Skip to main content

لقاء الشيباني التطبيعي.. خطيئة وليس مجرد خطأ

27 آب 2025
https://qudsn.co/1-470

في الـ19 من الشهر الجاري، قالت وكالة الأنباء السورية "سانا" إن وزير الخارجية والمغتربين السوري أسعد الشيباني "التقى في باريس وفدا إسرائيليا لمناقشة عدد من الملفات المرتبطة بتعزيز الاستقرار في المنطقة والجنوب السوري".

وذكرت الوكالة أن النقاشات التي تمت بوساطة أمريكية تركزت على "خفض التصعيد وعدم التدخل بالشأن السوري الداخلي، والتوصل لتفاهمات تدعم الاستقرار في المنطقة، ومراقبة وقف إطلاق النار في محافظة السويداء"، إضافة لنقاش "إعادة تفعيل اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 بين الجانبين.

كان هذا الإعلان الرسمي الأول عن لقاء مباشر بين الإدارة السورية الجديدة ومسؤولين من "إسرائيل"، بعد أن كان مسؤولون سوريون نفوا عدة مرات حصول لقاءات بين الجانبين، وبعد أن كان الرئيس السوري أحمد الشرع تحدث سابقا -من باريس نفسها- عن لقاءات "غير مباشرة" بين الطرفين.

وبطبيعة الحال، أثار الإعلان عن اللقاء جدلا واسعا بين من رأى فيه تطبيعا مع دولة الاحتلال وبين من رآه خيارا اضطراريا لدمشق لوقف الاعتداءات "الإسرائيلية" عليها. ولذلك، يهمنا في هذه السطور توضيح ونقاش الأمر بناء على المعطيات الموضوعية، السياق والتوقيت والخطاب والصياغات والمضمون وغير ذلك.

في المقام الأول، لا بد من الإشارة إلى أن هذا هو الإعلان الرسمي الأول عن لقاء مباشر بين مسؤولين "إسرائيليين" والقيادة الجديدة في سوريا، التي لا تقيم علاقات رسمية أو مباشرة مع دولة الاحتلال، وبالتالي فهي خطوة تطبيعية واضحة وفق المعايير المعروفة للتطبيع. كما أن الصياغات التي تضمّنها الخبر المشار له في وكالة الأنباء الرسمية يحتوي على قرائن تطبيعية واضحة، تخرج اللقاء عن كونه "مفاوضات بين طرفين متحاربين دون الاعتراف"، كما سيأتي تفصيله.

ومن الواضح أن هذا المكسب الكبير بالنسبة لـ"إسرائيل" كان مجانيا ولم يقابله مكسب واضح لسوريا، بغض النظر عن الموقف المبدئي من التطبيع. كما أنه من الواضح أن خطاب التهدئة، ثم التفاوض غير المباشر والمباشر أيضا، لم يحمِ الأراضي السورية من الاعتداءات "الإسرائيلية"، بل على العكس تماما، كان جَرُّ السلطة الجديدة في دمشق للتفاوض أحد أهداف هذه الاعتداءات المتكررة. والحديث هنا ليس عن رفض التفاوض مع العدو من ناحية مبدئية، ولكن عن كونه تفاوضا من موقف ضعف ودون أوراق قوة من جهة، وبشكل مباشر، في حين كان يكفي التفاوض غير المباشر من جهة ثانية، وبالاعتراف بـ"إسرائيل" من جهة ثالثة.

في السياق والتوقيت، لا ينبغي إغفال حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال على قطاع غزة منذ ما يقرب من سنتين، والتي دفعت دولا عديدة لإعادة النظر في مستوى علاقاتها الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية معها، بينما تذهب دولة مثل سوريا للقاء تطبيعي. وعلى الهامش كذلك، ينبغي الإشارة لتجنب القيادة السورية الجديدة بوضوح اتخاذ أي موقف علني من هذه الإبادة ولو ببيانات بروتوكولية. حتى تصريحات نتنياهو عن "إسرائيل الكبرى" (التي تعني سوريا مباشرة) لم يصدر موقف سوري مندد بها، إلا بموقف جماعي لـ31 دولة عربية ومسلمة بعد اجتماع وبيان مشترك شاركت به دمشق.

والسياق السوري لا يقل أهمية عما سبق، حيث ما زال احتلال مناطق جديدة (غير الجولان) قائما، فضلا عن تحريض حكومة نتنياهو على الشرع وحكومته، ودعوات تقسيم سوريا العلنية، وادعاء حماية الدروز في السويداء. بل ودخل عدد من المستوطنين للجنوب السوري في نفس اليوم الذي عقد فيه لقاء باريس.

وهنا تتبدى الخطيئة الكبرى، من زاوية وطنية سورية محضة، في اللقاء الأخير، حيث تناول الشيباني -وفق البيان والتصريحات اللاحقة- مع الجانب "الإسرائيلي" شؤونا سورية داخلية؛ من قبيل اتفاق السويداء وإدخال المساعدات. ويتسق مع ذلك الصياغاتُ التي تحدثت عن اللقاء بدءا من "إسرائيل" (بدون معقفين طبعا) وليس دولة الاحتلال، مرورا بالنقاش حول "تعزيز الاستقرار في المنطقة"، والحديث عن "خفض التصعيد" وليس "وقف الاعتداءات"، وكأن هناك اشتباكا بين الجانبين وليس مجرد عدوان "إسرائيلي"، وليس انتهاء بـ"مراقبة وقف إطلاق النار في السويداء".

كما من المهم الإشارة للثقة المبالغ بها في "الوسيط" الأمريكي، الذي بدأ مسار رفع العقوبات عن سوريا، لكنه نفسه -وتحديدا إدارة ترامب- الذي اعترف لـ"إسرائيل" بضم الجولان، وأشار خلال الحملة الانتخابية الأخيرة إلى "مساحة إسرائيل الصغيرة التي ينبغي توسيعها".

قبل كل هذا وما يبدو أنه سببه الرئيس، ثمة إغفال واضح للمتغيرات المتعلقة بالكيان بعد السابع من أكتوبر 2023، حيث تبنت حكومة نتنياهو نظرية أمنية جديدة تسعى لإخضاع وإضعاف وتقسيم كامل المنطقة وليس فقط غزة أو فلسطين، وليس فقط مواجهة التهديدات القائمة وإنما وأد أي تهديد مستقبلي محتمل من أي طرف، وذلك الدافع الأساسي للعدوان على سوريا التي لا تمثل حاليا أي تهديد لها.

في المحصلة، فنقل العلاقة مع دولة الاحتلال إلى مسار رسمي وعلني ومباشر تطبيع واضح ومدان، لا سيما وأنه لا يقوم على أساس عدم الاعتراف، فالتصريحات والصياغات تحمل اعترافا صريحا وتعاملا وتعاونا ورغبة في إبرام تفاهمات. كما أنه استجابة واضحة لاستدراج الاحتلال للقيادة السورية لمربع التفاوض من منطق ضعف، وبالتأكيد فهو لا يحقق أي مصلحة جوهرية لسوريا بل يفرض عليها تطبيعا مجانيا، ويقحم "إسرائيل" رسميا كطرف معنيٍّ بـ"مراقبة تطبيق اتفاق السويداء" وهو شأن داخلي وسيادي، فضلا عن مخاطر هذا المسار في نهاياته المتوقعة في ظل الرغبات/الضغوط الأمريكية والعربية والإقليمية.

والحقيقة الساطعة أن إجبار "إسرائيل" على وقف اعتداءاتها وإعادتها لاتفاق فض الاشتباك (فضلا عن مسألة الجولان السابقة على الاعتداءات الأخيرة) لا يأتي بالتفاوض معها، لأن التفاوض يعني التوصل لحلول وسط ترضي الطرفين أو إقامة العلاقة واستدامة التفاوض بالحد الأدنى، بينما الرد على الاعتداءات مسار آخر يقوم على خطوات سياسية وقانونية وعسكرية وأمنية مختلفة، تتمسك بالحقوق وترفض الاعتراف وتسعى لحشد الدعم واستجلاب الضغط على "إسرائيل" فضلا عن استجماع أوراق القوة على المدى البعيد. 

وعليه، فاللقاء من حيث التوقيت والسياق والمضمون والأسلوب وتوخي المصلحة السورية الخاصة والموقف العربي العام؛ ليس مجرد خطأ وإنما خطيئة بل خطايا، ينبغي وقفها وإعادة النظر فيها قبل أن تصل مرحلة اللاعودة ضمن قطار التطبيع.

للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا