلى تمريرها عبر سلاح التجويع والعقاب الجماعي، فلم يكن الحصار الغذائي أداة عشوائية أو ثانوية، بل جزءًا عضويًّا من سياسة محسوبة بهدف تطويع السكان وتفكيك البنية الوطنية والاجتماعية لقطاع غزة، لكن المحصلة جاءت عكسية تمامًا، إذ سقطت الأهداف واحدًا تلو الآخر أمام صمود الأهالي وتماسك الموقف المجتمعي.
كان أحد أبرز الأهداف محاولة تأليب المجتمع على المقاومة، فعمل الاحتلال على تحميل الأهالي ثمن احتضانهم لخيار المقاومة، وسعى إلى تجويعهم وحرمانهم من الدواء والماء والطعام، في سياق مخطط لدفعهم إلى الانفكاك عن هذا الخيار، والضغط عليهم للخروج ضد المقاومة.
ولخدمة الهدف، جُيِّشت آلة الدعاية الصهيونية بكل مستوياتها، من المتحدثين الرسميين إلى النوافذ الإعلامية العالمية، في محاولة لصياغة رواية تُحمِّل المقاومةَ مسؤوليةَ ما يجري. لكن الرهان تحطم أمام وعي الناس وإدراكهم للمصدر الحقيقي للمعاناة، وهو الاحتلال.
تمثَّل الهدف الثاني بمحاولة خلق نظام محلي متعاون يبدأ من البوابة الإنسانية. فحاول الاحتلال استخدام المساعدات كسلاح تجنيد ناعم، وفتح قنوات اتصال مع أطراف محلية، شملت وجهاء عشائر ومؤسسات أهلية وتجارًا وحتى بلطجية وقُطاع طرق، لمنحهم امتياز توزيع المساعدات وفقًا لآليات يحددها الجيش.
غير أن المحاولات فشلت جميعها في إنتاج حتى نواة أولى لنظام محلي خاضع، وظل المشهد الداخلي في غزة عصيًّا على الاختراق، بل زادت المحاولات من منسوب الحذر الشعبي والوعي بالهدف الحقيقي الكامن خلفها.
وسعى الاحتلال إلى استخدام التجويع كأداة هندسة جغرافية وديمغرافية. فبعد فشله في تهجير سكان شمالي القطاع بالقوة المباشرة، لجأ إلى إطباق حصار شديد على هذه المنطقة تحديدًا، بهدف استنفاد مخزونها الغذائي والطبي، ودفع سكانها إلى النزوح جنوبًا تحت ضغط الحاجة.
لكن هذا المخطط سقط أيضًا، أمام صمود الأهالي الذين فضَّلوا البقاء في بيوتهم المنكوبة على الخضوع لإملاءات الاحتلال.
واليوم، يحاول الاحتلال تكرار السيناريو نفسه من بوابة مختلفة، عبر التخطيط لتركيز المساعدات في مناطق محدَّدة، خصوصًا في محيط رفح، في محاولة لدفع السكان إلى التجمُّع هناك ضمن معسكر اعتقال جماعي، وتفريغ بقية المناطق، لكن هذه المناورات ما تزال تواجَه برفض واسع.
إضافةً إلى ما سبق، فمن الأهداف التي سعى الاحتلال إلى تحقيقها أيضًا عبر التجويع إثارةُ الفوضى المجتمعية، إذ حاول الدفع بالسكان إلى الانهيار الأخلاقي، والسطو على المخازن، والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، وخلق حالة انفلات تُبرِّر مزيدًا من التدخلات العسكرية، وتُشرعِن سياساتِ "الضبط" الإسرائيلي.
لكن الفشل كان مصير هذه المحاولة كذلك، إذ اصطدمت بجدار الوعي الجمعي والتماسك المجتمعي، ما اضطر الاحتلال في بعض الحالات إلى تحريك عملاء أو مجموعات تخريبية لتنفيذ هذه الأفعال، أملاً في إثارة عدوى اجتماعية، لكنها جوبهت برفض حاسم من الأهالي.
وفي عمق الأهداف يقف الهدف الأكبر: التهجير وإفراغ القطاع من سكانه. هذا هو الثابت في كل سياسات الاحتلال، والذي يفسِّر حجمَ التدمير المتعمد، وتجفيف الموارد، واستهداف مقومات الحياة اليومية.
أراد الاحتلال تحويل غزة إلى بيئة طاردة، لا تُطاق، ولا تصلح للعيش، كي يُدفع السكان دفعًا إلى مغادرتها، أو على الأقل لتتهيأ لديهم القابلية النفسية لقبول التهجير كخلاص، لكن الرد جاء صادمًا للاحتلال حين عاد عشرات آلاف النازحين من جنوبي القطاع إلى شماليه فور انسحاب قواته من حاجز "نيتساريم"، في مشهد جمعي أعاد تأكيد تمسُّك الأهالي بأرضهم رغم كل محاولات القهر.
تُظهر هذه الوقائع بوضوح أن سلاح التجويع، رغم قسوته، لم ينجح في تحقيق أهدافه السياسية أو الاجتماعية، بل كان عنوانًا لفشل إضافي لمنظومة الاحتلال التي راهنت على كسر الإرادة الفلسطينية، فارتدَّت عليها الخيبة مرارًا.
فشل جديد أمام الإرادة الوطنية
رهن الاحتلال رهاناته الكبرى على نجاح خطته في إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة، عبر السيطرة الكاملة على المساعدات، بوصفها البوابة "الناعمة" التي كان يُفترَض أن تُكمل استخدامه البشع لسلاح التجويع.
وبعد شهور من فرض الحصار، وتجفيف الموارد، ومنع الغذاء والدواء، انتقل إلى ما بدا وكأنه خطة بديلة للتطويع، قوامها توزيع المساعدات عبر تجهيز خطة تستند إلى آليات أمنية خاضعة لإشرافه المباشر، ومغطاة سياسيًّا من الإدارة الأمريكية، تحت شعار "منع وصول المساعدات لـ"حماس"".
لكن الأهداف الحقيقية للخطة لم تكن إنسانية، بل تمثلت بمحاولة تشكيل وعي جمعي جديد يقوم على معادلة "الغذاء مقابل الطاعة"، وتحويل الحاجة إلى وسيلة إذلال، وإعادة فرز المجتمع الفلسطيني عبر أدوات خاضعة للاحتلال.
غير أن المخطط واجه رفضًا ثلاثيَّ الأبعاد شكَّل سدًّا منيعًا أفشل المشروع منذ لحظاته الأولى:
ورُفضت دعوات الانتقال إلى ما سُمي بـ"المخيمات الإنسانية"، والتي لم تكن سوى معسكرات اعتقال جماعية بمسمى إغاثي.
لم يكن هذا الرفض انفعاليًّا، بل وُلد من تجربة تراكمية من الصمود، والوعي الجمعي الذي يرى في كل آلية مشروطة وسيلة لإعادة إنتاج القهر، ويؤمن أنه لا يكن للاحتلال أن يكون وسيطًا إنسانيًّا.
وقوبلت محاولات الاحتلال لتجنيد هذه المؤسسات بالفشل، ولم تتورط أية جهة محلية فاعلة في تبرير أو تمرير التعاون مع الخطة، ما جعل التنفيذ على الأرض مستحيلًا أو عديم الجدوى.
وحذَّرت هذه المنظمات من الطابع الأمني الخفي للخطة، وخطورة استخدامها وسيلةً لدفع السكان إلى تهجير قسري من مناطقهم الأصلية إلى أماكن توزيع المساعدات، تحت الضغط المعيشي. وقد شكَّكت هذه المؤسسات بوضوح في نوايا الخطة، ورأت أنها تفتقر للحد الأدنى من المعايير الإنسانية المقبولة.
نتيجة هذا الرفض المركَّب، ارتدت الخطة على أصحابها، وفشلت في تحقيق أي من أهدافها السياسية أو المجتمعية، بل كرَّست وحدة الموقف الفلسطيني حول رفض تحويل المساعدات إلى أداة إذلال جماعي.
وما عجزت آلة القتل عن تحقيقه، لم تُفلِح فيه أدوات الابتزاز تحت غطاء الإغاثة. وسقط رهان الاحتلال على "الهندسة الناعمة" مجددًا، كما سقط سابقًا رهانه على "الهندسة الخشنة" بالتجويع.
وحين تدخَّلت الإدارة الأمريكية لإنقاذ الخطة، وحاولت إعادةَ تغليفها بوصفها "خطة أمريكية إنسانية"، اصطدمت بالرفض ذاته. فقد حاولت تمرير النسخة المعدَّلة على المؤسسات الدولية، لكنها ووجهت بموقف صارم اضطرها إلى التراجع وإعادة النظر، لتلائم الحد الأدنى من متطلبات المشاركة الدولية، ما لا يتماشى مع منطق الاحتلال، الذي أراد خطةً ذات طابع أمني محض، لا إنساني.
وبناءً عليه، فإن كل المؤشرات، وفي المقدمة منها اضطرار الاحتلال إلى إدخال المساعدات بالآلية السابقة، تؤكد أن ما فشل الاحتلال في تحقيقه بالقوة لم يستطع تحقيقَه بالمراوغة، وأن أهالي غزة، رغم الإنهاك والجوع والدمار، ما زالوا قادرين على إسقاط أعتى الخطط وأشدها قسوة.
لقد شكَّل الوعيُ الوطنيُّ مرةً أخرى جدارَ الصدِّ الأهمَّ في وجه محاولات التدجين والترويض، وأثبت أن الكرامة الجماعية أقوى من الحصار، وأن الشعب الذي واجه المجازر بثبات لا يمكن أن يُهزَم على طاولة المساعدات.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا