
تتسع الفجوة بين السلطة والمقاومة في فلسطين، ولا أقول بين فتح وحماس، ففتح ليست على قلب رجل واحد، وإن كانت غالبيتها منساقة وراء القائد الأوحد.. وحماس، هي قلب المقاومة وعمودها الفقري، وإن كانت لا تختزل المقاومة، لا من حيث فصائلها، ولا من حيث أدواتها.
فجوةٌ كلما اتسعت، تعقدت فرص التلاقي وتلاشت، وتعمق القطع والقطيعة، وزادت خطورتها على المديين المباشر والمتوسط، تماما كالمقص الذي كلما تباعدت المسافة بين شفرتيه أو نصليه، زادت خطورته وتعاظمت قدرته على القص والقطع.
من هجر المقاومة زمن أوسلو وما بعده، إلى هجائها مع بداية ولاية الرئيس المنتهية ولايته. في زمن الراحل ياسر عرفات، لم يكن الطلاق مع المقاومة بائنا بينونة كبرى، كان طلاقا رجعيا، يحتمل العودة إلى بعض ممارساتها وتقاليدها، حدث ذلك زمن انتفاضة النفق والانتفاضة الثانية على وجه الخصوص.
في زمن الرئيس محمود عباس، لم يعد هذا خيارا، فثمة موقف "عقائدي" مناهض للمقاومة، وأجزم بكل أشكالها، ذلك أن الدعوات المتكررة لمقاومة شعبية سلمية، لم يكن المقصود بها ومنها سوى ذر الرماد في العيون.
فلم نرَ منذ انطلاق الدعوات لتصعيدها قبل سنوات طوال، أي فعل شعبي مقاوم (سلميا)، لا في رام الله ولا في محيطها، لم تشَد الرحال إلى المسجد الأقصى حتى لأداء صلوات الجمع والتراويح. سكينة الموت وسكتته، هما ما أريد لشعب الضفة الغربية أن يعيش فصولهما، فذلك أسلم الخيارات وأقلها كلفة على الطبقة المتنفذة في المنظمة وفتح والسلطة.
قبل طوفان الأقصى، وبالأخص بعده، انتقل الموقف "العقائدي" المناوئ للمقاومة من القول إلى الفعل، وانتقلت السلطة من موقع شيطنة المقاومة والسخرية من صواريخها العبثية، إلى خندق التصدي لها، لا سيما بعد أن تناسلت ظاهرة الكتائب والسرايا و"العرين" في عدد من مدن الضفة كنابلس وجنين وطولكرم، وصولا إلى أريحا، البلدة المنسية، التي لم يكن يؤتى على ذكرها في الأخبار إلا بعد صعود "جيل الألفية"، وقيامه بدور ريادي من خارج هندسات توني بلير وكيت دايتون.
تحولت السلطة إلى شريك للاحتلال، و"طليعة مقاتلة" نيابة عنه، وتبادلت معه الأدوار، لا سيما في جنين البلدة والمخيم. هنا ستظهر السلطة جدية التزامها بموجبات التنسيق، وتدخل امتحان "الجدارة"، وعندما كانت تصطدم بواقع أنها أضعف من أن تتمكن من اجتثاث العمل المقاوم، كانت المهمة تنتقل صبيحة اليوم التالي إلى "جيش الدفاع".
كل هذا معروف، ويندرج في سياق مكرور القول، لكن الموقف أخذ يتطور على وقع الجدل الدائر حول غزة و"يومها التالي"، وجرت أبشع عمليات التوظيف الانتهازي لمعاناة أهل القطاع وكارثتهم الإنسانية، للبرهنة على صواب خيار السلطة، وبؤس خيار المقاومة، مع أن السلطة لا تجرؤ على ذكر أي إنجاز يعتد به على طريق الحرية والاستقلال، ولا تستطيع أن تأتي بشاهد واحد، أو واقعة واحدة، على أن سلاحها "الشرعي" قد حمى أحدا، حتى في قلب عاصمتها المؤقتة، التي تتعرض، لحظة كتابة هذا المقال، لاجتياح عسكري، تقول إسرائيل إنه غير مسبوق.
بضاعة مسمومة
الناطقون بلسان السلطة، في رام الله وبيروت والقاهرة، في سباق محموم مع الزمن، لعرض بضاعتهم المسمومة. المخرج من استعصاء غزة بالنسبة لهم واضح وجاهز: على حماس أن تسلم سلاحها للسلطة، وأن تنضوي تحت مظلتها، بعد أن تطهر نفسها من "رجس" المقاومة والأفكار "الإسلاموية المقامرة"، وتفك أي ارتباط لها بأي من حلفائها: دول وحركات وجماعات، وأن تعيد إنتاج نفسها على صورة فتح وشاكلتها، شريطة أن تكون فتح في طبعتها الأخيرة، الراهنة، وليس فتح زمن العاصفة، شعلة الكفاح المسلح الفلسطيني.
يتناسى هؤلاء المتذاكون أن مشروع اليمين الفاشي في إسرائيل لا يريدهم، ولا يريد سلطتهم، ليس في غزة فحسب، وإنما في الضفة الغربية كذلك، وأن كل ما فعلوه للنجاح في اختبار "الجدارة" و"الاستحقاق"، لن يشفع لهم عند حكومة اليمين الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل.
ولكنهم مع ذلك، يستمرون في بيع الوهم، وترويج الأكاذيب عن مخارج وحلول "وطنية"، دون أن يرف لهم جفن، ودون أن يكبدوا أنفسهم عناء البرهنة بأن قبول حماس بأفكارهم، سيوقف المقتلة، ويمنع المزيد من الجرائم، وينقذ غزة وأهلها.
إنهم منخرطون في لعبة "الضغوط القصوى"، متعددة الأطراف والأدوات، التي يراد بها إحراج المقاومة وإخراجها من مسرح السياسة والجغرافيا والتاريخ، إن أمكن لهم ذلك.
ليس صدفة أن الدعوة لإجراء انتخابات مجلس وطني فلسطيني جديد، مقدمة على الانتخابات الرئاسية والتشريعية، جاءت مشفوعة بشرط القبول بأوسلو والتزاماته، بما فيها التنسيق الأمني، وتسليم السلاح و"تطليق المقاومة بالثلاث".
ليس صدفة أن يتحدث نائب الرئيس الفلسطيني عن شرط تخلي حماس عن فكرها ومواقفها وسياساتها، لتعود إلى "بيت الطاعة الشرعي"، عودة الابن الضال. ليس صدفة أن يجري التخطيط لإعادة صياغة المنظمة، من حاضنة للتعددية والتنوع الفلسطيني، ومن إطار جامع لقوى المقاومة، إلى كيان "ذي لون واحد"، ثبت بالتجربة عقم خياراته، وانسداد آفاقه، وباءت بالفشل كل محاولات تسويقه وتسويغه.
لبنان، حيث تكتمل الصورة
في لبنان، تكتمل صورة الهجمة على سلاح المقاومة. زيارة عباس، وتعهداته التي قطعها على نفسه، رغم إدراكه أنه غير قادر على تنفيذها، بدلالة المسرحية الرديئة في برج البراجنة قبل أيام، إنما تندرج في سياق الضغط على سلاحي المقاومة الفلسطينية، واللبنانية استتباعا.
أحد المتفذلكين من الناطقين الجدد باسم السلطة، من ذوي المرجعيات اليسارية المهزومة، خرج علينا بالأمس، ليترحم على وضعية المخيمات قبل اتفاق القاهرة وانتقال المقاومة الفلسطينية إلى لبنان، معتبرا أن الأربعين عاما، أو الخمسين عاما الفائتة، كانت بمثابة "تمرد مخيماتي" على شرعية الدولة وخروجا على كنفها.
نسي محدثنا ما عانته المخيمات زمن "المكتب الثاني"، وما كابدته زمن الحرب الأهلية وما بعدها، من تل الزعتر إلى صبرا وشاتيلا، نسي أو تناسى، الحالة المزرية التي يعيشها اللاجئ الفلسطيني الممنوع من مزاولة 72 وظيفة، أو ترميم سطح "الزينكو" الذي يغطي به منزله.
كم بدا سعيدا بلقاء الشرعيتين، واتفاقهما على تجريد المخيمات من سلاحها، كم كان مضللاً، عندما قال بكل صلف، إن المقاومة ليست سوى جيوب معزولة في مخيمات لبنان، لا شرعية لها ولا شعبية، فيما القاصي والداني يعرف تمام المعرفة أحجام القوى وتوازناتها، ليس في مخيمات لبنان فحسب، بل وفي الداخل وعموم الشتات.
توزيع الدم على القبائل
يعني ذلك، من ضمن ما يعني، أننا كلما أكثرنا من نداءات ومبادرات المصالحة ووحدة الصف واستعادة الوحدة الوطنية، اتسعت الفجوة وضاقت فرص التلاقي، شأن النظام الفلسطيني في ذلك، شأن النظام العربي، الذي كلما دعونا له بالفاعلية والتوحد والتضامن، ازداد هزالا وانقساما، وانعدام فائدة وفاعلية.
وإذا كان لا بد من إلقاء اللائمة على أحد فيما آلت إليه حال النظام الفلسطيني، فإنما يتعين التأشير على المتسبب باتساع الفجوة، وانعدام فرص المصالحة، وأعني به القيادة المتنفذة في فتح والسلطة والمنظمة.
هنا، سينبري نفر من الفلسطينيين، أغلبهم من كوادر فتح غير الراضين عن مآلات الحركة ومصائرها، وأفصحهم لسانا، بقايا يساريين اختاروا التماهي مع السلطة وفقا لمقتضيات الحال، فنراهم يبادرون إلى توزيع دم الانقسام على القبائل الفلسطينية، وغالبا بالتساوي، ويصرون على المضي إلى أبد الآبدين في توجيه نداءات المصالحة وتدبيج عرائضها وإطلاق مبادراتها.
لهذا النفر نقول: كونوا صرحاء مع أنفسكم وتاريخكم، ولتسقط روابط السلطة وقنوات الرواتب، فأمام ما يجري في غزة، تبدو مخجلة ومعيبة، حسابات من هذا النوع. وفروا جهودكم وكفوا عن "النفخ في قربة مثقوبة"، فما لضربٍ بميت إيلام، ولو أن نصف الجهد المبذول في تدبيج هذه النداءات والبيانات، قد صرف على تعبئة وحشد الشعب الفلسطيني، وتكتيل قواه الحية وفصائله المقاومة، ومؤتمراته الشعبية ومنظماته النقابية، في جبهة وطنية عريضة، لكان ذلك أجدى وأثمر.
كفوا عن ترويج الأوهام، فإن لم تكونوا قادرين على إطلاق انتفاضة في رام الله ضد تماهي السلطة مع مخرجات الحل الإسرائيلي، وإن لم تكونوا قادرين على إرغامها على التراجع عن مواقفها وسياساتها التفتيتية- التفريطية، فلا أقل من تسمية الأشياء بأسمائها.. لا أقل من الطرق على جدران الخزان.. لا أقل من الذهاب إلى ما ينفع الناس ويبقى في الأرض، بدل تخديرهم بوعود زائفة، ودغدغة مشاعرهم التواقة للوحدة والمصالحة.
لقد بلغت الحركة الوطنية الفلسطينية، بجناحيها، لحظة "مفاصلة تاريخية"، شأن التجربة الفلسطينية في ذلك، شأن مختلف تجارب حركات التحرر الوطني، حيث يختار فريق التساوق مع المحتل والغازي، وتختار الغالبية طريق الصمود والثبات والمقاومة.
فلا تنتظروا يقظة هؤلاء، فقد يبقون في برجهم العاجي، ولا أقول في كهفهم، حتى لا نسيء للفتية الذين آووا إلى كهفهم، سنين عددا.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا